الجمعة، 16 أبريل 2010

البعث والمقاومة: علاقة متجددة ومراجعة واجبة


معن بشور**

لم يتردد البعثيون الأوائل في دمشق، وحتى قبل تأسيس حزبهم في 7 نيسان 1947، في أن ينتصروا لثورة العراق عام 1941، فشكّلوا لجان نصرة العراق في مقاومته للمحتل البريطاني ليعلنوا التأسيس النضالي لحركة البعث العربي قبل تأسيسها الرسمي.
ولم يتردد البعثيون أيضاً في سوريا أن يلبسوا زيّ الدرك السوري عام 1946 ليشاركوا في الانتفاضة على القصف الاستعماري الوحشي لدمشق وللبرلمان السوري قبل أن يحمل جيش الانتداب الفرنسي عصاه ويرحل في مثل هذه الأيام من عام 1946.
كما لم يتردد البعثيون فور الإعلان عن تأسيس حزبهم عام 1947 في أن يتوجهوا إلى فلسطين وعلى رأسهم القادة المؤسسون ليشاركوا في الدفاع عن أرضها في وجه الغزاة الصهاينة فعمّدوا ولادة حركتهم بدماء شهداء لن تنساهم فلسطين وفي مقدمهم مأمون البيطار وفتحي الاتاسي ومحمد جديد...
ولم يتردد البعثيون في أقطار المشرق العربي كلها، في سوريا والعراق والأردن وفلسطين ولبنان، كما في البحرين ودول الخليج في أن ينتصروا لمقاومة شعب مصر العربي بقيادة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر في مواجهة العدوان الثلاثي عام 1956، وأن يصنعوا مع أحرار أرض الكنانة نصراً في بور سعيد، ثم وحدة رائدة بين القاهرة ودمشق.
ولم يتردد البعثيون في الخمسينات أن ينتصروا لثورة الجزائر ومعها حركات المقاومة في المغرب العربي كله، فتطوع منهم الكثير، مقاتلين وأطباء ومثقفين، ليكونوا في صفوف الثوار، فيما احتضنت جماهير البعث ومعها كل أحرار الأمة ثورات التحرر تلك على كل صعيد، وهو ما ينبغي أن يفعله اليوم كل عربي مع مقاومة العراق وفلسطين ولبنان.
ولم يتردد البعثيون في لبنان في الوقوف مع أحرار بلدهم، في بيروت وطرابلس والبقاع والجنوب والجبل، ضد حلف بغداد، ثم ضد مشروع إيزنهاور، فحملوا السلاح وقدموا الشهداء البررة ليطردوا الأسطول السادس من شواطئ عاصمتهم وليسقطوا أوهام المراهنة على الأجنبي ضد خيارات الشعب وإرادته، وكان ابن طرابلس الشهيد جلال نشوتي أول الشهداء في انتفاضة 1958.
ولم يتردد البعثيون في اليمن المشطّر في الستينات في حمل السلاح ليقاوموا الملكية البائدة في الشمال والاستعمار البغيض في الجنوب حتى انتصر اليمن على التخلف وعلى الاستعمار معاً للسير قدماً على طريق الوحدة التي يحاولون النيل منها اليوم، وتحت مسميات مختلفة، مستفيدين دون شك من ثغرات وأخطاء نأمل بتجاوزها.
ولم يتردد البعثيون على امتداد الأمة كلها، وفي سوريا ولبنان خصوصاً، في أن يحتضنوا منذ الساعات الأولى الرصاصات الأولى التي أطلقها ثوار العاصفة في حركة (فتح) بقيادة الرئيس الشهيد ياسر عرفات ورفيق دربه الشهيد القائد خليل الوزير (أبو جهاد) في 1/1/1965، رافضين كل التنظيرات والتبريرات التي انطلقت للتشكيك بخيار الكفاح المسلح آنذاك وكانت واسعة وكثيرة كما هي اليوم.
ولم يتردد البعثيون اللبنانيون في أن يخوضوا بعد حرب 1967 غمار المقاومة والدفاع عن أرضهم فاستشهد منهم في شبعا والهبارية وكفر حمام وكفر كلا والطيبة رواد المقاومة اللبنانية المعاصرة فسقط في سماء الجنوب في أواخر الستينات وأوائل السبعينات نجوم أبطال كأمين سعد (الأخضر العربي)، وواصف شرارة، وحسين علي قاسم صالح، والثلاثي الطرابلسي النضر أبو النصر وأبو النسور وأبو ميكل، وصولاً إلى شهداء الملاحم الكبرى في أواسط السبعينات في جنوبنا المقاوم الشامخ وهم أبو علي حلاوي وعلي وعبد الله وفلاح شرف الدين.. فكتبوا صفحات مجيدة في مقدمة كتاب المقاومة المظفّرة، الوطنية والإسلامية، التي طردت المحتل من بيروت عام 1982، ثم من الجبل كما من أجزاء واسعة من الجنوب والبقاع وصولاً إلى إنجاز التحرير عام 2000، وملحمة الصمود مع الشعب والجيش ضد العدوان عام 2006.
ولم يتردد البعثيون في العراق وسوريا وحيث وجدوا في ساحات الوطن العربي في الانتصار لانتفاضة أطفال الحجارة عام 1987 وانتفاضة الأقصى عام 2000 وفي احتضان ذوي الاستشهاديين والجرحى والأسرى في مواجهة كبرى مع الضغوط الاستعمارية والصهيونية التي وصلت إلى حد الحصار والعدوان والاحتلال في العراق وإلى محاولات عزل سوريا وكسر إرادة شعبها وقيادتها ورئيسها لثنيهم عن احتضان المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق طيلة العقد الأول من القرن الحالي.
وأخيراً وليس آخراً، لم يتردد البعثيون مع كل أحرار العراق من إسلاميين وقوميين ويساريين ووطنيين، من عسكريين ومدنيين، في أن يحوّلوا يوم احتلال بغداد في التاسع من نيسان 2003، والذي أراده مجلس بريمر للحكم الانتقالي عيداً وطنياً، إلى يوم لانطلاق المقاومة العراقية الباسلة والمستمرة، في أسرع ردّ على المحتل، وفي فعل قوي متنام ما زالت تداعياته تتفاعل عراقياً وعربياً وإقليمياً ودولياً لتحبط المشروع الإمبراطوري الأمريكي الذي أراد له القيّمون عليه أن يكون مشروعاً لقرن كامل من الزمن، فنجح العراقيون المقاومون ومعهم أمتهم وشرفاؤها، وأحرار العالم، في أن لا يمكّنوه من العيش لعقد واحد، بل أن يجعلوا مع سائر شركائهم في المقاومة من هذا القرن، قرناً للمقاومة والمواجهة.
ولعل اختيار العدو ليوم التاسع من نيسان ليكون يوم انتصاره على الأمة كلها ليس من قبيل الصدف، ذلك أنهم أرادوا لانتصارهم المزعوم  في أيام تأسيس البعث أن يكون بداية لاجتثاث الحزب العريق، كما أرادوا الثأر من العراق في اليوم نفسه الذي بدأ فيه العراق (9 نيسان 1972) استثماره الوطني لثروته النفطية، لكن المقاومة العراقية، والبعث العربي، المتجدد بالمقاومة في بلاد الرافدين والمحصّن بالممانعة في عرين العروبة في دمشق، في القلب منها، حوّلت العراق إلى مقبرة للغزاة، الاستعماريين، والصهاينة من خلفهم وأمامهم، بل إلى مقبرة لمخططاتهم ومشاريعهم في المنطقة والعالم.
أيها الأخوات والأخوة
إن هذه العلاقة المستمرة بين البعث والمقاومة على امتداد العقود هي التي جعلت من البعث في العراق وسورية، وعلى امتداد الأمة، هدفاً لحروب واعتداءات، واتهامات، وحصار، واجتثاث، وإقصاء، وجرف قبور، وهدم تماثيل، ومحاكمات صورية، وإعدامات، واغتيالات، واعتقالات.
بل إن هذه العلاقة الحميمة المتجددة بين البعث والمقاومة لم تكن مجرد علاقة كفاحية جهادية يشهد لها الميدان من موريتانيا إلى السودان، ومن مصر إلى عمان، بل في كل مكان حملت فيه الأمة سلاحاً ضد أعدائها، لتكون بذلك موجودة، كما قال مؤسس البعث ميشيل عفلق "حيث يحمل أبناؤها السلاح"، بل كانت أيضاً علاقة فكرية نظرية سياسية لأن فكر البعث ولد في رحم مقاومة الأمة لكل التحديات المفروضة عليها، فكان وحدوياً لمقاومة التجزئة، واشتراكياً لمقاومة الاستغلال والاحتكار، وعروبياً جامعاً لمقاومة عصبيات الفتنة والتفتيت، وعصرياً لمقاومة التخلف، بل أدرك منذ تأسيسه أن الأمة تخوض معركة مصيرها على الجبهات كافة، وأن كل انتصار تحققه على جبهة أنما يعزز انتصارها على الجبهات كلها، فليست المعركة اليوم في فلسطين والعراق ولبنان سوى معركة واحدة في الرؤية الواحدة الموحدة لهموم الأمة، وليس الكفاح ضد الاستعمار معزولاً عن النضال ضد الاستغلال والاستبداد والهيمنة والتبعية، وليست معركة العروبة في دفاعها عن هويتها ووجودها غير معركة الإسلام وكل الرسالات الخالدة في الدفاع عن القيم الإنسانية والمبادئ الأخلاقية، فالإسلام هو روح العروبة، وهو عماد ثقافتها وجوهر حضارتها التي أسهم فيها عرب ومسلمون وغير مسلمين، ومسلمون عرب وغير عرب.
وحين كان البعث أو غيره من القوى الحيّة في الأمة يجسّد هذا التلازم بين المبادئ والسلوكيات والأهداف النهضوية، كان يقترب من ذاته ومن شعبه، وحينما كان يبتعد عنها لسبب أو لآخر كانت المسيرة تتعثر، والثغرات تبرز، والشوائب تطفو على السطح.
من هنا فإن المسؤولية التاريخية التي يتحملها البعثيون ومعهم كل قوى النهوض في الأمة، وحيثما هم، في كل قطر أو في كل ساحة من ساحات النضال، تتطلب منهم أن لا يكتفوا بالانتصار للمقاومة وترداد أناشيدها والهتاف بحياة أبطالها، وتمجيد شهدائها فحسب، بل أن يسعوا بكل إمكانياتهم الفكرية والنضالية إلى الارتقاء إلى مستواها، منتبهين دوماً إلى نصرة المقاوم المستعد للتضحية بحياته من أجل إيمانه ووطنه وأمته، (وقد رأينا تضحية مئات ألاف الشهداء منهم، وبينهم قادة نعتز بهم)، تتطلب منا بالمقابل أن نضحي بالصغائر التي تعيق حركتنا، وأن نترفع في أدائنا وعلاقاتنا وسلوكنا عن كل ما يشدّنا إلى عصبية ضيقة أو تناحر فئوي أو رواسب أليمة، أو حساسيات قديمة، فلا نبرر فعل برد فعل، ولا نواجه سلبية بسلبية، متذكرين دوماً الآية الكريمة:"محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفّار رحماء بينهم"، دون أن نتوسّع طبعاً في إطلاق اتهامات التكفير من حولنا، بل ندرك أن المقاومة بقدر ما هي معركة قاسية حازمة حاسمة ضد أعداء الأمة، فهي حركة إيجابية حاضنة متفهمة حانية على أبناء أمتها حتى ولو ضلّ بعضهم السبيل.
أيها الأخوات والأخوة
إن هذه المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقكم، كما على عاتق كل أحرار أمتكم إلى أي تيار عقائدي أو فكري انتموا، تتطلب أن نحصّن المقاومة الباسلة التي يحاولون تشويهها بكل السبل، وشيطنة صورتها بشتى الوسائل، بالمراجعة المستمرة والمتواصلة لكل تجاربنا، فالمراجعة كما المقاومة، تتطلب منا شجاعة غير عادية، نواجه بها أخطاءنا وخطايانا، كما نواجه أعداءنا والمعتدين علينا.
فالثبات في الحق فضيلة، فيما العناد في الخطأ رذيلة، التنازل بين أبناء الأمة الواحدة لبعضهم البعض فضيلة، فيما التعالي والمكابرة والغطرسة والتسلط رذيلة، المراجعة النقدية للتجارب التاريخية بإيجابياتها وسلبياتها فضيلة، فيما التراجع عن المبادئ والثوابت رذيلة.
وإذا كانت المراجعة تحصّن المقاومة وتوسّع آفاقها، فأن التلاقي بين قوى الأمة وتياراتها، وبين الأمة ودائرتها الحضارية الأوسع وصولاً إلى العالم كله، هو السند الأمتن للمقاومة والطريق الأقصر والأسلم للنهوض.
من هنا فبقدر ما يكون نداء البعث، حامي العروبة الجامعة العصرية الديمقراطية، هو نداء المقاومة والتحرير في العراق وفلسطين ولبنان وفي كل شبر محتل من أرض الأمة، فهو بالضرورة نداء الوحدة بين البعثيين، بغض النظر عن الصيغ التنظيمية، ونداء الوحدة بين العروبيين الوحدويين، بغض النظر عن تباين المشارب والمدارس، ونداء التلاقي بين تيارات الأمة، أياً كانت خلفياتها الفكرية والعقائدية، ونداء الترفع عن كل الخلافات والمنازعات والتناقضات الثانوية لصالح التوجه نحو التناقض الرئيسي، فإذا كانت اللغة الوحيدة التي يفهمها المحتل الاستعماري والصهيوني هي لغة المقاومة والكفاح بكل أشكالها، فأن اللغة الوحيدة التي ينبغي استخدامها داخل أقطارنا وبينها، وداخل أمتنا وبينها وبين أمم الجوار الحضاري من حولنا، مهما أخطأت تجاهنا أو أخطأنا بحقها، ومهما قست علينا أو قسونا عليها، هي لغة الحوار لا الاحتراب، التواصل لا الانقطاع، لأننا حين نطرد المحتل، أمريكياً كان أو صهيونياً، من أرضنا، فأننا نطرد معه بالضرورة كل الأمراض والمفاسد والفتن والتدخلات التي أدخلها معه أو أفسح المجال لدخولها.
في عيد البعث نحيي كل البعثيين المقاومين والمناضلين والممانعين في العراق وسورية وكل أقطار الوطن العربي، ونحيّي معهم شرفاء الأمة وأحرار العالم المتكاثرين من حولنا، ونحيّي مؤسسي هذه الحركة المتجددة دوماً بالمقاومة وفي مقدمهم مؤسس البعث الأستاذ ميشيل عفلق.
في يوم المقاومة العراقية نحيّي كل المقاومين البواسل في عراق الشموخ والآباء، نحيّي الشهداء منهم ومن ينتظر وما بدّلوا تبديلاً، نحيّي الرئيس المقاوم الشهيد صدام حسين الذي كانت آخر كلماته، وهو يواجه الإعدام بشجاعة المقاومين ورباطة جأش المؤمنين، النطق بالشهادتين والتحية لعراق عظيم يستحق أن تبذل في سبيله المهج والأرواح ولفلسطين حرّة عربية يدفع العراق اليوم، كما أبناء الأمة كلها، أفدح الأثمان وأبهظها بسببها، كما نحيّي كل مقاوم في فلسطين ولبنان وصولاً إلى أفغانستان وكل أصقاع الدنيا...
في عيد البعث نحيّي أيضاً دمشق التي كانت مهد البعث زمن الولادة، وقد باتت اليوم ومنذ عقود حصن الأمة وعرينها، ونحيّي من خلالها شعب سورية المكافح الآبيّ وقيادته ورئيسه الشاب المقاوم والشجاع، القائد المعتز بانتمائه البعثي والقومي العربي والتقدمي الدكتور بشار الأسد الذي نعرف أن الحصار ومحاولات العزل الذي تعرضت إليه سورية وقيادتها إنما كان بسبب موقفه من احتلال العراق، ومن الحرب على العراق الذي أعلنه في قمة شرم الشيخ، يومها ذهبتم جميعاً، وبعضكم للمرة الأولى منذ سنوات طويلة، إلى دمشق عبر بعبدا في مسيرة كبرى، هي مسيرة الكرامة والوفاء في 9 آذار 2003، لإعلان التأييد لمواقف الرئيسيين الأسد ولحود لما كان يحاك للعراق.
ونحيّي بشكل خاص عشرات الآلاف من أسرانا والمعتقلين في معسكرات الاعتقال الأمريكي والصهيوني مؤكدين لهم أن قضيتهم ستبقى حيّة مهما طال الزمن وسيكون بإذن الله ملتقانا العربي الدولي لنصرتهم في الخريف القادم من هذا العام، تظاهرة إنسانية كبرى من أجلهم، من أجل طارق عزيز ومروان البرغوثي وأحمد سعدات ورفاقهم، وكل الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال.

بيروت: 10/4/2010




[*]  - كلمة ألقيت في مهرجان أقامه حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي في ذكرى تأسيس البعث، وانطلاق المقاومة العراقية، وذلك في 11/4/2010 في مسرح سينما اريسكو بالاس – بيروت، وتحدث فيه أيضاً رئيس الحزب الدكتور عبد المجيد الرافعي، وأمين سر حركة فتح في لبنان فتحي أبو العردات، وعضو قيادة المؤتمر الشعبي اللبناني المهندس سمير طرابلسي، المتحدث الرسمي باسم حزب البعث العربي الاشتراكي ومقاومته في العراق الدكتور خضير المرشدي، والمحامية بشرى الخليل، وقدم المهرجان الشاعر عمر شبلي.
 ** - المنسق العام لتجمع اللجان والروابط الشعبية، الرئيس المؤسس للمنتدى القومي العربي، منسق عام الحملة الأهلية لنصرة فلسطين والعراق، الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق