الخميس، 4 فبراير 2010

حماقة بريطانيا في العراق


- محمد عارف
أفضل تقييم لشهادة رئيس وزراء بريطانيا السابق أمام لجنة التحقيق حول حرب العراق قول الأديب الفرنسي الساخر موليير: "أحمقٌ عارفٌ أكبر حمقاً من أحمق جاهل". حماقة بلير خلال الاستجواب جعلت صحيفة "الغارديان" تشكك بسلامته العقلية. وليس سهلاً على صحيفة بريطانية رئيسية القول عن زعيم سياسي فاز بالانتخابات ثلاث دورات متتالية أنه يعيش في كوكب آخر "يذوب فيه اليقين وتصبح الأباطيل حقائق. الوقائع تتحول إلى آراء والأحكام إلى إثباتات. كلا الفشل والنجاح شيء واحد. ولا يُعتبرُ غزو العراق كارثة في ذلك الكوكب الغريب، بل ضرورة وحتى عملاً بطولياً".

وكمعظم الذين أفقدتهم كارثة حرب العراق بصيرتهم، يصعب معرفة ما إذا كان هوس بلير بالرئيس العراقي الراحل يعود إلى اعتقاده فعلاً بمسؤوليته عن كل ما حدث، أم أنها حجة يغطي بها ورطته بالحرب. وأيّاً كان الأمر فإن صدام حسين الذي ذكره بلير نحو عشر مرات، مسؤول عن أشدّ تخبطاته في شهادته. فهو يستهل الشهادة بذكر حادث تفجير الطائرتين في 11 سبتمبر في نيويورك، ويستنتج من ذلك مباشرة ضرورة التخلص من صدام! لجنة التحقيق التي تتكون من خمسة موظفين كبار سابقين لم تستفسر عن علاقة ذلك بالعراق الذي ثبت أن لا صلة له بالتفجير ولا بـ"القاعدة" المسؤولة عنه.
ورغم شهادات مسؤولين اعترفوا بخطأ تقديرات الاستخبارات البريطانية حول امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، يُصر بلير على أن الاستخبارات كانت مصيبة في اعتبار "صدام رجلاً من النوع الذي يريد الحصول على تلك الأسلحة". ويخاطب اللجنة قائلاً: "لا تسألوا سؤال شهر مارس 2003، لكن اسألوا سؤال 2010. افترضوا أننا كنا سنتراجع. ما نعرفه الآن أنه كان محتفظاً تماماً بالنية والمعرفة المطلوبة للبدء ببرنامج أسلحة كيماوية عندما يرحل مفتشو الأسلحة وتتغير العقوبات". ويعزز حجته بالتذكير حول ما كان يمكن أن يفعله صدام عندما يحصل على مائة دولار عن برميل النفط.
ولا حماقة أكثر حمقاً من الـ 45 دقيقة المشهورة التي أعلن بلير عشية تصويت البرلمان البريطاني على قرار الحرب أنها كافية لتنفيذ أوامر صدام بإطلاق الأسلحة. يلقي بلير الآن اللوم على صحافة الإثارة التي برّزت تلك الجملة من إعلانه، موضحاً: "كان ينبغي تصحيح ذلك على ضوء الأهمية التي أوليت لها فيما بعد"!
وعندما سئل عمّا إذا كان يدرك الفرق بين الأسلحة الميدانية والاستراتيجية أجاب بلير إنه لم يفكر بذلك كثيراً آنذاك. علماً بأن هذا الموضوع كان سبب استقالة رئيس البرلمان في حينه روبن كوك، الذي ذكر في كتاب استقالته بأن الأسلحة تشير إلى أن "صدام كان يمثل خطراً تكتيكياً وليس استراتيجياً"، والأسلحة الكيماوية التي يتهم باستخدامها في حلبجة أسلحة ميدانية، وليست أسلحة الدمار الشامل التي تقتل بضربة واحدة مائة ألف أو مليون شخص.
ولم يتحرر بلير من أسر صدام حتى عندما سأله رئيس اللجنة في ختام الجلسة التي استغرقت ست ساعات ما إذا كان يشعر بالندم، فأجاب "لا"، واستدرك قائلاً: "لست نادماً على إزالة صدام". ورغم التدقيق الأمني في هوية حضور الجلسة، وتحديد عدد ذوي العسكريين الذين قتلوا في الحرب وتوقعوا أن يعتذر لمصابهم، تعالت صيحات الاحتجاج: "بلير أنت كذاب"، "بلير أنت قاتل"!
وبلير يثير الرثاء بعبارته المكررة "بدون أيّ شك" التي يستند اليها كحجة قانونية، مؤكداً "بصراحة كنت أعتقد آنذاك بدون أيّ شك أني على حق". ولم يكتم أحد أعضاء اللجنة الجادين سؤالاً هزلياً: "بدون شكك أنت، أم بدون شك أيّ شخص"؟!
ولجنة الاستجواب نفسها تحتاج إلى استجواب استطرادها الاعتباطي عبر وقائع فاجعة، كقتل نحو مائتي مجند بريطاني في الحرب، وأكثر من 150 ألف عراقي، وإرسال نحو 45 ألف عسكري من دون سترات واقية، وعدم وجود أي تخطيط لما بعد الغزو، أو ما يُسمى إعادة الإعمار. والاستطراد اعتباطي حتى داخل سؤال واحد يتكون من ست جمل يوجهه عضو في اللجنة ينسى سؤاله في آخر جملة، فيما يمر دون تساؤل ادّعاء بلير الجهل بقرار إلغاء القوات المسلحة العراقية، أو قوله إنه لم يعلم بقرار اجتثاث "البعث" وحل أجهزة الدولة إلاّ بعد إعلان الأميركيين له.
ولا يشهد التحقيق على حالة بلير الذهنية فقط، بل حال لجنة التحقيق نفسها التي اختار أعضاءها براون، وبينهم يهوديان. فمارتن جلبرت ولورانس فريدمان، مؤيدان للحرب على العراق وصديقان لإسرائيل، وأحدهما مؤيد ناشط للصهيونية. كشف ذلك أوليفر مايلز، سفير بريطانيا السابق في ليبيا عبر مقالة بصحيفة "إندبندنت" عنوانها: "هل بلير مجرم حرب"؟
الحكم على ذلك للأديب البريطاني جورج أورويل الذي يقول: "اللغة السياسية مصممة لجعل الأكاذيب حقائق، وجرائم القتل محترمة، وإضفاء مظهر من الصلادة على ريح جوفاء". والريح الجوفاء تعوي في التحقيق عند سؤال بلير عن سبب تجاهل طلب هانز بليكس، رئيس فريق مفتشي الأسلحة في العراق، مهلة بضعة أسابيع لتقديم معلومات نهائية لمجلس الأمن. ألقى بلير اللوم على روسيا وفرنسا، مدّعياً تراجعهما عن الموافقة على قرار مجلس الأمن بجواز استخدام القوة إذا ثبت امتلاك العراق للأسلحة.
ادّعاءات كهذه في عصر الإنترنت لا تبلغ باب قاعة الاستجواب، فالإعلاميون الذين يغطون الحدث يستدعون خلال دقائق نص نفي فرنسي رسمي قبل الغزو ادعاء بلير. ويُضّمن النص في التغطية الفورية في المواقع الإعلامية التي لا تُقرأ من اليسار إلى اليمين، كما بالإنجليزية، أو من اليمين إلى اليسار كما بالعربية، أو من الأعلى للأسفل كما باليابانية، بل من أسفل إلى فوق، حسب تسلسل نضدها المباشر على شاشة كومبيوتر المراسل داخل القاعة!
ولقي المصير نفسه تناقض تأكيد بلير بأنه دخل الحرب بسبب أسلحة الدمار الشامل مع تصريح سابق لتلفزيون "بي بي سي" بأنه كان سيشن الحرب لتغيير النظام في العراق، حتى لو ثبت عدم امتلاكه الأسلحة. وابتسم بلير مستعطفاً: "حتى مع كل تجربتي في التعامل مع الأحاديث الصحفية، ما زال هناك كما يبدو أشياء عليّ تعلمها"!
أهم درس سيقضي بلير عمره في تعلمه أن كتُب التاريخ، كما يقول المؤرخ البريطاني كولينغود "تبدأ وتنتهي، لكن الأحداث التي تصفها لا تنتهي". وهل تنتهي حرب حمقاء حوّلت سادس قوة اقتصادية عالمية، وخامس قوة عسكرية على وجه الأرض، إلى دولة خارجة على القانون، حسب شهادة إليزابيث ويمشرست، المستشارة القانونية بوزارة الخارجية التي استقالت محتجة قبيل الحرب، وجاءت لتقديم شهادتها وقد لفت عنقها بشال عربي بلون فستقي أخضر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق