عبد الله العنزي
لم تكن الديمقراطية التي زعم المحتلون إشاعتها في بلاد الرافدين إلا صناعةً مُقلَدةً مُزيَّفةً كسائر السِلع البخسة الرائجة في عموم الأسواق، والتي لا تخضع لمعايير الإنتاج الفنية والصناعية، وهي بالتالي تفتقر إلى المواصفات القياسية الدولية أو المحلية.
ومن المعلوم أن "الديمقراطية" بمفهومها المعاصر: هي منظومة فكرية وسلوكية، أو نظرية تتشكل من قيم ومبادئ تُتَرجم إلى ممارسات فعلية تنتهي بإيجاد دوائر ومؤسسات تشريعية ورقابية وتنفيذية، لتحمل على عاتقها إدارة البلاد وتحقيق مصالحها الإستراتيجية، والمحافظة على القانون والحريات والحقوق المدنية والاجتماعية، وغير ذلك مما هو معروف.
ومن المعلوم أيضاً أن انتخابات الجماهير لممثليهم في المجالس المحلية أو النيابية هي ليست كل فصول النظرية الديمقراطية، وإنما هي مظهر من مظاهرها، مما يعني أن اجتزاء هذا المظهر وإبرازه إعلامياً إنما هو أمر يقصد به الإيهام بالتغيير، بغية التأثير على الرأي العام، وتضليل المتابعين، لتبرير غزو العراق واحتلاله خلافاً للإرادة الدولية وقوانين مجلس الأمن والأمم المتحدة.
ولأن الأمريكان المصدرين للبلاد فكرة "الديمقراطية" يدركون جيداً أنها "لعبة" لو أطلقت كما هي وفق السياقات والمعايير المتفق عليها عالمياً؛ لا يمكنهم ضمان الاستمرار في تنفيذ مشروعهم الذي أطلقوا عليه بـ"الشرق الأوسط الجديد" والرامي إلى تقسيم العراق ودول المنطقة، والذي لأجله جرى غزو العراق واحتلاله بالتحالف مع بعض الدول الإقليمية، وبتجنيد بعض الأحزاب الطائفية والقوى النفعية والانتهازية.
بمعنى أن الولايات المتحدة - وهي الدولة المهيمنة والمحتلة للعراق – لا يمكن أن تمنح امتياز إدارة البلاد لمن يُعارض مشروعها ذاك، أو يعوِّق تنفيذه بقدرٍ مُؤثّر لا يمكن مغالبته، وبالتالي فإن "اللعبةٍ الديمقراطيةٍ" التي جاءوا بها لابد وأن تكون لعبة مزيفة، تخضع لسيطرتهم وتحكُّمهم لتفرز في حصيلتها ونتائجها "الملفقة" القوى التي تخضع لإرادتهم وتخدم مشروعهم، وبغض النظر عن الموقف من هذه الانتخابات فإن هذا ببساطة هو ما يعلل غض الطرف عن عمليات التزوير الكبيرة والهائلة لنتائجها، لصالح القوى التي زج بها المحتلون إلى الساحة السياسية في العراق، فضلاً عما تقوم به هذه القوى الخاضعة لإرادة الاحتلال من عزل مناطق محددة من البلاد وتعويق مشاركة أبناءها في الإدلاء بأصواتهم أو عدم احتسابها، كي لا تختل المعادلة التي وضعها المحتلون وينقلب السحر على الساحر. ويجرى كل هذا في وضح النهار مع صمت معظم الهيئات والمنظمات الدولية بما فيها الأمم المتحدة، في الوقت الذي تدخلت فيه هذه الهيئات والمنظمات في انتخابات دول عديدة في العالم، وأسفر هذا التدخل عن تغيير أو إلغاء نتائج التصويت في تلك البلدان، ولكن عندما كان ذلك لا يتعارض مع مصالح القوى العالمية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد عمدت الإدارة الأمريكية ومن خلال حاكمها المدني بول بريمر بتقنين قوانين الاجتثاث، وتأسيس الهيئات المنفذة له، للإطاحة بالخصوم السياسيين الذين لا تتفق إرادتهم مع مشروع الاحتلال، ومنعهم من الوصول إلى المجالس المحلية والنيابية عن طريق "اللعبة الديمقراطية" المزعومة، والتقى مطلب المحتلين هذا مع روح الثأر والانتقام لدى الأحزاب والقوى المتحالفة مع الاحتلال والممكنة من حكم البلاد، فأخذت بتصفية خصومها تحت طائلة قوانين الاجتثاث"، وبدوافع اثنيه وطائفية وحزبية.
وما يجري اليوم من إقصاء وإبعاد شمل شخوصاً وكيانات بعينها بلغ مجموعها خمس عشرة قائمة بعضهم ملتحق بالعملية السياسية، وآخرون ممن يرومون الدخول والمشاركة فيها إنما هو تحكُّم مسبق بنتائج ما يسمى بـ"الانتخابات"، يصب في سياق تكريس المصالح الفئوية والطائفية، وضمان إنفاذ مشروع الاحتلال، وعليه فأن هذه الديمقراطية التي زعموا هي عرجاء مزيفة، لا تثمر إلا ما يغذي القائمين عليها، ويحقق مصالحهم، ومن هنا كان موقف القوى الرافضة للعملية السياسية في ظل الاحتلال لا يزال ثابتاً رغم كل التجاذبات والمزايدات السياسية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق