الثلاثاء، 27 أبريل 2010

من معبر "إيرز" إلى الزنزانة (5)


د. محمد اسحاق الريفي
بعد أسبوعين من الشبح المتواصل، نقلني السجان مساءً إلى زنزانة أخرى، كنت فيها وحيداً.  وفي ساعة متأخرة من تلك الليلة، فتح السجان باب الزنزانة، وأدخل أحد السجناء، وكان يبدو عليه أنه مشاكس، إذ شتم السجان بعد إدخاله إلى الزنزانة.  كنت أتوق إلى الحديث مع أي سجين، ولكنني شعرت بالقلق الشديد من ذلك السجين، فلم يبد عليه أثر الشبح أو التعب، وكان وجهه وشعره يلمعان، فأعرضت عنه، ولكنه بادرني بالحديث.
ثبت لي أثناء الأسر أن ذلك السجين كان "عصفوراً"، وهو الوصف الذي يطلق على العميل، وقد عرفت اسمه قبل خروجي من الزنازين.  أخبرني العميل عن قصص صموده أمام المحققين، وعن ذكائه وشجاعته ووطنيته.  وزعم أنه أنكر التهم الموجهة إليه رغم ثبوتها عليه، وأنه أخفى الكثير من المعلومات التي يبحث عنها المحققون.  وأخذ يسرد علي قصصاً عن تهريب السلاح إلى غزة عبر "إيرز"، وقصصاً أخرى عن تهريب الاستشهاديين من غزة إلى الضفة، محاولاً التدليل على بطولته ووطنيته وقدرته على مراوغة المحققين، لكي أطمئن إليه وأطلعه على ما لدي من أسرار، ولكنني تعاملت معه بحذر شديد، ولم أجب على أي من أسئلته الكثيرة.  وبعد ساعة، مللت من حديثه، فأخبرته بأنني أرغب في النوم بسبب الإرهاق، ولم أظهر له أنني أشك فيه، ثم نمت نوماً خفيفاً.  أما هو، فقد تظاهر بالنوم، ولكنه ظل مستيقظاً، بسبب خوفه الشديد!
جاء السجان فجراً إلى الزنزانة، فأخذ العميل، وبعد ربع ساعة، أخذني مقيداً ومعصوب العينين إلى جهة بعيدة، وأخبرني بأن التحقيق قد انتهى، وأنه سينقلني إلى السجن.  تنفست الصعداء، فقد شعرت بأن التحقيق والشبح قد انتهيا، وأنني سأعيش بين الأسرى حتى انتهاء فترة الأسر.  وكنت أحلم بلقاء المهندس الشهيد إسماعيل أبو شنب، رحمه الله، الذي كان أسيراً في سجن عسقلان في ذلك الوقت.  وحدث ما لم أكن أتوقعه، حيث أخذني السجان إلى جناح للعصافير، أو العملاء، في سجن عسقلان، وأدخلني في غرفة بها ثلاثة عصافير، كلهم من الخليل، بحسب ما أخبروني ولهجتهم.  وكان أكبرهم سناً في الخمسينات، حدثني عن نضال الأسرى ومعاناتهم وتضحياتهم حتى أبكاني، ولم أتوقع أبداً أن يكون عميلاً.  وزارنا عميلان آخران من الغرف المجاورة، وكانا يبلغاني السلام عن الشهيد أبو شنب وغيره من الأسرى.
كان الأسرى يخرجون من الغرفة لمدة ساعة مرتين يومياً، يقضونها في الزيارات والمشي والرياضة داخل السجن، ولكن كبير العصافير في الغرفة أمرني بألا أغادرها قبل أن يتأكد من انتمائي، بناء على تعليمات من قادة الأسرى على حد زعمه، وأخبرني بخضوعي لما وصفه "حالة أمنية."  فتذكرت قصص تعذيب بعض الأسرى على أيدي الأسرى أنفسهم، بسبب شبهات أمنية، فشعرت بالرعب الشديد، وساورتني المخاوف والشكوك، خاصة أن أحد العصافير أراني مدية حادة كبيرة كان يخفيها تحت وسادته، وكان يقصد إخافتي وتهديدي، ولكنني أخفيت مخاوفي وشكوكي.  ثم طلب مني كبير العصافير أن أملأ استمارة أمنية، وطلب مني معلومات مكتوبة حول انتمائي التنظيمي، وجهات الاتصال في غزة، والتهم الموجهة لي، والمعلومات التي أخفيها عن المحقق، ومعلومات أريد إبلاغها لأهلي وتنظيمي...الخ.  ولا يطلب ذلك من الأسرى إلا العملاء.  كنت مضطراً للإجابة على بعض الأسئلة التي تضمنت معلومات معروفة عني، ولفقت إجابات باقي الأسئلة تلفيقاً، لأتخلص من ورطة العصافير.
سلم العصافير الاستمارة الأمنية والأوراق للمحققين، وبعد يوم قضيته في غرفة العصافير جاء السجان ليعيني إلى الشبح، ثم أخذني للتحقيق.  أبرز لي المحقق وهو في قمة الفرحة تلك الأوراق، فصعقت، وسُقط في يدي، ولكنني تمالكت أعصابي.  أخبرني المحقق بأنني سأقضي على الأقل خمس سنوات في السجن، وزعم أنني لا أستطيع التحمل، وبدأ يساومني، ولكنني أخبرت المحقق بغضب أن مثلي لا يساوم، وأنني أتحمل المسئولية أمام المحكمة، وأنني لن أكول أول أسير ولا آخر أسير.  شعر المحقق بخيمة أمل، ثم أخبرني بأنه سيقابلني بعد ثلاثة أيام، قضيتها لوحدي في الزنزانة، تصارعني الظنون والخواطر، وأهيئ نفسي للأسوأ.  وبعد ثلاثة أيام أعادني السجان للشبح والتحقيق، وأعاد المحقق مساومتي، ولكنني رفضت بشدة، فأطرق المحقق رأسه يائساً، وأمر السجان بنقلي إلى الزنزانة رقم "3"، وهي زنزانة صغيرة مساحتها كمساحة الزنزانة رقم "7"، وجدت نفسي فيها بين سبعة أسرى، منهم الشهيد ناهض عودة، رحمه الله، وأحد العملاء من غزة، ومقاومون من الخليل ورام الله.
قضيت ليلة واحدة في الزنزانة "3"، ولم نستطع النوم تلك الليلة بسبب الاكتظاظ الشديد.  وفي الصباح، نقلني السجان إلى الزنزانة رقم "1"، وهي أكبر الزنازين، إذ تبلغ مساحتها 20 متراً مربعاً، ولكنها كانت مكتظة بالأسرى، وكان عددهم فيها يتراوح بين 12 إلى 19 أسيراً، وكان الوضع فيها مأساوياً.  مكثت في هذه الزنزانة 56 يوماً متتالية، وسأروي لكم التفاصيل إن شاء الله في المقال القادم، والذي سيكون آخر مقال في هذا الموضوع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق