الجمعة، 13 نوفمبر 2009

ضد الاستبداد/فتحي بالحاج



ضد الاستبداد

فتحي بالحاج

لا يمكن أن نغفل دور العامل الخارحي في تأبيد التخلف، لقد تعرض الشعب العربي على مدار تاريخه الطويل إلى حملات عسكرية وغزوات متتالية، لكنه تمكن في كل مرة من مواجهة هذا الغزو وطرده. ولم تكن حرب التحرير التي اندلعت منذ عشرينات القرن الماضي إلا دليل على حيوية هذا الشعب وقد توجت حركته في الخمسينات من تحقيق النصر وطرد العديد من جحافل الاستعمار. لكن هذه الانتصارات سرعان ما ضاعت يوم تركنا الاستبداد يقرر مصيرنا. أعاد الاستبداد الاستعمار إلى بيوتنا بعد أن طرده أجدادنا. وعدنا إلى النقطة الصفر..نواجه من جديد الاستعمار والاستبداد.. يتبادلان الأدوار في انهاك الشعب العربي.. ذلك أن الاستعمار والاستبداد شيئ واحد كلاهما يكمل الآخر. صحيح أن معركة التحرير لم تنته في الخمسينات ولكننا يمكن أن نقول أن الأمة العربية في الخمسينات وفي الستينات من القرن الماضي قد تمكنت اكتشاف طريق التقدم من خلال اكتشاف أن الوجود الاستعماري عامل في تابيد التخلف..وفتحت بمعارك التحرير حقبة جديدة متطلعة إلى التقدم وتمكنت من أن تجعل من الخطاب التحرري الذي يرفع كرامة الانسان العربي هو الخطاب السائد. لكن الأنظمة القطرية نجحت طيلة العقود الخمس الماضية في عملية تجفيف لمبادئ التحرير والاستقلال والحرية والكرامة للانسان العربي.

فالدولة التي فرضت بالحديد والنار على الشعب المنهك من سنوات الاستعمار فأتت متعارضة متناقضة مع التكوين التاريخي والموضوعي للمجتمع، ثم لاكتساب مشروعية تفتقدها بدأت الدولة في عملية ضرب وقطع وتدمير لكل ما من شأنه أن يشكل عامل معادلة أو مقاومة لسيطرة هذه الدولة على المجتمع. بعد سنين من الصراعات المتتالية انتصرت مرحليا الدولة القطرية ، وتم تدجين المجتمع لصالحها، وتمكنت من القضاء على القوى المدنية والأهلية الحية، سواء عبر الاسكات القسري والقهري والتغييب المتعمد من خلال القمع أم من خلال عملية الترويض، مستخدمة ما تمثله الدولة من عوامل استقرار آني، واغراء بما تمتلكه هذه الدولة من امكانيات لاستمالة بعض العناصر. وسيطرت عليها بالكامل (إلغاءً أو إلحاقاً وتبعية)، وحولت المجتمع إلى اسير تتصرف به كما تريد...

من غدر بشعارات التحرير والكرامة حرية الوطن والمواطن؟

إنه الاستبداد الذي سعى إلى قتل كل ما هو وطني وتقدمي في هذا الأمة.. إن الاستبداد هو الفيروس الذي يقتل يوميا كل شئ حي في هذه الأمة ويحوله إلى حطام. بدءا من الانسان وصولا إلى مكونات الأرض. إن وصولنا هذا المستوى المنحدر والخطير في أفكارنا وسياساتنا العملية التي نعاني فيها جميعاً هو النتيجة المنطقية لسنين الاستبداد بكل مظاهره في حياتنا العامة والخاصة، الذي يزداد تعمقا وتجذّرا في كافة مناحي حياتنا فردياً ومجتمعياً...الاستبداد يعيق حركة التطور الاجتماعي، يخرب التاريخ والحضارة والحياة الإنسانية الطبيعية...لأنه يقف ضد حرية الإنسان، يعيق مقدرته على التطور، و يشل طاقة التفكير واستخدام العقل. إن الاستبداد عنوان التخلف وقتل النفس البشرية المبدعة الخلاقة، إن محاولة لاعادة الانسان إلى المرحلة الحيوانية، شل مقدرته الفكرية وملكة التفكير والذكاء، الاستبداد عنوان للموت البطئ. أن الأنظمة الشمولية التي وصلت إلى السلطة بقوة السلاح أو تلك التي فرضتها الاتفاقات الاستعمارية تمكنت من السيطرة على الدولة القطرية وعلى كل الامكانيات المتاحة. قتلت ببطء شعارات حرية الوطن والمواطن. وتسلطت النخبة الجديدة على رقاب العباد والبلاد، وحافظت على طغيانها ووجودها بالسيف والعسف والقمع والاستبداد.. بعد أن أفرغت شعارات النضال العربي من مضامينها..وحولتها إلى شعارات فشل.. نجحت الدولة القطرية في جعل الجماهير مأسورة في أيديها، من خلال عملية تحييدها وتخريب ضميرها الجمعي بشعارات "أولا" التي أدخلتنا في كهوف لم نعد نر لها أولا ولا آخر... وضاعف جسم الدولة عناصر لمناعته في مواجهة دعوات الوحدة العربية في الأجهوة الأمنية، وجند لهذا مرتزقة لإعادة كتابة التاريخ القطري، وتعويم الشعارات القومية من خلال تبنيها لافشالها.. وتم اغتصاب شعارات التحرير والوحدة للدفاع على الجهاز الذي يشكل النقيض لها الدولة القطرية. ونجحت بعض الدول الفاشلة في تحويل "الخطاب الوحدوي" إلى حزام أمني، وإلى عامل لتأبيد الدولة القطرية في مواجهة أي مطلب وحدوي. تمكنت الدولة القطرية من أن تستوعب الجماهير وطموحااتها لأنه لم يكن هناك جسم ينافس ويضاد الدولة القطرية، فأصبحت الجماهير لا ترى أحلامها إلا من خلال الدولة القطرية. لقد غاب الذي كان يوظف الدولة القطرية لصالح القضايا القومية، بحكم علاقته المباشرة مع الجماهير أو لنقل انكسر الخيط الرابط بين الجماهير والأهداف أداة التواصل، فاحتوت الدولة القطرية الجماهير بعد أن سيطرت أو سرقت قبلها شعاراتها..مثال التجربة الليبية السودانية والبعثية في العراق وفي سوورية وقد استبعدت الجماهير من ساحة الفعل السياسي..تفاقمت وضعية الاستبداد في وطننا العربي وأدى إلى تأبيد التخلف وإطالة كل مظاهر الانحطاط الحضاري، والبشري، وإلى وصول قلة لا تمتلك مؤهلات الادارة والقيادة إلى قمة الادارة في بلادنا، وتجسدت هذه الوضعية في كل أجهزة الدولة من القمة إلى القاعدة. وكان الاستبداد ولازال هو الأسلوب الوحيد الذي تمكنت به بعض الوجوه أن تفرض نفسها على هرم السلطة. وقد تفننت أنظمتنا وحكوماتنا المستبدة والمتسلطة في التنكيل بالعباد، من الضغط المستمر على كل محاولة تمرد أو تحرر حقيقية، ووأدها في المهد، حتى لا تتنمو ولا تشكل مثالا يحتذى به سواء داخل القطر أو داخل الأمة العربية لذلك لم يكن أن نستغرب من أن يتحالف المستبدون في الوطن العربي. ، وليس من المستغرب أن تحاصر أي محاولة جدية اصلاحية في الوطن العربي، تحاصر من الداخل بتكميمها وإجهتاضها وتحاصر من الخارج من خلال حملات التشويه، والتحقير مسنخدمينا في ذلك كل ما يمكن أن يساهم في تشويه التجربة، من دين وسياسة وحداثة وأصالة ومعاصرة، كل ما يمكن أن يساهم في وأد التجربة. لم يكن من اهتمامات النظام العربي الرسمي ضمان أبسط حق من حقوق الإنسان وهو حق التعبير عن الرأي والاعتراض السلمي الهادى‏ء على الممارسات الخاطئة والسياسات الظالمة الفاسدة والمفسدة والتي تنفذ علانية هنا وهناك، وفعلت فعلها التخريبي في جسد هذه الأمة، ليس من حق المواطن الاعتراض أو حتى الاشارة إليها، فيكفي أن يشير إليها حتى وإن كانت في مستوى محلي أو جهوي إلا ووجهت له تهمة معاداة السلطة، ومحاولة المس من هيبة رئيس الجمهورية وتغيير هيئة الدولة بالقوة وإضعاف الشعور القومي. وتبدأ سياسة التجويع والمحاصرة، وتبدأ معها رحلة عذابمن سولت له نفسه، بالحديث أو حتى بالتلميح لهذه المظاهر التي أصبحت عامة. إن صمت الشعب العربي من المحيط إلى الخليج على كل تلك الهزائم والماسي السياسية والاجتماعية ما هو إلا نتيجة منطقية لكل تلك الممارسات الظالمة التي ارتكبت بحقه. ويعود إلى ما انتجته هذه الآلة القمعية من تأصيل لقيم الخوف فيه، وسيادة قيم الانتهازية والنفعية والفردية. ولذلك لا يمكن أن ننتظر من مواطن جائع خائف محبط مستضعف، عاطل عن العمل، فاقد للأمل، إلا الصمت، والخوف والذل، إذ لا يمكن أن نطلب منه أن يخرج مناصراً لقضايا الحريات، أو القضايا الوطنية، إنه مشدود من أمعاءه إلى هذه الأنظمة. لقد تمكنت الدولة القطرية من أسر المواطن العربي بالعديد من الهموم والمخاوف والأزمات والضغوطات اليومية على الصعيد الشخصي ما يكفي لشل تفكيره في القضايا الأخرى..أما النخبة العربية فقد تحولت بوق دعاية للخيارات الكبرى للدولة القطرية ومبرر للاستبداد السياسي....وساهمت في عملية تخريب بإرادة وبدون إرادة عندما تنازلت عن هدف التحرير والتوحيد..وسكنت لمطالب الدولة القطرية..وتراجعت على مطالب للتحرر والوحدة.. علينا ألا نغفل الدور السلبي الأساسي لهذه النخبة لتبرير الاستبداد تحت دعاوي عدة. إن ما تم هي عملية تخريب تخريب للإنسان تخريب الأرض وتخريب للحضارة. وبالنتيجة كان من الطبيعي جداً أن نصل إلى ما وصلنا إليه من انهيار وتفكك وتفرق، بالرغم من سيطرة الدولة القطرية المتغولة على شرايين الحياة. إن سيطرتها تتجلى في قمع كل ما من شأنه أن يرمز إلى المقاومة أو الممانعة في بنية المجتمع. إن النظام العربي الرسمي يقوم على تحالف بين أنظمة تسلطية قائمة على مفاهيم القوة والضبط والقمع والكبت، لقد إنعدمت كل مفاهيم الحوار والتواصل ، وسادت لغة الاخضاع، والردع مما أبعد الجماهير على معرفة الحقيقة والمساهمة الايجابية في الشأن العامإن الاستبداد هو أم المشكلات التي تعيشها الأمة ، وهي لا تستطيع أن تنفض عن نفسها ركام التخلف والاهتراء الحضاري، وتتحرك في الحياة والتاريخ لتنهض وتتطور وتزدهر وتنافس.. إن الحرية هي الطاقة التي تدفع الانسان إلى الخلق والابداع والاضافة، ذلك أن الانسان الحر هو وحده القادر على الفعل. اما الذي مازال يعاني استبدادا داخليا وخارجيا، فانه مازال في وضع الدور السلبي يتقبل بسهولة كل ما يسوقه الاستبداد إليهيمكن أن نقول أن التحدي الأول التي تواجهه الأمة العربية من قواها العاملة والمنتجة ومثقفيها هو كفية استرجاع حريتها ومقدرتها على الاختيار أولا..إن ضرب الحلقة الأولى في سلسة التخلف العربي يكون بمواجهة ظاهرة «الاستبداد السياسي» السبب الأول والرئيسي لكل المآسي التي تعانيها الأمة العربية. إن أي حديث عن التغيير والاصلاح في الوطن العربي لن يكتب له النجاح مالم يكن مدخله القضاء على الاستبداد الذي ولد كل مظاهر الفساد والافساد التي استثرت في واقعنا العربي. إن التقدم العربي لن يكون إلا على اساس نشر قيم الحرية والعدالة..

إن أول خطوة للقوميين وهم يدعون إلى تحرير الأرض العربية من قبضة القوى الغازية ، والارادة العربية من أسر الدوائر الأجنبية هو أن يكونوا في مواجهة قوى الاستبداد في الأقاليم العربية التي نقول أنها مستقلة لأن الاستبداد هو الحليف الموضوعي لقوى الهيمنة الأجنبية....

الثالوث القلق: الدولة.. العشيرة.. المجتمع المدني



الثالوث القلق: الدولة.. العشيرة.. المجتمع المدني!

د. خالد سليمان

وُجدت ما تُعرف بمؤسسات المجتمع المدني (كالنقابات المهنية والعمالية والأحزاب السياسية والجمعيات التعاونية والمنتديات الثقافية...الخ) لتكون بمنزلة الوسيط بين الفرد والدولة، بحيث تتولى مهام تمثيل ذلك الفرد، الذي ينتمي إليها بمحض إرادته، والدفاع عن مصالحه وحقوقه، وذلك في حال إقدام الدولة على المساس بتلك المصالح وتهديد تلك الحقوق.

يصدق حديثنا هذا عن المجتمعات 'المتقدمة'، التي تمكنت من الوصول إلى درجة معتبرة من تفعيل القانون واحترام أحكامه وضمان تطبيقها على جميع مواطنيها، دون النظر إلى انتماءاتهم القرابية أو أوضاعهم الطبقية أو مكاناتهم الوظيفية. فمثلاً، لم يتردد القوم في فرنسا مؤخراً في اقتياد الرئيس الفرنسي السابق 'جاك شيراك' ـ وهو من هو في عيون الشعب الفرنسي ـ إلى قفص الاتهام، على خلفية تهم مسكينة، قد لا يتردد مدير صغير من مدراء كثير من مؤسساتنا العتيدة عن اقتراف ما هو أفظع منها بألف مرة، دون أن يرف له جفن، ودون أن يخشى المساءلة أو الملاحقة!

في مجتمعاتنا العربية 'النامية' أو 'النائمة'، لا فرق إذا أردتم الحق، تتعالى النداءات من أجل التعزيز الفوري لمؤسسات المجتمع المدني الهزيلة والتدعيم العاجل لإمكاناتها حتى تصبح قادرة على أداء الأدوار التي تؤديها شقيقاتها في العالم الغربي! عندما أسمع مثل تلك الدعوات التي لا تخلو من سذاجة، لا أملك أن أمنع نفسي من الضحك، وشر البلية ما يضحك كما يقال! فحتى تتمكن مؤسسات المجتمع المدني عندنا من لعب الدور الذي يفترض بها أن تلعبه، حسب الأنموذج الغربي على الأقل، لا بد من توافر عدد من الشروط، التي سنناقش أهمها فيما يلي، لنكتشف عدم توافره كلياً في بيئتنا المحلية، ونتبين مدى التهشم الحضاري الذي نعاني، لعلنا نخفف قليلاً من غلوائنا وتبجحنا بإنجازات ضحلة، نحاول توسلها لإقحامنا قسراً على العالم المتحضر، بينما ما نزال نعيش ونفكر بعقليات كليب وجساس والزير سالم!

أول وأهم شرط لانتعاش مؤسسات المجتمع المدني في مجتمع ما، يتمثل فيما أزعم في سيادة حكم القانون، سيادة فعلية لا ازدواجيات ولا ثنائيات فيها، بمعنى وجوب توافر منظومة قانونية متكاملة ومتماسكة، يحتكم إليها الجميع، ويجدون فيها الملاذ العادل والشرعي لحل خصوماتهم وضمان حقوقهم، بعيداً عن تدخل مرجعيات 'قضائية' أخرى تنافسها، وتفرض أحكامها وإملاءاتها، فإلى أي درجة يتحقق مثل هذا الشرط في واقعنا الأردني!؟

لن نضيع الوقت في السعي إلى الإجابة، فكلنا يعرف الجواب، وكلنا يعرف أن هناك إشكالية مستعصية تستدعي التفكيك والحسم، وقد آن الأوان لأن نتوقف عن خداع أنفسنا ودس رؤوسنا في رمال التجاهل والمماطلة والتأجيل، فنحن أمام خيارين لا ثالث لهما، وسنجد أنفسنا مجبرين يوماً ما، بعد أو قرب، شئنا أم أبينا، على تسويد أحدهما، فإما القانون المدني العصري، الذي لا أحد ينكر حاجته المسيسة إلى إصلاحات كثيرة وجذرية وشاملة، وإما القوانين العشائرية، التي تنتمي إلى عصور بعيدة خلت، ولا أدري إذا كان من الحكمة أو التمدن أو مواكبة العصر ـ ونحن أجرأ أهل الأرض على ادعاء الحكمة والتمدن ومواكبة العصر ـ الإصرار على استحضارها وتغليبها في مجتمعنا الذي نصدع رؤوس العالم صباح مساء بأنه مجتمع حديث ومتقدم ومتعلم!

لكن الأمر ليس بتلك البساطة حتماً، ففي القوانين العشائرية الكثير من الجوانب الإيجابية التي قد لا يحسن التفريط فيها، التي تكاد تبدو أكثر مرونة وعملية وقدرة من قوانيننا الحديثة على حل الكثير من نزاعاتنا، فأين الخلل هنا!؟ أتراه في تلك القوانين العتيقة التي تدعي الكفاءة ولا تريد أن تقنع بالتقاعد وإخلاء الساحة لقوانين أكثر شباباً وتمدناً!؟ أم تراه في هذه الأخيرة، التي تبدو هشة ومائعة وقاصرة عن إقناع الناس باتباعها!؟ أم لعل الخلل يكمن فوق هذا وذاك في بنية النظام الحكومي نفسه!؟ هذا الذي يبدو حائراً وعاجزاً عن حسم أمره والانحياز للخيار الذي ما انفك يدعو إليه، أي خيار الحداثة والتحديث، مع التعهد الجدي بالدفاع عن هذا الخيار، والقيام بالخطوات والإصلاحات الجذرية التي تجعله جديراً بالتأييد والدفاع عنه؛ الأمر الذي من شأنه استرجاع توازن الدولة وتأكيد مصداقيتها وانسجامها مع طروحاتها الطموحة، وإظهار التزامها الحقيقي بالسير على طريق التنمية والديمقراطية والتقدم.

إن هناك حاجة ضرورية وملحة لا يجدر مواصلة التهرب منها لأن تلقي الدولة بكل ثقلها لدعم رؤى عصرنة المجتمع وتحديثه بصورة حقيقية، دون أن يعني ذلك بكل تأكيد إحداث القطيعة مع القوى العشائرية، التي باتت مؤهلة، نظرياً على الأقل، للانخراط في ركب التقدم وإثراء مشاريع الإصلاح وتوجهاته، ودون إشعار تلك القوى بأن تخليها عن قوانينها القديمة قد يعني خلخلة أركانها أو تهديد حضورها الفاعل على الساحة الوطنية. وبكل تأكيد، فإن الحديث هنا لا يتناول القيم العشائرية النبيلة، التي ينبغي أن تظل مظلة مشرعة تحتضن مبادئ المروءة والنبالة والتكافل والعدالة، يستظل الجميع تحت ظلها، وتشكل صمام أمان رقابي يحول دون تورط الدولة بالخروج عن نهج العدالة والإصلاح.

راهناً، لا يحتاج المرء إلى كثير من التدقيق وإمعان النظر كي يلاحظ بأن العشيرة، بالرغم من كل ما حاق بها من صور الضعف والتفكك، تنازع الدولة ومؤسسات المجتمع المدني أدوارهما الشرعية التي يفترض أن يؤدياها! فمثلاً، ما يزال الفرد في كثير من الحالات يستجير بعشيرته لحمايته من عسف فعلي أو متوهم من جانب الدولة، عوضاً عن لجوئه إلى مؤسسة القضاء الرسمي للذود عنه! وما يزال يقصد نائب العشيرة كي يساعده على تأمين وظيفة ما، بدلاً من أن يتوجه إلى نقابة مهنية أو رابطة عمالية متخصصة! وما يزال يستعين بدعم عشيرته إذا ما انتوى ترشيح نفسه للانتخابات البرلمانية، مشيحاً بوجهه عن عشرات الأحزاب الباهتة التي يفترض أن ترعى حملته الانتخابية وتوجهها!

إزاء ذلك الدور المتضخم للعشيرة، الذي يصعب تماماً تبريره في مجتمع يسبّح باسم الحداثة آناء الليل وأطراف النهار، يمكن أن نفهم، إلى حد ما، لماذا تقوم الدنيا ولا تقعد عندما تغفل الحكومة تعيين ممثل عن عشيرة من العشائر في بعض مجالسها. ويمكن أن نفهم، بصورة ما، لماذا تندلع المعارك المؤسفة بين عشائر كاملة بسبب حماقة واحد من أبنائها، ويمكن أن نفهم، بقدر ما، لماذا تغدو مؤسسة رسمية كبيرة بحجم وأهمية مؤسسة الأمن العام نفسها، غريماً مباشراً للعشيرة في بعض الأحيان، مع أن الأصل أن تكون تلك المؤسسة طرفاً محايداً لا ينبغي له أن يدخل في خصومات تطعن في مؤسسيته وترفعه عن الشخصنة.

لكن مطالبة العشيرة بالتخلي عن دورها القانوني قد لا يمثل حلاً مأمون العواقب في ظل المعطيات القائمة إذا أردتم الحق؛ إذ إن هناك مشكلة أخرى معقدة سرعان ما تطل برأسها، فحتى وإن قررت العشائر فجأة أن تتخلى عن تشريعاتها التقليدية راضية مختارة من أجل تسليم زمام الأمور القانونية جملة وتفصيلاً للدولة، فهل الدولة جاهزة فعلاً لحمل ذلك العبء الكبير!؟ وما الذي يضمن أن تحسن الدولة سياسة الأمور وإدارتها دون الانزلاق، ولو بعد حين، إلى تصفية الحسابات والاستقواء على الناس ما داموا قد تخلوا عن المظلة العشائرية التي لطالما وفرت لهم قدراً مهماً من الحماية والإنصاف والإحساس بالأمان!؟

يبدو أن الكرة هي فعلاً في ملعب الدولة، فهي بحاجة إلى أن تمضي قدماً على طريق الإصلاح وتوثيق، حتى لا أقول استرجاع، ثقة الناس بها، لتثبت للعشائر، بل للجميع، مؤسسيتها ونزاهتها وديمقراطيتها وتعاملها مع سائر مكونات المجتمع بمنتهى العدالة والمساواة، مع توفير الضمانات القطعية الراسخة بعدم تراجعها عن التزاماتها وخطواتها الإصلاحية والديمقراطية تحت أي ظرف كان.

والدولة كذلك بحاجة إلى رفع قبضتها عن مؤسسات المجتمع المدني المنكسرة، متيحة لها أن تتنفس وتعمل بحرية تحت الشمس، بعيداً عن سياسات التدجين والتتبيع. فتلك المؤسسات ليست منافساً أو مناكفاً لها في حقيقة الأمر، وينبغي التوقف عن النظر إليها والتعامل معها بتلك النظرة المستريبة، فهي ـ حسب ما نراه في التجارب الغربية ـ مؤسسات تشد من عضد الدولة، وتعمل على تحسين أدائها وحمايتها من التورط أو التمادي في انتهاج سياسات خاطئة، ومن ثم فإن دعم تلك المؤسسات وعدم مناصبتها العداء يغدو أمراً حصيفاً يصب في مصلحة الدولة في نهاية المطاف، ويحول دون اضطرار تلك المؤسسات إلى الارتماء في أحضان جهات خارجية مغرضة، أو إيجاد ذرائع قد لا تخلو من وجاهة لفعل ذلك!

الدولة، هي أم الجميع فيما هو مفترض، وهي الحاضنة للجميع فيما هو واجب، وهي المسؤولة الأولى والأهم، وفي كل الأحوال، عن عملية إعادة توزيع الأدوار وتحديد الصلاحيات وتقسيم المهام في المجتمع. ومن المخيب للآمال أن نجدها تتطلع إلى العشيرة، هذه التي ما تزال محكومة بتشريعات بدائية قد لا تتلاءم كثيراً مع متطلبات مجتمع عصري، أو إلى مؤسسات المجتمع المدني المتعثرة، التي لا تتورع بالرغم من ضعفها، وربما بسببه، عن الاستقواء بجهات أجنبية مشكوك في أهدافها، منتظرة منهما أن يحددا حركة المجتمع، لتكتفي هي في المقابل بالانشغال بالمراقبة والتصريف الآني للأعمال، واستنزاف وقتها وجهدها وإمكاناتها في خوض معارك هامشية صغيرة مثيرة للرثاء، من أجل إثبات سيطرتها على الأمور!


'
باحث أردني

النقابة الوطنية للصحفيين تطالب بإطلاق سراح بن بريك ومخلوف ووقف الإعتداءات على الصحفيين

تونس في 13 نوفمبر 2009

بيـــــــــان

شهدت تونس خلال الفترة الأخيرة موجة غير مسبوقة من التضييقات والقمع المسلط على الصحفيين وقطاع الإعلام، شكلت امتدادا طبيعيا للانقلاب الذي استهدف النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين بتوجيه مباشر من أمين عام الحزب الحاكم وجهات حكومية.

ويدعو المكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين إلى الوقف الكامل للتضييقات والاعتداءات التي طالت عديد الزملاء الصحفيين وكذلك عدد من صحف المعارضة التي أجبرت على الاحتجاب. كما يطالب بإنهاء الإغلاق التعسفي لإذاعتي الانترنت "راديو 6 تونس" و "كلمة"، اللتين تمّ وضع اليد على مقرّيهما وحجز معداتهما الالكترونية. علما بأنه لا يوجد أيّ نص قانوني ينظم أو يمنع بعث وسائل الإعلام الإلكتروني، ولا موجب بالتالي للاستثناء.

ويدعو المكتب التنفيذي إلى إطلاق سراح الزميل توفيق بن بريك فورا خاصة وأنه لا وجود لأي مبرر قانوني أو فعلي يوجب سجنه وعرضه على المحكمة بحالة إيقاف، بقطع النظر عن مدى صحة التهمة الموجهة إليه. وكذلك الأمر بالنسبة لمراسل موقع "السبيل أونلاين" زهير مخلوف، الذي تطالب النقابة بإطلاق سراحه ووقف التتبع الجاري ضده. كما يدعو إلى وضع حد لسياسة حجب المدونات والمواقع الالكتروني واستهداف المدونين وترويعهم.

وقد سجل المكتب التنفيذي باهتمام ما ورد في كلمة رئيس الدولة يوم الخميس 12 نوفمبر 2009 بمناسبة أدائه اليمين الدستورية، وخاصة تأكيد على حرصه على "ترسيخ حرية الرأي والتعبير ببلادنا، وتطوير قطاع الإعلام بمختلف أنواعه والارتقاء بأدائه شكلا ومضمونا". والتزامه بالعمل على "توسيع مساحات الحوا ر ومجالات النظر في الملفات في كل ما يتعلق بالشأن العام مع تيسير وصول الصحفيين إلى مصادر الخبر ودعم المهن الصحفية وتحسين أوضاع الصحفيين".

ويرى المكتب التنفيذي بأن المدخل الأساسي والطبيعي لأي مسعى للنهوض بوضع الإعلام في بلادنا يمر حتما عبر وضع حدّ للأزمة التي تعيشها النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين منذ مؤتمر 15 أوت 2009 الانقلابي، والسماح للصحفيين بعقد مؤتمرهم القانوني بشكل ديمقراطي وحرّ وشفاف، وفي إطار الاحترام الكامل للقانون الأساسي للنقابة ونظامها الداخلي.

وتعتقد النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين بأنه لا يمكن توفير مناخ إعلامي حر وتعددي دون رفع الوصاية الرسمية اللاقانونية المسلطة على بعث الصحف والمجلات والمحطات الإذاعية والتلفزية الخاصة. ودون وجود مؤسسات إعلامية مستقلة متحررة من سلطة الرقابة بجميع أشكالها، وكذلك دون توفير ظروف العمل اللائقة التي تحفظ للصحفيين كرامتهم وحقوقهم.

وينبّه المكتب التنفيذي إلى خطورة عمليات الثلب والتشويه الممنهج التي تمارسها بعض "الصحف" ضد عدد من الصحفيين المستقلين ورموز المجتمع المدني والشخصيات السياسية، والتي بلغت حدّ التخوين والدعوة للقتل. وذلك في ظل حصانة كاملة من التتبع.

ويعتقد المكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين بأن الوطنية قاسم مشترك بين جميع التونسيين، لا مجال لاحتكاره أو المزايدة به. كما أن كرامة التونسيين واحدة لا تتجزأ، وحقهم في الأمن والتفكير والتعبير الحر عن رأيهم، لا مجال للنيل منه أو التنازل عنه.

عاشت نضالات الصحفيين التونسين

عاشت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين حرّة، مستقلة، مناضلة..

عن المكتب التنفيذي

الرئيس

ناجي البغوري