الاثنين، 23 نوفمبر 2009

"ثرثرة على حواف حاوية زبالة"


كتب : عريب الرنتاوي

لا تبعد "حاويات القمامة" عن بوابة منزلي سوى أمتار معدودات، أحرص أن أبقيها في منتصف المسافة الفاصلة بين منزلي والمنزل المجاور، برغم المحاولات المتكررة لجاري الذي لا أعرف اسما له أو كنية، دفعها بعيدا عنه ما أمكن، والغريب في الأمر، أن هذه "الحاويات" على ما فيها وما حولها من "مناظر" مؤذية، تحولت مع الأيام، إلى مسرح تروى من على خشبته، قصص وحكايات.
ما زلت على عادتي، استيقظ باكرا كل يوم ، وأهرع من سريري إلى "البرندة"، تماما مثلما كانت تفعل والدتي التي ما أن تستيقظ من نومها، حتى تخرج لاستقبال خيوط الشمس الأولى، مرددة "الشهادتين" بصوت مرتفع، وهو طقس لم تتوقف عن ممارسته حتى يومها الحاضر...حاويات القمامة الثلاث، هنّ أول ما يقع ناظري عليه صباحا، وقد طفحن بكل ما هب ودب وفاض عن سعتهن المقدرة.
قبل أن تأتي سيارة الأمانة لجمع القمامة، تكون الحاويات قد خضعت لعمليات تفتيش متتالية، يقوم بها رجال وفتيان، نساء وفتيات، لا فرق، يطوفون بالحاويات بحثا عمّا يمكن أن يباع ويشترى، هذا يحمل كيسا مملوءة بالعلب الفارغة على كتفه، وآخر يأتكي ممتطيا صهوة "بكب" آيل للسقوط والتفكك، وثالث يأتي صحبة أطفاله أو زوجته، الكل يبحث عمّا يمكن أن يباع أو يشترى من نفايات الحي، وأصدقكم القول أن ثمة "بيزنيس" نشط في هذا المجال، لم يتأثر بتباطوء النمو ولا تراجع معدل المساعدات ولا ارتفاع نسبة العجز في موازنة العام 2010، الحركة على الحاويات لا تتوقف، ودائما هناك شيء يمكن انتشاله من بين الأكياس أو من قلبها.
لا يوجد منزل واحد في حينا، إلا وبه "شغّالة"، غالبيتهن العظمى من الأندونيسييات، ولأنه محظور على "الشغّالات" التواصل والاجتماع حول فنجان قهوة أو أرجيلة، فإن "حاويات الزبالة" هي المكان الوحيد الذي تقتطعن فسحة من الوقت لتبادل أحاديث مقتضبة حوله، لا أدري عمّا تدور، ولكن بالإمكان نسج سيناريوهات كاملة عمّا تتضمنه من شكوى وألم وحنين للمنزل والعائلة، ولست أبالغ قلت، أن لحظة "كب الزبالة" هي أكثر اللحظات إمتاعا وبهجة في نهارات "الشغّالات" الطويلة جدا، ولو كنت روائيا أو مخرجا سينمائيا لكتبت رواية أو أخرجت فيلما بعنوان "ثرثرة على حواف حاوية زبالة".
يكشف التعامل مع "حاويات الزبالة" جوانب كثيرة من شخصياتنا وأخلاقياتنا، لكأنها أصبحت محكا او حقل اختبار، فثمة بون شاسع بين مواطنين يخرجون أكياس نفاياتهم المغلقة بإحكام من صناديق سياراتهم، ويلقون بها في "الحاوية"، وآخرين يقذفون بأكياسهم من شرفات منازلهم القريبة جدا، أو "يتعاجزون" عن إلقائها داخل الحاوية، فيكتفون بوضعها في جوارها، تاركين لقطط الحي، أمر العبث بها وتمزيق أحشائها، وتوزيع مقتنياتها على الحي بأكمله.
وإذ وجدت في نفسي "الجرأة" دائما على مواجهة هؤلاء وتحذيرهم من تكرار أفعالهم المشينة تحت طائلة الشكوى للأمانة والشرطة، فقد تبين لي أنني لا أمتلك "جرأة" مماثلة على توجيه الشكر لمن يحملون نفاياتهم في سياراتهم، ويقطعون بها مسافة طويلة لإلقائها في مكانها الصحيح...دائما كنت أخشى أن أجابه بسؤال: وهل أنت أكثر حرصا أو نظافة منا لتشكرنا على ما نقوم به من واجباتنا، أم أنك تنصب من نفسك قيما على سلوك العباد، تصب جام غضبك على هذا، وتمنح ذاك وسام المواطنة من الدرجة الأولى، إلى أن اهتديت إلى هذه "المقالة" لتوجيه الشكر والتقدير لكل هؤلاء، من دون تحسب أو حرج؟!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق