الخميس، 4 فبراير 2010

خطاب الاصلاح وعوائقه بين تصورات المعارضة وطبيعة السلطة


بقلم الحبيب بوعجيلة

انتهيت في مقال سابق(ثالث الخطابات ...الطريق الجديد 30/1/2010 ص 7 ) إلى الوقوف عند استخلاص أساسي مفاده تحول خيار الإصلاح إلى ضرورة تقتضيها اكراهات واقعية ونظرية – داخلية وإقليمية ودولية .وبينت أن ما يثبت هذه الضرورة إجماع الخطابين الرسمي والمعارض على هذا المطلب غير أنني أكدت في المقابل أن هذا المطلب لن يخرج من مرتبة الطموح النظري إلى التحقق الفعلي ما لم تعمد السلطة والمعارضة معا إلى مراجعات موجعة في مستوى هيكليتها وخطاباتها ومناهج تحركها للتمكن فعلا من تفعيل مطلب الإصلاح السياسي .
إن ما نشهده الآن هو تحول الطموح إلى الإصلاح السياسي إلى معضلة حقيقية إذ تتبناه السلطة على مستوى خطابها دون أن تحوله إلى واقع ملموس ولن تقدر على ذلك ما لم تعمد إلى تغيير عميق في بنيتها وطبيعتها وأشكال تعاطيها مع المجتمع أي بعبارة أخرى ما لم تتمكن من مغادرة صورتها الموروثة من مرحلة تشكلها وتطورها غداة الاستقلال . إن السلطة الحالية والتي لا يغيب عنها الإحساس بضرورات الإصلاح الفعلي تبدو حبيسة نزعة محافظة موروثة عن طبيعة نشأتها الأولى مما يجعل خطابها وفعلها الإصلاحي لا يتجاوز أفق الديماغوجيا السياسية والإجراءات القانونية التي بقيت حبيسة النص المنطوق والاستعراض المشهدي المحدود .ولا شك أن هذا التحول الفعلي من سلطة محافظة إلى سلطة محكومة بجاذبية الإصلاح يحتاج وعيا حقيقيا بواقعية الاكراهات وهو ما عجزت عن تفعيله معارضة متعددة الأطياف مشدودة بوعي أو بدونه إلى ماضيها الأيديولوجي ومناهجها التقليدية في الممارسة و مفتقرة إلى القدرة على صياغة واستيعاب نظرية الإصلاح الضرورية لكل فعل نافع ومنتج فقد علمتنا دروس السياسة النظرية انه لا حركة مجدية بدون نظرية دقيقة تفقه الواقع واليات الفعل فيه وتحدد الغايات والوسائل بوضوح ولعل ضمور الجهد النظري للمعارضة الإصلاحية هو ما جعل نضالها لا يتجاوز مرتبة النشاط بما تعنيه الكلمة تدقيقا في مقابل مفهوم الحركة . أن كل ما يفعله طلاب الإصلاح الذين لا يدركون معناه وشروطه الواقعية لا يتجاوز الآن كتابة بيانات التشهير التي لا يقرؤها غير كتابها والضغط عبر اجتماعات لا تنعقد أو باختزال للمطلوب السياسي في المربع الحقوقي المفصول عن واقعه الجغرافي والاجتماعي و المجتزأ عمدا أو سهوا من سياقه الإصلاحي السياسي العام .
وبناء على هذا التوصيف افترض أن أولى خطوات الإعداد لتحول المطلب الإصلاحي إلى مشروع فعل يتقدم باستمرار نحو مراسي تحققه تقتضي قراءة الواقع السياسي سلطة ومجتمعا ومعارضة للمرور تاليا إلى ضبط مبررات الإصلاح السياسي وصولا إلى تحديد غاياته الحقيقية ومعانيه الفعلية بما يسمح أخيرا بتحديد آلياته ووسائله وحوامله أي القوى المؤهلة إلى تبنيه وفي هذا السياق تحضرني فكرة رشيقة للدكتور" محمد عابد الجابري" حين يعتبر أن دراسة تشكل المجتمع والدولة في الأقطار العربية وتحديد المقصود بقوى المجتمع المدني وضبط معاني الإصلاح أو الانتقال إلى الديمقراطية هو السبيل الوحيد لترشيد الفعل الإصلاحي وهو ما يقتضي خلفية نظرية تربط الباحث والمناضل من اجل الإصلاح بمعطيات مجتمعه وأنواع الصراع فيه واتجاه الحركة داخله بدل أن نبقى مشدودين إلى مفاهيم وأساليب في الإصلاح صيغت وفعّلت في واقع آخر غير واقعنا العربي .وهذا لا يعني أن نتغافل على أهمية الممارسة السياسية والنضال العملي ولكن فعلا بلا تصورات يبقى ضحية لما يمكن أن أطلق عليه اسم العمى الاستراتيجي ..(للتعمق انظر الجابري / في نقد الحاجة إلى الإصلاح /مركز دراسات الوحدة – بيروت –سبتمبر 2005 )
إن أهم ما يجب أن يدركه المناضل الإصلاحي في تونس أن السلطة الحالية هي بطبيعة الحال استمرار للدولة التونسية الجديدة التي تشكلت غداة الاستقلال كغيرها مما يسمى "بالدول الوطنية ما بعد الكولونيالية "التي أسستها نخب الحركات الاستقلالية بعد أفول حقبة الاستعمار القديم أواسط القرن المنصرم . ولا سبيل اليوم لتجاوز معضلة التعثر التي يشهدها مسار الإصلاح والانتقال الديمقراطي كحاجة ناشئة ومعاصرة دون أن نفهم طبيعة هذه الدولة وخصائصها بعيدا عن التصورات الجاهزة المعدة سلفا لتفسير طبيعة الدولة /الأمة التي نشأت في الغرب بعد الثورات البرجوازية الحديثة بداية من القرن 18 حين ندرك الطبيعة الحقيقية لدولتنا التونسية نستطيع أن ندرك طبيعة علاقتها مع المجتمع وكيفية الاشتغال على الانتقال بها من خاصية تسلطية لا تاريخية إلى خاصية ديمقراطية بالمعنى والمضامين التونسية . لاشك طبعا أن مقولة "الدولة القطرية والرجعية التابعة" كما حددتها التيارات القومية في نصوصها الأساسية تبدو مقولة ضعيفة لا تستطيع أن تتطابق بطبيعة الحال مع القوى التي قادت وحققت الاستقلال الوطني وقادت معركة بناء المجتمع وعملية التنمية كما أن التحليل الماركسي يبدو قاصرا في تقديري على تحليل طبيعة الدولة الوطنية ومن بينها دولتنا التونسية (سواء اعتبرنا نظرية الدولة عند "ماركس" كما بلورها في كتابيه "نقد فلسفة الحق" عند "هيغل" و "البرومير 18للويس نابليون" ..أو نظريته كما ظهرت في كتاباته الخطابية مثل "البيان الشيوعي" (انظر "العرب ومشكلة الدولة" /نزيه الأيوبي / دار الساقي /بيروت – لندن 1992 ) حين أؤكد على ضرورة القطع مع نظرية الدولة كما صيغت لدى هذه التوجهات الأيديولوجية الجذرية فانا المح إلى أن عديد القوى المشتغلة اليوم على مطلب الإصلاح تبدو مشدودة إلى هذه التصورات الكلاسيكية التي لا تستطيع أن تكون خلفية نظرية لفعل إصلاحي .إذ لا شك أن قراءة سريعة لأعماق مطالب وشعارات ومناهج فعل عدد من القوى المسماة إصلاحية اليوم تجعلنا ندرك أن الفكرة الإصلاحية لم تتبلور في رؤى وبدائل ومناهج هذه القوى لتبقى قشرة خارجية وليبقى السؤال لماذا لم نحقق الإصلاح سؤالا قريبا للغباوة لان العديد ممن يطرحون هذا الإصلاح لم يتحولوا إلى إصلاحيين فعلا ....
نحسم القول بالتأكيد أن المطلب الإصلاحي يتوجه إلى تطوير وضع سياسي شكلته ما يسميه علماء معاصرون "بالدولة العضوية في العالم الثالث" .أن المقصود بالدولة العضوية هي دولة الاستقلال الوليدة التي تصدت أواسط القرن الماضي
لمهمة ثلاثية تتمثل في بناء النظام السياسي وبناء المجتمع وبناء الاقتصاد .هذه المهمة التاريخية التي اعتمدت على نظريات "التنمية الدولتية" في ذلك الوقت شغلت بطبيعة الحال وسائل عديدة تفضي بالضرورة إلى الانزياح نحو مظاهر التسلط السياسي وهي وسيلة الزعيم والحزب القائد ومفهوم الوحدة الوطنية عبر احتكار إعادة التوزيع للثروة وتعيين منظمات التمثيل الاجتماعي .من هذا المنطلق نفهم تماما طبيعة المجتمع الذي انشاته هذه الدولة من حيث هو مجتمع مندغم في الدولة مشدود إلى العلاقات الزبائنية في مستوى طبقاته الوسطى والدنيا أما طبقاته العليا فهي طبعا ليست برجوازية حديثة يمكن أن تكون حاملة لمطلب الانتقال الديمقراطي كما حدث في دول المركز الغربي بل إنها في الغالب قوى ثرية أو منتمية إلى بيروقراطية الدولة مما يجعلها بطبعها محافظة شديدة الارتباط بأجندة السلطة الحاكمة .في ظل هذه الوضعية يبدو المطلب الإصلاحي على العموم مطلبا ناقص الإغراء أو محدود الأفق ويبدو السير به إلى أقاصيه دون إعداد الشروط اللازمة له ضربا من ضروب المغامرة يحول النضال الإصلاحي إلى نوع من أنواع الاستمتاع الوهمي أو الكفاحية الملحمية المورثة للإحباط والتراجعات ( لمزيد التعمق في طبيعة الواقع السياسي والاجتماعي يمكن العودة إلى الدراسة القيمة التي نشرها قسم الدراسات /اتحاد الشغل /الديمقراطية والتنمية والحوار الاجتماعي /الأستاذ الرديسي وآخرون....تونس أكتوبر 2006 )
إن فهم المبررات الحقيقية للتسلط وضمور أو فشل السير الجاد نحو الإصلاح هو وحده الذي سيسمح لقوى المعارضة الإصلاحية بتعيين مبررات الإصلاح ومضامينه وغاياته وصولا إلى آلياته وسائله بما يحول هذا المطلب إلى شعار مشترك تلتقي حول ضرورة التسريع به كل القوى الاجتماعية والسياسية بالبلاد وهو ما نهتم به في مقالات لاحقة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق