من نافلة القول الحديث عن عداء قوي الشوارعيزم المهيمنة علي مشهد الحياة في مصر اليوم, مع المشروع السياسي والوطني الذي يحمل اسم الزعيم جمال عبد الناصر, والذي تواصلت معركتها معه حتي اللحظة الراهنة علي الرغم من رحيله الي رحاب الله قبل تسعة وثلاثين عاما بالتمام والكمال.
موجات تلو موجات من التهجم والهجوم واصبة محاولاتها لوصم خيارات الرجل السياسية, وفكره الاجتماعي, مستمدة المدد من بعض القوي الإقليمية والدولية, ومتعدية بالقول والإشارة والتشويه والتزييف علي كل منجزه الوطني والعروبي, عامدة الي ضرب كل المؤسسات والشخوص الذين قام عليهم نظام عبد الناصر وصولا حتي الي جهاز الأمن القومي, متخذة من واقعة محدودة تتعلق بالمرحوم المشير عبد الحكيم عامر تم حساب الضالعين فيها وقتها متكأ لمحاولات إنكار الدور البطولي والوطني الذي اضطلع به ذلك الجهاز لحماية البلد ونظامها.
ومن نافلة القول ـ كذلك ـ الاشارة الي تناقض المصالح التي يعبر عنها تحالف الشوارعيزم بعناصره المعروفة( رجال الأعمال المتمولون ورجال الحكومة المتنفذون وارهابيو الصوت والقلم من الإعلاميين المأجورين), في مشهد الحياة اليوم, مع تلك التي نذر مشروع ثورة يوليو جل جهده للدفاع عنها وتعظيمها, وأعني مصالح المستضعفين, والبسطاء, ملح الأرض, ووقود الحياة.
ولست في وارد استعراض وقائع الحرب الإجرامية التي شنتها قوي الشوارعيزم( سواء في أطوار تكوينها الأولي في السبعينيات, أو في لحظة تمكينها الكبري التي بلغت أوج سطوعها اليوم) علي كل مايمثله جمال عبد الناصر من منظومة قيم وأفكار, ومبادئ تثبت الوقائع كل يوم أنها كانت الأكثر بلورة لمعني الوطنية المصرية, والأكثر إقرارا لثوابت الأمن القومي والأكثر انتصارا للانتماءات المصرية الصحيحة عربيا وإفريقيا.
كما لست في وارد دخول ساحة الاستقطابات بين ثنائيات بلهاء مثل( مصر الجمهورية) في مواجهة( مصر الملكية), أو( عهد عبد الناصر) في مواجهة( عهد السادات), اذ إن التاريخ ينتصر كل يوم للرئيس عبد الناصر, وعلي نحو لاتحتاج ذكري الرجل ـ فيه ـ الي محام يترافع أو الي فارس حارس يدافع.
ولكنني ـ اليوم ـ في وارد قراءة عمل تليفزيوني أظنه الأكثر موضوعية في تناول سيرة الرجل منذ رحيله, وبالذات في سياق وإطار مايسمي الإعلام الرسمي أو الحكومي. فقد أذاعت القناة الثانية من تليفزيون الدولة, الساعة الثالثة من بعد ظهر يوم الاثنين28 سبتمبر الفائت فيلما وثائقيا من انتاج قطاع الأخبار التابع لاتحاد الاذاعة والتليفزيون أعده الاستاذان عاطف حسن وعبد الغفار بيومي, واخرجه الاستاذ عزت الإمام.
وبقول واحد كان الفيلم التسجيلي أول خروج عن ذلك النسق الاحتفالي الذي يتم به التعرض لذكري الثورة أو زعيمها في العقود الأربعة التي تلت رحيل جمال, والذي كان لايتعدي معني سد الخانة أو أداء الواجب, أو التوقيع بالحضور في دفتر التظاهر بالوفاء والتحلي بمكارم الأخلاق!
إذ للمرة الأولي أجدني أمام نص( سياسي).. أكرر( سياسي) يرافق اللقطات التسجيلية المختارة بعناية ودقة.
وهذا النص السياسي هو المأثرة الكبري للفيلم الوثائقي الذي بثه التليفزيون الحكومي, وجعل منه اقترابا مغايرا لكل ما اعتدناه في السنوات السابقة من نصوص احتفالية غلبت عليها ثقافة اللكلكة, والرغبة المرتبكة في عبور المناسبة من دون التورط في إعلان موقف أو تسجيل انحياز. ووجدتني أدون انطباعات عن عشرات الملفات التي تناولها الفيلم الوثائقي, والتي مثلت بالنسبة لي نقاط تحول مفصلية عن النهج الإعلامي الحكومي التقليدي في تناول الثورة وجمال.
أحدها ـ من دون حصر ـ هو مسألة التعرض لمساندة عبد الناصر ثورة اليمن علي حكم أسرة الإمام حميد الدين.
إذ للمرة الأول أجد خطاب الإعلام المصري, وقد تخلي عن اللهجة الاعتذارية التي أجبر عليها لسنوات, وبدا متحررا من( عقدة الذنب) التي حاولت أبواق إعلامية إقليمية ومصرية, أن تخلقها وتعظم تأثيرها ـ عبر عهود وعقود عن ملف الوجود المصري في اليمن, وهي مسألة أظن الوقت حان لشرحها وتضويئها في أنظار أجيال من البنات والأولاد يخرجون إلي الحياة اليوم, وقد انمحي من أدمغتهم أو وجداناتهم أي ارتباط بمعني الوطنية والانتماء, لأن حملات الكراهية التي استهدفت عبد الناصر والثورة أحدثت ذلك القطع أو السكتة التي منعت تواصل الناس مع السياقات التاريخية الطبيعية, أو مع عناصر الثقافة الوطنية الصحيحة التي تتيح لهم بناء مواقفهم, وهندسة انحيازاتهم وفقا لمعطياتها.
كان موضوع الوجود المصري في اليمن( بداية الستينيات الي أواسطها من ثورة اليمن الي اتفاقية جدة) واحدا من المسائل التي تعرضت الي تنميط شديد, والي إعادة صياغة عسفية مرة, ومرتين, وعشرا, وكان ضمن ما ألصق به تنسيب هزيمة1967 إليه, أو القول بأنه كان سببا مباشرا لغياب الجيش في قفار وجبال جنوب الجزيرة العربية بما أثر علي القوة القتالية لمصر إبان أزمة( مايو ـ يونيو ـ1967).
وبالقطع لم يك حجم القوات المصرية الموجودة في اليمن بذلك التأثير المبالغ فيه, كما أنها لم تكن تلعب أو تلهو في مدخل البحر الأحمر الجنوبي, وإنما كانت تحمي مصالح مصرية, قبل أن تنتصر لشعب عربي شقيق وحبيب.
مجال الأمن القومي المصري ينبغي التحقق من حمايته بالنفوذ أو بالوجود, وهكذا فعل عبد الناصر حين تواجد في اليمن في وقت احتل فيه الاستعمار البريطاني عدن والمحميات, وفي وقت ناصبت فيه بعض الأنظمة العربية ثورة يوليو العداء, واشتركت في أحلاف اقليمية لحصارها, بداية من حلف بغداد الي الحلف الاسلامي, وفي وقت ـ كذلك ـ وجهت فيه الي مصر احدي عشرة اذاعة سرية في محاولة لتقويض نظام الحكم.
وضمن الترهات التي طرحت في اطار تنميط فكرة الوجود المصري في اليمن ووصمه مسألة الحديث عن أن عبد الناصر أضاع الغطاء الذهبي للعملة المصرية في استمالة القبائل اليمنية.
والحقيقة أن كل مليم دفعته مصر للتخديم علي وجودها في اليمن, ونصرة شعبها في مواجهة قوي التخلف كان استثمارا عالي العائد للمصالح المصرية الوطنية. وبحجج مشابهة يمكن الرد علي بنود خطاب الاستعباط السياسي الذي تشيعه وتذيعه قوي الشوارعيزم غامزة في قناة وجود مصر في إفريقيا زمن الرئيس عبد الناصر, ووصفه بأنه كان محض محاولة لبناء زعامة أو تأسيس إمبراطورية.
إذ إن مثل هذا الخطاب هو سخف وتزوير في المطلق, لأننا ـ اليوم بالذات ـ يجب أن نفهم أن ذلك الوجود كان بناء وصونا لمصالح بلدنا, وأن غيابه هو ما اصطلح علي تسميته في الصحف والأقنية ـ هذه الأيام ـ( غياب الدور المصري).
الدور المصري هو ما كان الرئيس عبد الناصر يفعله عربيا وإفريقيا لحماية محددات الأمن القومي في البحر الأحمر وحوض النيل. وصرف فلوس لبناء أواصر علاقة, أو تشييد جسور تعاون هنا أو هناك ليس إضاعة لأموال البلد, أو بعثرتها في الفضاء هباء منثورا, ولكنه انحياز لمصالح مصر, وتكريس لها, وهو ما اذا انسحبت من مجال دعمه وصونه ستكون تركت مساحات من الخلاء السياسي تتقدم فيها إسرائيل أحيانا, وبعض القوي الشرق أوسطية أحيانا أخري.
نهايته..
أعود الي الفيلم الوثائقي الذي أذاعته القناة الثانية في التليفزيون الحكومي منذ أسبوعين, فأقول إن أهمية مثل تلك الأعمال هو الإسهام ـ بمقدار معتبر من التأثير ـ في تشكيل وعي الشباب والتعليم والتنشئة السياسيين في البلد, وإعادة بناء ماتهدم من الشخصية الوطنية, تحت وطأة حملات الكراهية ومحاولات اطاحة التأثير الذي خلفه زعيم بحجم جمال عبد الناصر, قاد ثورة بحجم ثورة يوليو. علي أنني لا أود أن يقتصر عرض أو إنتاج مثل تلك الأفلام علي مناسبة, أو ذكري ولكنني أبغي ان يكون حضورا مستمرا متواصلا, يستثمر كنوز الأرشيف المصري أو يعيد اكتشافها, أو يلحق بها قبل أن تختفي في ظروف غامضة, ليبني قاعدة واسعة من التفاهم والتوافق حول قيم وطنية وقومية لاينبغي لنا أن نختلف حولها أو نجعلها ساحة للشجار والنقار, والمناورة والمداورة بغية تسجيل الابناط, وإحراز الأهداف.
أريد الشباب ان يعلم ـ من خلال هكذا وثائق ـ شيئا عن الدور المصري مع جوليوس نيريري( تنزانيا) وجوموكينياتا( كينيا) وكوامي نكروما( غانا) وأحمد سيكو توري( غينيا) والامبراطور هيلاسيلاسي( اثيوبيا).
أريد الشباب أن يعلم أن مساندة الثورة في الجزائر كانت جزءا من صراع بلدنا مع الاستعمار الفرنسي في المنطقة, وأن دعمنا لثورة الفاتح لم يك عداء لملكية السنوسية بمقدار ما كان تأمينا لظهر مصر إزاء طعنات وطلعات الطيران المساند لإسرائيل من قاعدتي( هويلس) و(العضم) فوق الأرض الليبية, وأن الدور المصري مع السودان هو الذي مكن مصر أن تنقل بعض كلياتها العسكرية ـ ومنها الكلية الحربية العريقة زمن حرب الاستنزاف الي أراضي السودان, حتي لاتكون هدفا لغارات العمق التي تواصلت قبيل بناء حائط الصواريخ الشهير. أريد أفلاما وثائقية تشرح الدور المصري في تحقيق استقلال الصومال.
نبغي خطابا يعلم أبناءنا عدم التهاون أو الاستهانة بانتمائهم العربي أو الافريقي, وألا يتصوروا أنفسهم جزءا من أمريكا لمجرد أنهم تآمركوا أو مشوا علي صراط أسلوب حياةStyleoflife أمريكي.
فأولا لن يقبل الأمريكيون ان يكونواجزءا منهم, وثانيا: لأنهم في الطريق الي توخي الانتماء إلي كل ماهو أمريكي وغربي, سوف يفقدون انتماءهم الي أنفسهم كعرب وأفارقة.
.......................
كان الفيلم التليفزيوني الوثائقي في ذكري رحيل جمال عبد الناصر عملا أعاد الاعتبار الي الاعلام الحكومي بالتزامه الموضوعية في تلك النقطة علي الأقل, وكان ـ كذلك ـ مناسبة نستقطر فيها الفكر والعبر.
وسلام علي جمال عبد الناصر يوم ولد.. ويوم مات.. ويوم يبعث حيا.
الاهرام في 13/10/2009
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق