الأربعاء، 21 أبريل 2010

بين العقل الإسرائيلي والموقف الأميركي


بقلم: آصف قزموز
تماماً كالثّعلب في ثياب الواعظين، يمشي في الأرضِ يَهدِي وَيَسُبُّ الماكِرين، يخوض الحرب وهو يتحدث بالسلام وعن السلام، يُوغِلُ في الإثم والعدوان على الشعب الفلسطيني، فيذرف الدمع متباكياً وهو يتوعّد الضحيّة ويُلبِسها ثوب الجلاّد، يتحدث عن التفاوض والديمقراطية وحقوق الإنسان وهو يُمارس الاحتلال والاستيطان ويرتكب كل ما من شأنه إفساد أي تفاوضٍ أو سلام، يبان حقده وعنصريته في عينيه ولسانه وشفتيه ويديه، ولا يعتذر عن الجريمة لكنه يأسف لسوء توقيتها فيمتطي صهوة منطق "اكسِرْ راس وعَدِّل طاقية". لذا، لا تنظروا لعينيه بل انظروا لما تفعله يداه.
 إنّه منطق التطرّف الإسرائيلي الذي لا يُمكن تغطيته بغربال أو إخفاؤه بحالٍ من الأحوال. هكذا عوّدونا أن نشهد تراجيديا السياسة التفاوضية الفلسطينية تُسحق في وضح النهار وفي كلّ مرّة بين رَحَى التطرُّف والعنصرية وطاحون التلكُّك والمراوغة الإسرائيلية تحت ناظرينا وعلى مرأى من العالم كلّه. فلا وليّ ولا نصير.
نعم، هذا هو السلوك الإسرائيلي الذي طالما ظلّ محملاً بكل أشكال التطرّف والتلكُّك المتعنّت، والتطاول على القانون والإرادة الدولية، دون أي اعتبار أو احترام لصديق أو شريك أو حليف مُنحاز، أقصى ما يكلّفهم فيه اعتذار يُعبّر عن أسفٍ على ما قد سلف ليُعاودوا الكرّة من جديد وهكذا.
فبالرغم مما قيل على لسان بعض المسؤولين الإسرائيليين من أن علاقة إسرائيل مع واشنطن تواجه أسوأ أزمة منذ 53 عاماً، فإن اعتذار نتنياهو عن إعلان حكومته الموافقة على بناء 1600 وحدة استيطانية جديدة عشية وصول كل من نائب الرئيس الأميركي جوزيف بايدن والمبعوث الأميركي لعملية السلام جورج ميتشل إلى المنطقة في زيارتهما التي كانت واعدة وممنّية للنَّفْس الفلسطينية باستئناف المفاوضات، معتبراً أن الإعلان كان خطأً مؤسفاً من حيث التوقيت دون الإشارة لذات الجُرم المُعلَن، قد جاء فاقداً للقيمة وللقيم والأخلاق وأصول اللياقة في احترام العلاقات بين الدول. الاعتذار جاء فقط على التوقيت وليس  على القرار الاستيطاني بذاته. ما يُعيد التأكيد مُجدّداً على سوء النوايا والموقف وعدم جدّية الحكومة الإسرائيلية في الذهاب مع الفلسطينيين إلى نتائج جدّية ملموسة لتحقيق السلام، وهو ما يضعنا والحالة هذه مع الإسرائيليين برسم المثل القائل: "إن شُفْتَكْ بَضْحَكْ عَلِيكْ، ما شُفْتَكْ رَاحَتْ عَلِيك".
كلّ هذا يأتي ليسَ تفجيراً في وجه واشنطن وبايدن فحسب، وإنما أيضاً في وجه الفلسطينيين أولاً، والعرب الذين سارعوا دون تردّد لمنح تل أبيب فرصة العودة للمفاوضات غير المباشرة والمباشرة مع الفلسطينيين ثانياً.
يقول المثل الشعبي الفلسطيني: "اللّي ما بَدُّو يجَوِّزْ بِنْتُو بِيغَلـِّي مَهِرْهَا"، واللّي ما بَدُّو السلام بِخْتَار نتنياهو وِبْيِضَعْ ليبرمان وزيراً لخارجيته، وهو  المنطق نفسه الذي عيّنت فيه "حماس" يوماً د. محمود الزهار وزيراً لخارجيتها، فكانت الرسالة واضحة، وجاءت النتائج اللاحقة أكثر بلاغةً ووضوحاً في كلتا الحالتين. فلا نتنياهو يُريد سلاماً حقيقياً يعترف فيه بحقوق الفلسطينيين ولا كانت "حماس" بوارد إنجاح المشروع السياسي الوطني الذي تحمله منظمة التحرير، لأنّ خلافها معه لم يكن على تفاصيل وتكتيكات سياسية، وإنما تناقض شامل مع المشروع نفسه والأداة الشرعية الحاملة للوائه منظمة التحرير الفلسطينية، والشواهد على ذلك كان لها أوّل ولم يكن لها آخر بعد.
إنها سياسة إسرائيلية متوارثة وإن اختلفت الوجوه والحكومات وحتى الأيديولوجيات، بل نهج إسرائيلي كثيراً ما يحمل تجلّيات عنصرية شوفينية، دأب من خلالها على وضع نفسه فوق القانون والتهرّب من تقديم أيّ شيء وأخذ كلّ شيء، وتقويض أية محاولات تقدم أو مواقف إيجابية للآخرين عَبر خطوات استباقية أو تلكـُّكيّة أو استفزازية مُتعمّدة ومدروسة، ثم فرض الأمر الواقع على الجميع في كل ما يريد. فبالأمس القريب كان قرار شارون الانسحاب من غزة من جانب واحد دون أي اتفاق أو تنسيق يُذكر مع الشريك الفلسطيني وفرضه علينا أمراً واقعاً تَعَاطَيْنَا معه وتَقَبّلنَاه فيما بعد وما زلنا. وكذلك الحال حين طرح نتنياهو رؤيته في اقتصار الحلّ مع الفلسطينيين من خلال تحسين حياتهم المعيشية فحسب، حيث رفضنا ذلك في حينه مع أن ما يجري اليوم على الأرض هو ترجمة في صلب ذات السياق والرؤية النتنياهوية المرفوضة.
وحتى لو لم يكن هذا النهج آنف الذكر سياسة أو استراتيجية مسبقة الصنع في السلوك الإسرائيلي، أستطيع أن أقول: إن الإسرائيليين عندما يقرأون هذا الواقع بتفاصيله ويرون أن الواقع الفلسطيني الدّاعي نظرياً للمقاومة في حالة شلل وانهيار ولا يَقْوَى على عمل أو إنجاز شيء في هذا المضمار، والسلطة الوطنية يَضعف موقفها شيئاً فشيئاً بفعل انهيار الواقع الأوّل وتعثّر المفاوضات حدّ الفشل. ناهيك عن الإجراءات اليومية الإسرائيلية المحبطة، ويرون أن الواقع العربي هو الآخر في أضعف حالاته ومستجيب حدّ الخنوع والاستغاثة المستجدية، والموقف الدولي في جانبهم تماماً، فما الذي يُجبرهم على التنازل عن تعنُّتهم أو تقديم أي شيء للفلسطينيين؟! لا سيّما ان مثل هذا الواقع الأليم، والحصاد المُرّ يُؤَمِّن لهم عملياً فرصةً نادرة لمراوغة طويلة الأمد تمكّنهم فعلياً من الاستمرار في التفاوض معنا ومشاغلتنا على طريقة قصة إبريق الزيت لسنين طويلة أخرى، وفي هذا ما يخدم جوهر أهداف ومرامي الفهم الإسرائيلي للحلّ الذي لا يوصلنا إلى نهاية محدّدة فنظلّ نسير معه ونمشي إليه ولا نصل.
كيف لا، ونحن نشهد تراجيديا الوضع الفلسطيني، وكيف أن مجريات الأمور على الأرض قد وضعت فعلياً وبعد كل هذا مصير الوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام رهناً لحسم الصراع الإقليمي الدائر، وليس للإرادة الوطنية الفلسطينية وحدها، حيث بات يتوقف نجاح برنامج "حماس" واستمرار انقلابها بكل مكوّناته وتبعاته وآثاره على مدى صمود إيران ونجاحها في الخروج من مأزق الملفّ النووي. وبالتالي ستشكّل هزيمة إيران وبرنامجها النووي المستهدف بامتياز هزيمة لـ "حماس" وبرنامجها الذي يُشكّل جُزَيْئاً من فسيفساء الجبهة الإيرانية. ولعلّ أفضليّة ارتهان وضع "حماس" مع مصير إيران تكمن في أن كلاً من إيران و"حماس" لا يملكان خيارات أو بدائل سوى أن يكونا معاً على شفير مغامرة مصيرية عنوانها "يا بتصيب يا بتخيب"، بينما الأطراف الحليفة للسلطة ومنظمة التحرير لديها خيارات وتحالفات ومصالح تؤثّر بشكلٍ كبير على جدّية مواقفهم في دعم الحق الفلسطيني المشروع ودعم القيادة الفلسطينية سلطةً ومنظمةً في مواجهة التطرّف الاحتلالي الاستيطاني الإسرائيلي، وفي قدرتهم على اتخاذ مواقف حازمة ومتوازنة تجاه الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي.
كل هذا يُعزّز الاعتقاد الواقعي القائل: إنه لا آفاق لحلٍّ واقعي ومتوازن مع الإسرائيليين، إلاّ من خلال ما يمكن أن يحقّقه الأميركيون أوّلاً، والمجتمع الدولي ثانياً، من ضغطٍ وإجراءات فعلية حاسمة في حدود الممكن بالنسبة لمصالحهم مع إسرائيل ورؤيتهم لمكانة مصالحهم مع الفلسطينيين والعرب.
هذا الواقع المرير بكل ما أسلفنا في وصفه وتشخيصه، بعيداً عن الإرادوية والعنتريات السياسية غير المـُسْنَدَة، يضع السلطة الوطنية الفلسطينية أمام حقائق وتحدّيات جسام لا تُحسد عليها. وبالتالي ليس لنا أن نغفل أو نتجاهل ولا للحظة حقيقة أن خيار المفاوضات هو خيار استراتيجي غير قابل للتصرّف من كائن من كان باستثناء الهامش المباح بحدود ما يُمكن أن يُتاح في حق المطالبة والضغط الدائم لتحسين شروطه وتوضيح أكثر لآلياته ومرجعياته ومآلاته. الأمر الذي يتطلّب منّا أن نعمل كفلسطينيين على مسارين: مسار الاستمرار في التفاوض ولو من باب رفع العتب أو اللّوم الدولي وغير الدولي، وتقويض التباكي الإسرائيلي الدائم على المفاوضات، ومسار الانكفاء نحو التركيز على العمل في البناء الداخلي المؤسّسي والتنمية بهدف تحسين العيش وظروف الحياة للمواطنين، وبالتالي تهيئة القاعدة المادية والشعبية اللازمة لبناء الدولة والاستمرار في تعزيز النضال الشعبي السلمي وتكريسه كثقافة وطنية مجتمعية، مع بقاء أعيننا على مجلس الأمن كملاذٍ أخير مشروع في حال استنفادنا كل السبل والخيارات ووصلنا لطريق مسدود.
لكن يبقى السؤال: هل يُمكن للغضب الأميركي الحالي من تل أبيب أن يتطوّر لمواقف فعلية ملزمة لإسرائيل ومستجيبة ولو لحدودنا الدنيا في حلم الدولة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق