الخميس، 22 أبريل 2010

الرياح العاتية.. الإبادة الجماعية السائبة


ترجمة: د. عبدالوهاب حميد رشيد
     قبل أيام، كنتُ أقرأ New York Review of Books في مقهى مكتبة.. لفت نظري إعلان كبير في زاوية من صفحة، بدأ بهذا الاقتباس وبحروف كبيرة: "لماذا يعتبر قتل شخص لآخر.. جريمة.. بينما لا يعتبر قتل حكومة لمليون شخص.. جريمة!؟"
     كان رد فعلي الأولي، الشعور بالمفاجأة.. شخص ما، قدّم الحرب ضد العراق بدرجة عالية من الوضوح- اشترى مساحة ثمينة في المجلة، ليُدخل جريمة الحرب السائبة هذه التي لم تخضع للعقاب وغير الملحوظة، في الحقيقة- إلى الوعي الجمعي- الشعور الوطني ثانية.
     بعد لحظات، رأيت هذا الاقتباس في الواقع عبارة عن إعلان لمعرض في مدينة نيويورك يخص Raphael Lemkin- اليهودي البولندي المنفي ومستشار الحكومة الأمريكية الذي وضع أولاً وطوّر أصل تعبير مفهوم لفظة "إبادة جماعية genocide".. إذ تم وضع الإعلان تحت صورة البطاقة الشخصية لـ لمكين- زمن الحرب. يستمر الإعلان بقوله: قبل زمن لمكين لم تكن لتلك الجريمة (القتل الجماعي) اسم نعرفه "إبادة جماعية".. ثم يجيئ بعد ذلك عنوان المعرض: رسائل الضمير.. رافائيل لمكين والمسعى لإنهاء الإبادة الجماعية..
     إن حياة وعمل رافائيل لمكين جديرة بإقامة معرض له بالطبع، وأنا (كاتب المقالة) اتمنى له كل النجاح. لكني كنت ما زلت مندهشاً كيف أن كلماته وصفت على نحو ملائم حالتنا الخاصة. فلقد استخدمت كل من الحكومتين الأمريكية والبريطانية نفس أدوات القياس العلمية ذاتها لتقرير مدى المذابح الجماعية في راوندا (و) دارفور وأماكن أخرى في العالم.. في حين الحرب أن العدوانية انطلقت من قبل تلك الحكومتين ضد العراق العام 2003 وأدت إلى مقتل أكثر من مليون عراقي حتى الآن.
     هذه الحصيلة وقعت بسبب حرب انطلقت من طرف واحد- التحالف الأمريكي البريطاني- دون موافقة الأمم المتحدة، ضد بلد لم يهاجمهما، لم يهدد بمهاجمتهما، لم يكن قادراً على مهاجمتهما- ولم تكن له علاقة مطلقاً بهجمات 11/ سبتمبر.. هذا التاريخ الذي يُشار إليه حتى اليوم كسبب رئيس لاحتلال العراق.. قبل بضعة أسابيع فقط، كان توني بلير يدافع عاطفياً عن الهجوم على العراق دون أن يحصل أي استفزاز عراقي، بقوله بأن 11/9 "غيّر كل شيء،ً قاصداً بذلك أن التحالف الأمريكي البريطاني لا يستطيع أن "يتحمل وزر ما حدث" وأن العراق ربما شكل في وقت ما، وبطريقة ما، نوعاً من التهديد ضد البلدين الغنيين المسلحين بالقوة النووية وعلى مسافة آلاف الأميال!
     وبالطبع فإن جنود الغزو أنفسهم كانوا قد لُقنوا بالفكرة القائلة أن اغتصاب العراق هو "الثمن لأحداث 11/9"، كما استشهدت أخبار عديدة في ذلك الوقت (ومنها، كما ذكَّرنا John Caruso قبل أيام فقط من الأحداث). هذا الموقف جاء مشتركاً على نفس نمط المؤسسة الأمريكية "الجيدة والعظيمة" التي جسدها الصحفي "البارز" الفائز بجائزة العمود الليبرالي prize-winning liberal columnist- توماس فريدمان Thomas Friedman- الذي قال كلمته المشهورة بأن 11/9 كانت تعني بأن على الولايات المتحدة لا بد وأن تضرب بعض البلاد الإسلامية- "كان بإمكاننا أن نضرب السعودية.. أن نضرب باكستان.. لكننا ضربنا العراق لأننا كنا قادرين على ضربه"- وذلك انتقاماً من ضربة 11/9.. فالحكومة الأمريكية كان لا بد أن تهاجم وتدمر وطناً كاملاً بسبب ما قالته بنفسها بأن الهجوم الإرهابي (11/9) كان هجوماً متطرفاً لمتمردين بلا وطن.. من هنا فالبلد المستهدف رغم عدم وجود علاقة له مع أحداث 11 سبتمبر، فلقد كان المطلوب موت مئات آلاف الناس الأبرياء  "ثمناً لـ 11/9".. لم يكن مهماً مَنْ كانوا طالما هم من المسلمين.. هذا كان فكر النخبة الأمريكية (المعتدلة، الشريفة، المحترمة) السائدة.. والتي عبّر عنها واحداً من ممثليها البارزين.. توماس فريدمان.. (( إهمال دافع النفط يُصَوّر هذه الحرب العدوانية وكأنها مجرد حرب دينية، وذلك في محاولة لإخفاء طابعها الإمبريالي العالمي في المنطقة..))
     علينا أن نتذكر بأنه في وقت الاحتلال الذي أطلق دون سابق استفزاز في مارس/ آذار العام 2003، كان التحالف الأمريكي- البريطاني قد تسبب عمداً بقتل مئات آلاف الأطفال العراقيين (عدا البالغين) من خلال العقوبات/ المقاطعة الشاملة والشديدة التأثير التي فرضت بقسوة وبدون رحمة ضد الشعب العراقي.. هذا السجل من الموت الجماعي كان محل دفاع علني من قبل وزيرة الخارجية الأمريكية- مادلين اولبرايت- التي صرّحت العام 1966 بأن موت نصف مليون طفل عراقي بسبب المقاطعة كان ثمناً "مبرراً".. وبعد هذا التاريخ استمرت المقاطعة القاتلة لسبع سنوات أخرى لغاية الاحتلال..
     هذه إذن خلفية حرب واحتلال ما زالت مستمرة: مليون قتيل كحد أدنى- معظمهم أطفال- قبل إطلاق الرصاصة الأولى أثناء الغزو العام 2003.. مجرد مليون قتيل من شعب العراق- وأغلبيتهم الساحقة مدنيون أبرياء غير مقاتلين- قتلوا أثناء الحرب والفوضي العارمة التي أطلقت لها العنان عبر المجتمع العراقي!  
     ورغم هذه المذبحة البشرية ضد شعب العراق، لم يواجه حتى مجرد مسئول واحد أبداً.. المحاكمة أو اللوم أو حتى مجرد إزعاج لقتل أكثر من مليوني عراقي خلال العقدين الماضيين.. الجناة الحزبيون ممن مارسوا هذه الإبادة الجماعية- بدءً بالأضواء التمهيدية للحرب في عهد إدارتي كلنتون (و) بوش.. بل، وبالمقابل، حصلوا على امتيازات. العديد من شركاء كلنتون، بضمنهم زوجته.. وكذلك العديد من شركاء بوش صاروا في موقع المسئولية في إدارة اوباما- وزير دفاع بوش وأغلب جنرالاته.. وبالطبع، رحّب اوباما نفسه بجريمة الحرب ضد العراق كإنجاز "استثنائي" في وقت يستمر فيه بحماية سلفه ويوسع السياسات الدموية لأسلافه..
     وهكذا، فحتى عمل رافائيل لمكين صار محل احتفال في مدينة نيويورك، والمسألة التي طرحها في نهاية الحرب العالمية الثانية، ما زالت تلقي أصداء الإدانة في وجه النخبة السياسية الحزبية اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية:
"لماذا يعتبر جريمة عندما يقتل شخص  شخصاً آخر.. بينما لا يعتبر جريمة
عندما تقتل حكومة مليون شخص!؟"
     حلم رافائيل لمكين بأن هذه المسألة ستوضع ضمن مكينة القانون الدولي، وسوف تشكل قفزة تطورية في الوعي الإنساني والأخلاقي.. لكننا يمكن أن نشهد حالياً أن الجواب هو- كما وضعه خيال أمريكي أخر: الرياح الهادرة- الرياح العاصفة- لفساد القوة/ السلطة..
مممممممممممممممممممممممممـ
Howling Wind: The Unrepented Genocide,Chris Floyd,uruknet.info, April 18, 2010.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق