الاثنين، 16 نوفمبر 2009

لأبو مازن أن يرمي القفّاز بوجههم والكرة في ملعبهم

بقلم: آصف قزموز

15/11/2009

بعد خمسة عشر عاماً عجافاً من التفاوض المضني والملحّ، وببرنامج وطني فلسطيني واضح جريء وشفّاف، زاخر بالواقعية السياسية الصريحة، لا يعرف الغموض ولا التورية. يقف الرئيس أبو مازن اليوم أمام جدار صد سياسي وطريق مسدود لم يترك أمامه خيارات سوى رمي القفّاز بوجه الثنائي كلينتون - نتنياهو، معلناً موقفاً جريئاً ومعلّلاً يحمل قدراً كبيراً من التحدي عن عدم نيته في الترشّح لولاية قادمة من جهة ودقّ ناقوس الانتخابات التشريعية والرئاسية في موعدها المحدد.

نحن لا ننكر المصالح الخاصة بكل الأطراف المفاوضة أو الراعية أو الحليفة في تعارضها أو تقاطعها مع المصلحة الفلسطينية، لكن ثمة مساحة من الهامش الأخلاقي في الالتزام الدولي باتت تتسع اليوم لحجم العتب والاحتجاج الفلسطيني الذي أوصل الرئيس أبو مازن لما ذهب إليه.

كثرت التحليلات وتنوّعت التوصيفات، فعزى الكثيرون التراجع الدراماتيكي في الموقف الأميركي حدّ التجاوب مع الموقف الإسرائيلي، لأسباب تتعلق بما يشاع عن تقدم الحوار الأميركي السري الجاري مع حركة "حماس" من جهة، واستحقاقات فشل سياسات واشنطن في كل من العراق وأفغانستان وضغط الملف الإيراني على كاهل السياسة الأميركية، الذي جعل الإدارة الأميركية في موقف أكثر ضعفاً وأقلّ قدرةً على الضغط في ملفنا التفاوضي وأمسّ حاجة لجهة كون إسرائيل الشرطي القوي وذا السطوة الذي يمكن الاعتماد عليه عند الشدائد في الذود عن السياسات والمصالح الأميركية ودعم نشاطاتها في غير منطقة من العالم. لكن ما يعزز المخاطر المحدقة بالوضع التفاوضي الفلسطيني مع الإسرائيليين في هذه اللحظة بالذات، ربما تقاطع رؤية شاؤول موفازحول خيار الدولة الفلسطينية المؤقتة بحدود مؤقتة، مع ما سبق أن دعت وروّجت له حركة حماس، وسبق أن أطلقه شارون من قبلهم، ناهيك عن تزامن هذا العرض من قبل موفاز مع لحظة حمساوية حرجة وهي بأمسّ الحاجة لمخرج سياسي من عنق الأزمة التي وضعت نفسها بها في أعقاب الانقلاب الدامي في غزة، الأمر الذي بدا واضحاً أكثر من خلال ما ذهب إليه رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل مؤخراً، حين أشار من دمشق لمسألة القبول بتجميد مؤقت للاستيطان. وبالتالي بات الأمر أكثر جلاءً ووضوحاً للعيان والآذان دور العرقلة المضافة الذي تلعبه حماس في عملية إفشال التفاوض سواء من خلال الانقلاب وما قبله أو من خلال المفاوضات السرية والعروض التفاوضية المضاربة والمغرية المباشرة وغير المباشرة، التي ظلت تطلقها حماس ولا تزال، مع الأخذ بالاعتبار ومراعاة مخاطر ولؤم التوقيت والمصالح الفئوية في التفويت.

الرئيس أبو مازن منسجم مع نفسه تماماً ولم يلق القفاز على هذا النحو لولا وصوله إلى طريق مسدود في التفاوض مع الإسرائيليين الذين يختلقون الأعذار والمفسدات ويتهرّبون من تقديم أية استحقاقات تجاه السلام على امتداد الحكومات المتعاقبة وإن اختلفت لغة وأشكال السيناريو بين حكومة وأخرى مع بقاء الجوهر واحداً في كل مرة. نعم أبو مازن قدم من جانبه كل شيء لكنه لم يلق أية استجابة جدية لما قدمه على امتداد المسيرة التفاوضية الطويلة ولا لمرة يقلع بها عيون مزاحميه أو معارضيه.

الأميركان يريدون تمرير قانون التأمين الصحي وهم بحاجة للدعم الإسرائيلي في الكونغرس. وبالتالي ترافق هذا الانكفاء عن موقف أوباما وتوجهاته ذات المظاهر والإيحاءات الإيجابية والباعثة على الأمل منذ وقبل تولّيه مقاليد الرئاسة في البيت الأبيض. وهو ما جعلنا نشهد وعلى نحوٍ تراجيدي عودة الموقف الأميركي صاغراً للتكيّف مجدداً مع الموقف الإسرائيلي المتعنّت الممتنع عن السلام والمانع لأي فرص في انفراج سياسي عقلاني ومتوازن يحفظ حقوق الجميع.

الموقف العربي تابع تماماً للموقف الأميركي وهذا ناجم من الأساس عن حالة الضعف والترهّل الذي أصاب النظام العربي الرسمي، وهذا ما يمكن أن يخلق المسوّغ الكافي للرئيس أبو مازن وللقيادة الفلسطينية ليتجها باتجاه كفيل بالردّ على هذا النكوص الأميركي وحتى العربي الذي يمكن أن نقول إنه خذل الرئيس أبو مازن، ودفعه باتجاه قراره الجريء والحرّ الذي يقطر التزاماً بالسقف الوطني السياسي والحقوق الفلسطينية المشروعة والمتوازنة.

إن أبلغ رد ممكن على هذه الحالة المحبطة التي أصابت كل فلسطيني بكل ما تعنيه الكلمة من خيبة الأمل بالأبعاد الثلاثية للمشهد السياسي على حلبة الصراع العربي - الإسرائيلي أميركياً وعربياً وإسرائيلياً، هو أن يذهب الفلسطينيون للجامعة العربية ليتحمّلوا العرب مسؤولياتهم في نقل الملف الفلسطيني بقضّه وقضيضه إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، بل هم المسؤولون أولاً وآخراً في الذود عن هذا الملف المثخن بالجراح، لأن السياسة الفلسطينية الرسمية لم تخرج يوماً عن الإجماع العربي الرسمي الذي هو شريك تماماً في المسؤولية إلى جانب الرئيس أبو مازن سواء في الفشل أو النجاح، ما يجعل وصول برنامج الرئيس أبو مازن ومنهجه الواقعي إلى طريق مسدود لا يشكل إفشالاً للرئيس أبو مازن وحده وإنما إفشالاً للمنطق والتوجه العربي الرسمي، الذي تجسد بجلاء وعلى مرأى العالم أجمع من خلال مبادرة السلام العربية. وبالتالي فإن مستويات التنسيق الدؤوب والمستمر في التشاور الدائم وخطوة بخطوة مع أشقائه العرب تؤكد صدقية ما نذهب إليه في هذا التحليل.

إن القراءة الدقيقة والنظرة الثاقبة التي قرأ من خلالها الرئيس الراحل أبو عمار الوضع الفلسطيني والعربي والدولي وجلّ مكونات المعادلة في الشرق الأوسط، هي التي أوصلته لما ذهب إليه في دخول أوسلو ومغادرة مربع الكفاح المسلح في الظروف الجديدة التي أحاطت بتلك اللحظة والانعطافة التاريخية. وهي ذات النظرة والقراءة الدقيقة والواقعية التي يقرأ اليوم من خلالها الرئيس أبو مازن ذات الوضع الدولي الشامل بكل مكوناته الفلسطينية والعربية والإسرائيلية والدولية، وبمنتهى الدقة والواقعية الصريحة والشفافة التي جعلته يلقي القفاز بوجه الإسرائيليين، ويعبّر عن غضبه على هذا النحو الوطني والصادق الحامل لرسالة واضحة لا تقبل اللبس في الردّ على كل من شكك أو طعن بوطنية الرئيس وبخياره السياسي الذي تشبّث وتمسك به على امتداد مسيرته وما قبلها منذ دخول أوسلو في العام 94.

قد أجرؤ على القول، إن ما أوصل الرئيس أبو مازن إلى هذا الموقف الاحتجاجي بامتياز عربياً ودولياً وإسرائيلياً، ليس سوء الأداء التفاوضي الفلسطيني أو ضعف القدرة عليه، وإنما تركنا الطرف الإسرائيلي يفاوضنا محمّلاً بكل أسباب الدعم والقوة ومرتاحاً من مواجهة أي شكل من أشكال المقاومة الشعبية على الأقل، وهو ما يتحمّل مسؤوليته بالدرجة الأولى ليس السلطة ولا الرئيس أبو مازن وإنما عموم التنظيمات والفعاليات والفصائل التي أصابها الترهّل والضعف والقصور غير المسبوق، في وقت كانت فيه السلطة ومنظمة التحرير تفاوضان من موقع أضعف وبدون السند اللازم، الخالي من المقاومة الشعبية التي كان من المفترض أن تستمر بكل أشكالها السلمية، حتى يلفظ الاحتلال أنفاسه الأخيرة، ويزول عن أرضنا، وتقام دولتنا الموعودة دون منّة من أحد، وبموقف عربي ودولي مساند وداعم باعتباره حقاً مشروعاً والاحتلال مُدان بإجماع، الأمر الذي يقربنا من مربط الخيار الفلسطيني الأفضل والأبلغ رداً على هذا الاستهتار الأميركي الإسرائيلي والعربي المُنساق، من التوجه الجاد والعاجل باتجاه وضع الملف الفلسطيني كاملاً بين يدي الجامعة العربية لنقله برافعة عربية مسؤولة وجادة إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لتحميل المجتمع الدولي مسؤولياته الأدبية والقانونية في إلزام إسرائيل وتطويعها للإرادة الدولية، بحملها على إنهاء أطول احتلال في التاريخ، ومنح الشعب الفلسطيني حريته الكاملة، التي تمكنه من تقرير مصيره بنفسه، وإقامة دولته المستقلة والحرة على أرضه، لتكون لبنة أساسية فاعلة وصمّام أمان في بناء السلام والاستقرار وقيام السلام العادل في ربوع المنطقة، خصوصاً بعدما أثبتت الوقائع الدامغة أن خيار الدولة الفلسطينية المستقلة والمستقرة والقابلة للتطوّر والتعايش مع محيطها، قد أصبح ضرورة دولية ملحّة لحفظ الأمن والاستقرار وقيام السلام العادل في ربوع المنطقة. مضافاً لكل ما ذكرناه آنفاً، أستطيع القول إن حالة اللاتكافؤ التي حكمت عملية التفاوض بيننا وبين الإسرائيليين، والتي أباحت للإسرائيليين أن يلتزم لهم الفلسطينيون مقدماً بكامل الاستحقاقات المطلوبة، دون أي مقابل يذكر من الجانب الآخر، هو من بين أكثر الأسباب وجاهةً في ذهابنا لما وصلنا إليه اليوم من حالة الانسداد السياسي، الأمر الذي يؤكد ضرورة ما فعله الرئيس أبو مازن من إلقاءٍ للكرة ورمي القفّاز، وأهمية الذهاب باتجاه أحد خيارين لا ثالث لهما وهما: خيار تحميل مسؤولية الملف الفلسطيني للعرب والمجتمع الدولي بنقله كاملاً برافعة عربية إلى مجلس الأمن، وخيار الدعوة لمؤتمر دولي يعيد الاعتبار لخيار السلام الذي سلمنا به جميعاً، عبر تغيير قواعد اللعبة ووضع الأسس والمرجعيات والمحدّدات والأجندات اللازمة والواضحة لعملية السلام برمّتها بكامل أبعادها الفلسطينية والعربية والإسرائيلية والدولية كرزمة كاملة لا ثنائية ولا قطّاعية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق