الجمعة، 13 نوفمبر 2009

الثالوث القلق: الدولة.. العشيرة.. المجتمع المدني



الثالوث القلق: الدولة.. العشيرة.. المجتمع المدني!

د. خالد سليمان

وُجدت ما تُعرف بمؤسسات المجتمع المدني (كالنقابات المهنية والعمالية والأحزاب السياسية والجمعيات التعاونية والمنتديات الثقافية...الخ) لتكون بمنزلة الوسيط بين الفرد والدولة، بحيث تتولى مهام تمثيل ذلك الفرد، الذي ينتمي إليها بمحض إرادته، والدفاع عن مصالحه وحقوقه، وذلك في حال إقدام الدولة على المساس بتلك المصالح وتهديد تلك الحقوق.

يصدق حديثنا هذا عن المجتمعات 'المتقدمة'، التي تمكنت من الوصول إلى درجة معتبرة من تفعيل القانون واحترام أحكامه وضمان تطبيقها على جميع مواطنيها، دون النظر إلى انتماءاتهم القرابية أو أوضاعهم الطبقية أو مكاناتهم الوظيفية. فمثلاً، لم يتردد القوم في فرنسا مؤخراً في اقتياد الرئيس الفرنسي السابق 'جاك شيراك' ـ وهو من هو في عيون الشعب الفرنسي ـ إلى قفص الاتهام، على خلفية تهم مسكينة، قد لا يتردد مدير صغير من مدراء كثير من مؤسساتنا العتيدة عن اقتراف ما هو أفظع منها بألف مرة، دون أن يرف له جفن، ودون أن يخشى المساءلة أو الملاحقة!

في مجتمعاتنا العربية 'النامية' أو 'النائمة'، لا فرق إذا أردتم الحق، تتعالى النداءات من أجل التعزيز الفوري لمؤسسات المجتمع المدني الهزيلة والتدعيم العاجل لإمكاناتها حتى تصبح قادرة على أداء الأدوار التي تؤديها شقيقاتها في العالم الغربي! عندما أسمع مثل تلك الدعوات التي لا تخلو من سذاجة، لا أملك أن أمنع نفسي من الضحك، وشر البلية ما يضحك كما يقال! فحتى تتمكن مؤسسات المجتمع المدني عندنا من لعب الدور الذي يفترض بها أن تلعبه، حسب الأنموذج الغربي على الأقل، لا بد من توافر عدد من الشروط، التي سنناقش أهمها فيما يلي، لنكتشف عدم توافره كلياً في بيئتنا المحلية، ونتبين مدى التهشم الحضاري الذي نعاني، لعلنا نخفف قليلاً من غلوائنا وتبجحنا بإنجازات ضحلة، نحاول توسلها لإقحامنا قسراً على العالم المتحضر، بينما ما نزال نعيش ونفكر بعقليات كليب وجساس والزير سالم!

أول وأهم شرط لانتعاش مؤسسات المجتمع المدني في مجتمع ما، يتمثل فيما أزعم في سيادة حكم القانون، سيادة فعلية لا ازدواجيات ولا ثنائيات فيها، بمعنى وجوب توافر منظومة قانونية متكاملة ومتماسكة، يحتكم إليها الجميع، ويجدون فيها الملاذ العادل والشرعي لحل خصوماتهم وضمان حقوقهم، بعيداً عن تدخل مرجعيات 'قضائية' أخرى تنافسها، وتفرض أحكامها وإملاءاتها، فإلى أي درجة يتحقق مثل هذا الشرط في واقعنا الأردني!؟

لن نضيع الوقت في السعي إلى الإجابة، فكلنا يعرف الجواب، وكلنا يعرف أن هناك إشكالية مستعصية تستدعي التفكيك والحسم، وقد آن الأوان لأن نتوقف عن خداع أنفسنا ودس رؤوسنا في رمال التجاهل والمماطلة والتأجيل، فنحن أمام خيارين لا ثالث لهما، وسنجد أنفسنا مجبرين يوماً ما، بعد أو قرب، شئنا أم أبينا، على تسويد أحدهما، فإما القانون المدني العصري، الذي لا أحد ينكر حاجته المسيسة إلى إصلاحات كثيرة وجذرية وشاملة، وإما القوانين العشائرية، التي تنتمي إلى عصور بعيدة خلت، ولا أدري إذا كان من الحكمة أو التمدن أو مواكبة العصر ـ ونحن أجرأ أهل الأرض على ادعاء الحكمة والتمدن ومواكبة العصر ـ الإصرار على استحضارها وتغليبها في مجتمعنا الذي نصدع رؤوس العالم صباح مساء بأنه مجتمع حديث ومتقدم ومتعلم!

لكن الأمر ليس بتلك البساطة حتماً، ففي القوانين العشائرية الكثير من الجوانب الإيجابية التي قد لا يحسن التفريط فيها، التي تكاد تبدو أكثر مرونة وعملية وقدرة من قوانيننا الحديثة على حل الكثير من نزاعاتنا، فأين الخلل هنا!؟ أتراه في تلك القوانين العتيقة التي تدعي الكفاءة ولا تريد أن تقنع بالتقاعد وإخلاء الساحة لقوانين أكثر شباباً وتمدناً!؟ أم تراه في هذه الأخيرة، التي تبدو هشة ومائعة وقاصرة عن إقناع الناس باتباعها!؟ أم لعل الخلل يكمن فوق هذا وذاك في بنية النظام الحكومي نفسه!؟ هذا الذي يبدو حائراً وعاجزاً عن حسم أمره والانحياز للخيار الذي ما انفك يدعو إليه، أي خيار الحداثة والتحديث، مع التعهد الجدي بالدفاع عن هذا الخيار، والقيام بالخطوات والإصلاحات الجذرية التي تجعله جديراً بالتأييد والدفاع عنه؛ الأمر الذي من شأنه استرجاع توازن الدولة وتأكيد مصداقيتها وانسجامها مع طروحاتها الطموحة، وإظهار التزامها الحقيقي بالسير على طريق التنمية والديمقراطية والتقدم.

إن هناك حاجة ضرورية وملحة لا يجدر مواصلة التهرب منها لأن تلقي الدولة بكل ثقلها لدعم رؤى عصرنة المجتمع وتحديثه بصورة حقيقية، دون أن يعني ذلك بكل تأكيد إحداث القطيعة مع القوى العشائرية، التي باتت مؤهلة، نظرياً على الأقل، للانخراط في ركب التقدم وإثراء مشاريع الإصلاح وتوجهاته، ودون إشعار تلك القوى بأن تخليها عن قوانينها القديمة قد يعني خلخلة أركانها أو تهديد حضورها الفاعل على الساحة الوطنية. وبكل تأكيد، فإن الحديث هنا لا يتناول القيم العشائرية النبيلة، التي ينبغي أن تظل مظلة مشرعة تحتضن مبادئ المروءة والنبالة والتكافل والعدالة، يستظل الجميع تحت ظلها، وتشكل صمام أمان رقابي يحول دون تورط الدولة بالخروج عن نهج العدالة والإصلاح.

راهناً، لا يحتاج المرء إلى كثير من التدقيق وإمعان النظر كي يلاحظ بأن العشيرة، بالرغم من كل ما حاق بها من صور الضعف والتفكك، تنازع الدولة ومؤسسات المجتمع المدني أدوارهما الشرعية التي يفترض أن يؤدياها! فمثلاً، ما يزال الفرد في كثير من الحالات يستجير بعشيرته لحمايته من عسف فعلي أو متوهم من جانب الدولة، عوضاً عن لجوئه إلى مؤسسة القضاء الرسمي للذود عنه! وما يزال يقصد نائب العشيرة كي يساعده على تأمين وظيفة ما، بدلاً من أن يتوجه إلى نقابة مهنية أو رابطة عمالية متخصصة! وما يزال يستعين بدعم عشيرته إذا ما انتوى ترشيح نفسه للانتخابات البرلمانية، مشيحاً بوجهه عن عشرات الأحزاب الباهتة التي يفترض أن ترعى حملته الانتخابية وتوجهها!

إزاء ذلك الدور المتضخم للعشيرة، الذي يصعب تماماً تبريره في مجتمع يسبّح باسم الحداثة آناء الليل وأطراف النهار، يمكن أن نفهم، إلى حد ما، لماذا تقوم الدنيا ولا تقعد عندما تغفل الحكومة تعيين ممثل عن عشيرة من العشائر في بعض مجالسها. ويمكن أن نفهم، بصورة ما، لماذا تندلع المعارك المؤسفة بين عشائر كاملة بسبب حماقة واحد من أبنائها، ويمكن أن نفهم، بقدر ما، لماذا تغدو مؤسسة رسمية كبيرة بحجم وأهمية مؤسسة الأمن العام نفسها، غريماً مباشراً للعشيرة في بعض الأحيان، مع أن الأصل أن تكون تلك المؤسسة طرفاً محايداً لا ينبغي له أن يدخل في خصومات تطعن في مؤسسيته وترفعه عن الشخصنة.

لكن مطالبة العشيرة بالتخلي عن دورها القانوني قد لا يمثل حلاً مأمون العواقب في ظل المعطيات القائمة إذا أردتم الحق؛ إذ إن هناك مشكلة أخرى معقدة سرعان ما تطل برأسها، فحتى وإن قررت العشائر فجأة أن تتخلى عن تشريعاتها التقليدية راضية مختارة من أجل تسليم زمام الأمور القانونية جملة وتفصيلاً للدولة، فهل الدولة جاهزة فعلاً لحمل ذلك العبء الكبير!؟ وما الذي يضمن أن تحسن الدولة سياسة الأمور وإدارتها دون الانزلاق، ولو بعد حين، إلى تصفية الحسابات والاستقواء على الناس ما داموا قد تخلوا عن المظلة العشائرية التي لطالما وفرت لهم قدراً مهماً من الحماية والإنصاف والإحساس بالأمان!؟

يبدو أن الكرة هي فعلاً في ملعب الدولة، فهي بحاجة إلى أن تمضي قدماً على طريق الإصلاح وتوثيق، حتى لا أقول استرجاع، ثقة الناس بها، لتثبت للعشائر، بل للجميع، مؤسسيتها ونزاهتها وديمقراطيتها وتعاملها مع سائر مكونات المجتمع بمنتهى العدالة والمساواة، مع توفير الضمانات القطعية الراسخة بعدم تراجعها عن التزاماتها وخطواتها الإصلاحية والديمقراطية تحت أي ظرف كان.

والدولة كذلك بحاجة إلى رفع قبضتها عن مؤسسات المجتمع المدني المنكسرة، متيحة لها أن تتنفس وتعمل بحرية تحت الشمس، بعيداً عن سياسات التدجين والتتبيع. فتلك المؤسسات ليست منافساً أو مناكفاً لها في حقيقة الأمر، وينبغي التوقف عن النظر إليها والتعامل معها بتلك النظرة المستريبة، فهي ـ حسب ما نراه في التجارب الغربية ـ مؤسسات تشد من عضد الدولة، وتعمل على تحسين أدائها وحمايتها من التورط أو التمادي في انتهاج سياسات خاطئة، ومن ثم فإن دعم تلك المؤسسات وعدم مناصبتها العداء يغدو أمراً حصيفاً يصب في مصلحة الدولة في نهاية المطاف، ويحول دون اضطرار تلك المؤسسات إلى الارتماء في أحضان جهات خارجية مغرضة، أو إيجاد ذرائع قد لا تخلو من وجاهة لفعل ذلك!

الدولة، هي أم الجميع فيما هو مفترض، وهي الحاضنة للجميع فيما هو واجب، وهي المسؤولة الأولى والأهم، وفي كل الأحوال، عن عملية إعادة توزيع الأدوار وتحديد الصلاحيات وتقسيم المهام في المجتمع. ومن المخيب للآمال أن نجدها تتطلع إلى العشيرة، هذه التي ما تزال محكومة بتشريعات بدائية قد لا تتلاءم كثيراً مع متطلبات مجتمع عصري، أو إلى مؤسسات المجتمع المدني المتعثرة، التي لا تتورع بالرغم من ضعفها، وربما بسببه، عن الاستقواء بجهات أجنبية مشكوك في أهدافها، منتظرة منهما أن يحددا حركة المجتمع، لتكتفي هي في المقابل بالانشغال بالمراقبة والتصريف الآني للأعمال، واستنزاف وقتها وجهدها وإمكاناتها في خوض معارك هامشية صغيرة مثيرة للرثاء، من أجل إثبات سيطرتها على الأمور!


'
باحث أردني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق