الجمعة، 13 نوفمبر 2009

جبل المحامل

عبد الكاظم العبودي

عندما جسد الفنان التشكيلي الفلسطيني الكبير إسماعيل شموط، معاناة شعبنا الفلسطيني كانت لوحته "جمل المحامل" رؤية ثاقبة لشعب لم يحنِ ظهره إلا خشوعا لله الذي كرمه ببيت المقدس، أوحين ينحني وهو ينقل فوق ظهره تراب أرضه بمقدسها وأشجار زيتونها وجبالها مخلدة بأسماء فاكهة الجنة التي وردت في القرآن الكريم.

ومهما طالت المسافات، وامتد زمن الشتات، فإن مسيرة جمل المحامل ستبقى في سِفر الخلود، تسجل في لوح الذاكرة الإنسانية أنها أكبر مسيرة مشاها شعب إلى مبتغاه، وفي حزامه علق مفاتيح بيته المقدسي.

والزمن مجبر أبدا على التوقف في رحاب القدس ومن حوله جبل المحامل منتظرا بكوفيته وعقاله وبلاغة وعده، ليقول لنا لم نرحل ولكن كنا نتريث بكم تحت ظلال جبل المحامل علها تحميكم من وهج الجحيم الصهيوني. ومهما طالت المسافات، وارتفعت جُدُر الفصل الهشة، فإنها لن تعزل المشهد القادم في راية أبي عمار ولن تعمي الرؤية من الأقاصي البعيدة لمشهد الوصول إلى حيث الأرض والإنسان والحضارة.

في عزم صاحب جبل المحامل نلوذ به، كلما حاصرتنا ريح صرصر عاتية، لنسمع منه سيمفونية الصبر" يا جبل ما يهزك ريح". هكذا ظل صاحبه، رغم أثقال المسار وطوله برسم الخطى للعودة ويبلغنا يوما في ساعة الصفر لحظة التسلق الحقيقية لنبلغ معه ذروة مجده على خطو براقنا الفلسطيني.

صاحب جبل المحامل آثر ان يكون ضريحه عند كل مقاطعة يتداول أصحابها تسيير المعركة عند سفوح الجبل أو فوق ذراه. عينه شاخصة نحونا، يتنفس بنا ويعيش أمله طالما أنه لم يختر من كل الأرض الكونية إلا مراحَهُ وحلمه ليرى سهولها ومنخفضاتها، وهو يعرف أن قمة جبل المحامل تضحك للشمس ساخرة من ألعاب الأقزام على سفحه.

ورغم أنه كان يعرف أن أخفض نقطة على كوكبنا تغوص هناك بأرض البحر الميت، وهي تلفظ من أراد الوصول إليها غازيا, أبو عمار يعرف أن جبله يتوج الأرض كلها، وينزع تيجان الملوك والأباطرة. وهو يضع مرصده الوطني في أعلى نقطة هي ذروة أماني شعبنا، منذ لحظة ميلاد الفتح الحقيقي عندما استوزر مفتاح نصره في ليلة من ليالي معركة الكرامة، في ليلة فتح وعاصفة مُبينة، في وعد بالنصر يأتي من أعماق غور الأردن، ليس بعيدا عن البحر الميت، ومن بحر فلسطين المتلاطم، شرق المتوسط.

لو كان لي من حق المؤرخ أو الشاعر أو الباحث المستقبلي في قضية كفاح شعب فلسطين لما اخترت الليلة إلا عبارة الأزل لأختزل كل ما كتب عن ياسر عرفات وسيرته وجهاده، فأتذكره الليلة ككل ليالي فلسطين منارة وفنارا للعائدين، عبارة مجسدة في خلود صاحبها نتذكرها كلما اعترانا ضعف وشعرنا بالتردد والخوف من المجهول.

وإذا كان لشموخ فلسطين وكفاح شعبها وقدسية أرضها من شاهد في غياب أبي عمار فهو جبالها وكرملها والتين والزيتون وطور سنين، وهو سمو ذكرها الخالد في الذكر الحكيم. لكن علينا ان نعترف بجبل آخر في سورة الصبر الفلسطيني، كان وسيبقى كالطود الشامخ لكل أحرار الأرض، إنه جبل المحامل، وباني هيكله الخالد، طوبة طوبة, أبو عمار, جمع أحجاره وتربته وتلقفها من أيدي الأطفال، وما تعفّر به التراب على جبهة فدائيي فلسطين.

أليس هو باني جبل محاملنا في كل غزوة، وفي كل معركة كلما حاصرته الخطوب يقول: نحن لها: "ويا جبل ما يهزك ريح"، عليها تنكسر رياح الحقد والظلم والغزو ولا زال الجبل مبتسما من جاهلية الغزاة، ومستهزئاً بهم بوجع ووجه أبي عمار.

جبل المحامل هو فلسطين كلها، ظل عصياً على الاقتلاع والاجتثاث والتعرية والترحيل وبناء الحُجُب من وراء جدر القطرية العربية والأممية الصهيونية، زاد من وزن جبل المحامل عمقه وامتداد جذره إلى مركز الأرض، وتربعه على القطعة التي وضع الإله فيها صخرته المقدسة، حجراَ من نيازك المجرة والسماء، لكي تتزن فوقها كل أثقال الأرض وطبقاتها التكوينية والزلزالية، بها تستقر الأرض ومن فيها ومن حولها، وباهتزازها ترتجف زلازلَ وطوفانا، وتجتاح الكونَ الأعاصير,

جبل المحامل يحضن رفات حامله، وليس له عنوان في ظهر المقاطعة للسلطات الدنيوية الزائلة، وكأن في رمزيته وحضوره شيئا لم يكن في خلد أحد. كان مرسوما في ذهن القائد في الليالي الحالكة المُطبِقة على فلسطين وأهلها، حمله فوق ظهره محملا بعبء القضية كصندوق أسراره الأزلي، ليحكيها يوما للأجيال سورة فلسطين, فلربما أراد أن يختفي من المراسيم الشكلية في رواحه ومجيئه كرئيس للمؤقتة لكنه سيحضر مراسيم غلق المحتشد الفلسطيني يوما ويعلن بإيذان الصعود إلى مشهد الحشد الأخير,

انه لازال يُشكل اللوحة التي يريدها شعبنا، لوحة مغطاة بالزيتون والحمام الذي يظلل في ليلة نوفمبرية ملاذ القائد الكبير واستراحته في الحرب والسلم في رام الله، حتى يُكتب لملائكة النصر حمل نعشه الأخير إلى القدس. ألم يقل عن ذلك ان القدس بالنسبة إليه على مرمى حجر, حجر هو الناطق الرسمي لثورتنا بعد أن تسكت العواصم,

في مساء الزيارات تطوف الأمهات والشهداء والأيتام والأشبال والأطفال "فتح مرت من هنا" وكلنا عاصفة، لغة ونشيدا في موطني موطني,

في ذكراه، انظروا شهابه وحضوره، حين وضع وجهه في محراب الأقصى وغطى الأرض الطيبة وذروة الجبل بكوفيته التي صارت لنا وللأرض عنوانا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق