الأحد، 18 أبريل 2010

مخارج هربهم بإعادة نكبتنا


 بقلم: آصف قزموز
بتاريخ17م4م2010
 لأنهم دأبوا على تصدير أزماتهم عند كل مأزق، وعلى حساب الفلسطينيين ومن حسابهم كذلك، فداست جنازير دباباتهم كل شيء حي في أرضنا وتجرّأوا على العالم وعلى القانون الدولي وكل ما يصادفهم أو يقف في وجههم دون اكتراث بأحد، ذلك لأنهم استهتروا دون حسيب أو رقيب وداسوا القوانين الدولية وامتطوها لحسابهم عنوةً دون غيرهم، جاء قرار وزير الدفاع الإسرائيلي الذي دخل حيز التصعيد في أعلى ذراه العنصرية والشوفينية مسجّلاً في حقيقة الأمر جملة من الحقائق المرّة المعاشة على امتداد التجربة الفلسطينية ومعمعان الصراع التفاوضي مع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وامتداد الزمن ما بين قيام الدولة العبرية ويومنا هذا، بنفس الأبعاد والاستهدافات الاستراتيجية التي اختطتها العنصرية الاحتلالية على مرّ السنين. وبالتالي هي هجمة عنصرية شرسة تخبو نيرانها وتستعر، تبعاً للتكتيكات الإسرائيلية الحاملة لاستراتيجيتهم، التي تعبر أصلاً عن مكنون وجوهر السياسات الاحتلالية الاستيطانية في العمل على تقسيم وتفتيت النسيج المجتمعي الفلسطيني الذي شارف على الوصول لمرحلة إعلان الدولة، وذلك عبر تعميقهم لحالة التشتت والتهجير حتى داخل الأسرة الفلسطينية الواحدة التي تشكل العصب الحيّ للأنوية المكوّنة للمجتمع ولذات الدولة الحلم والمستقبل.
 إنه تعبير عن حالة عجز لحكومة كاسرة تحاول من خلال قرار كهذا تصدير أزمتها وإنعاش ذاتها من خلال الايغال في التطرّف على نحو استعراضي مزايد على الخصوم السياسيين داخل الحلبة الإسرائيلية ومؤذ للفلسطينيين، باعتبار التطرف ضد الفلسطينيين هو الأداة الأفعل لحسم صراع المنافسة فيما بينهم. سيّما وأنهم بذلك يكرسون احتلالهم ويعززون استيطانهم من خلال ترحيل جماعي وعقاب جماعي محمل بسلوكيات التطهير العرقي المدمّر في نهاية المطاف، ليس لمصالح الفلسطينيين فحسب وإنما لمجمل عملية السلام وللأمن والاستقرار في المنطقة بأسرها، وتقويض قاتل لفكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، التي يحمل لواءها اليوم رئيس الوزراء د. سلام فياض والحكومة الفلسطينية.
 نعم إن هذا السلوك الإسرائيلي الأرعن بات يهدد الجهود الفلسطينية الجادة والاستراتيجية تجاه السلام العادل والمتوازن الذي اختاره الشعب الفلسطيني، ويسيء للمصالح الأميركية ولعموم المجتمع الدولي بعدما أصبح السلام جزءاً مكوناً للسلم العالمي.
 نعم، قطار الزمن بيننا وبينهم امتد طويلاً عبر تقاطر المراحل التي حملت في كل زمن سمات وملامح وأهدافاً وشخوصاً كانوا يتغيرون في كل مرحلة، لكن جوهر العداء لم يتغير، مع أهمية تأثير الشخوص في الأدوار التي يلعبونها بذات الاتجاه وعلى ذات الملعب.
 وهنا في هذا السياق والمقام أستذكر، حدّثني به الصديق والروائي حافظ البرغوثي، بينما كنا نحط رحالنا بعد نزهة سْراحَه في جبال دير غسانة الجميلة، قائلاً: يا جماعة شو اللّي قاعد بيصير فينا، لقد كنا نجلس هنا على هذه الشرفة المطلّة على سفوح الجبال التي أمامكم في أماسي الصيف الجميلة على حظيرة بيتنا، ونتمتع بمنظر الغزلان الصغيرة تتعارك فيما بينها على مقربة منا بأمان واطمئنان دون خوف ولا وجل، ولكن منذ سنوات لم نعد نشهد في مثل هذه الأمسيات الغزلانية تلك المشاهد، حيث اختفت آثار الغزلان، وأصبحت تظهر مكانها الخنازير التي تجتاح المحاصيل وتدوس الأخضر واليابس فتقطع الأشجار وتروّع المواطنين، تماماً كما تفعل قطعان المستوطنين بتقدروا تقولوا اتبدّلت غزلانها بخنازيرها وصرنا اليوم بنعيش عصر الخنازير.
 إنه تبدّل الوجوه العاكسة لسياسات وسمات المراحل الاحتلالية المتعاقبة التي تلظّى بنارها الفلسطينيون، لكن جوهر فكرة واستهدافات الاحتلال وتجلياته الاستيطانية ظلّت دائماً الشاهد والدليل على صدقية هذه الحقيقة المرّة. فعلى امتداد الصراع الفلسطيني مع الاحتلال الإسرائيلي عشنا مراحل مختلفة في أطوارها وسماتها ومظاهر تجلياتها ما بين الغزلنة والخنزرة، بحيث جعلت الوضع الفلسطيني يتقدم خطوة واحدة محسوبة ومدروسة إلى الأمام ليعود من خلالها القهقرى عشر خطوات إن لم يكن أكثر إلى الوراء، لتعود الكرّة من جديد، فتسدل الستارة على مرحلة لندخل بأخرى بفتح الهمزة أو ضمها سيان.  ففي المرحلة الأولى لمجيء الاحتلال الجاثم على الضفة الغربية وقطاع غزة، كان الفلسطينيون يعيشون ظروفاً اقتصادية صعبة ومستويات معيشة وأجوراً متدنية جداً، نظراً لحالة الفقر والضعف الاقتصادي المترافقة مع الوفرة العالية في اليد العاملة العاطلة عن العمل، في حين كانت إسرائيل تعاني من صورة معكوسة حيث الوفرة الهائلة بالرأسمال الصناعي والاستثماري والحاجة الملحة لليد العاملة والأسواق، الأمر الذي زاوج ما بين المصالح الفلسطينية والإسرائيلية زواجاً عرفياً آنذاك من حيث ندري ولا ندري. لكن في كل زاوية من زوايا هذه المصالح كان يكمن شيطان سياسي بثوب الاقتصاد والاستيطان.
 صحيح أن العمل المأجور ارتفعت قيمته بشكل خيالي ومُدّ الحبل طويلاً أمام العامل والتاجر الفلسطيني، فكان نمواً للتجارة البينية والمصالح البينية بسلاسة ويُسر غير مألوف ولا مسبوق وإن لصالح الأقوى وهو الإسرائيلي المعزز بالاحتلال حامل بيت القصيد. ولعلّ من بين ما يكشف زيف تلك المرحلة ومصداقيتها المدعاة هو الأعراض الجانبية التي رافقتها وتلتها. فالرفاه الاجتماعي والانتعاش وفرص العمل كانت موظفة ومدروسة على نحو دقيق وممنهج >يعني كل شيء بِحْسَابُه وما في شيء ببلاش غير العمى والطْراش<.  فكانت ظاهرة التسرّب من المدارس التي حملت مرحلة من التجهيل الممنهج لجيل بأكمله، وظاهرة هَجْر المزارعين لأرضهم بعدما اجتاحت المنتجات الإسرائيلية الأسواق الفلسطينية، وأصبح العمل المأجور في سوق العمل الإسرائيلية مجزياً ومدراً للدخل أكثر مما يمكن أن يحققه المزارع في أرضه. الأمر الذي دمّر قطاع الزراعة الفلسطينية وجعله لقمة سائغة للزراعة الإسرائيلية، ناهيك عما استتبع ذلك من إجراءات مصادرة الأرض باعتبارها أراضي مهجورة أو بدواع أمنية خاصة بالاحتلال.  وكان كل هذا في مرحلة يمكن أن نسميها مرحلة الذهاب التي استمرت حتى أواسط السبعينيات، لتبدأ بعدها مرحلة الإياب التي حملت تراجع قيمة الأجور قياساً بالضرائب الباهظة وغلاء المعيشة على نحو أبقى فجوة واسعة جعلت من الصعوبة بمكان على العامل أن يعيش بمستوى معيشي أقل مما تعوّد عليه في مرحلة الذهاب والانتعاش آنفة الذكر، الأمر الذي دفع بأعداد كبيرة من العمال الفلسطينيين للهجرة باتجاه أسواق العمل الخارجية مثل ليبيا ودول الخليج العربي، فكانت ظاهرة الهجرة وتفريغ الأرض، وكل ذلك كان بحثاً عن فرص عمل تساعدهم على ردم الفجوة في مستوى المعيشة الذي فرض عليهم بأعبائه إبّان السنوات الأولى للاحتلال، وذلك لأن معيار مستوى المعيشة بالنسبة للعامل الفلسطيني وخطّ البداية بالنسبة للأجور قد تغيّر من 03 قرشاً أردنياً قبل الاحتلال ليصبح دينارين أو أكثر ما بعد الاحتلال وهكذا.
 ترى ما الذي حصل؟! يجب أن نتساءل ونستنتج وندرس ونبحث لنحدد بعدها تقييمنا الموضوعي لا الإرادوي للسياسات والمواقف الفلسطينية على نحوٍ واقعي يضعنا في المسرب الصحيح لا المتخيل والحالم. لقد كان الخط الأخضر مفتوحاً على مصراعيه ولسنواتٍ طويلة في كل الاتجاهات، ثم أغلق في وجهنا إغلاقاً محكماً وبجدار، ليصبح باتجاه واحد لصالح الإسرائيلي دون الفلسطيني، في معادلة غير متكافئة، لتظل السوق الفلسطينية مستباحة لصالح السوق الإسرائيلية والسلع والزبائن الإسرائيليين، فتقابلت مصالح المستهلك الإسرائيلي والمنتج  والمستوطن الإسرائيلي، كذلك داخل السوق الفلسطينية الخالية من المزاحمة والمنافسة تحت رحمة الاحتلال وحراسته، سيما وأن كل المنافذ والمعابر ترزح تحت قبضة الاحتلال ولا ولاية لنا عليها حتى يومنا هذا. ولو أردنا أن نسترسل في سرد مروّعات المراحل الممتدة بالشعب الفلسطيني منذ عصر الاحتلال والاستيطان وما بعدها من مراحل متسلسلة بنسق تصاعدي لصالح الاحتلال وتنازلي في غير صالحنا، لقلنا ببساطة وعن مرحلة أوسلو وما تلاها حدّث ولا حرج. لكن ليس مهماً بالنسبة لنا معرفة هذه الحقائق المرّة بقدر ما هو مهم أن نستدرك وندرس ونتفحّص ثم نستنبط المواقف والرؤى السياسية التي تمكننا من اختيار المسرب الصحيح الموصل للممكنات من الأهداف والمصالح التي لا نستطيع تجاهل أو نكران ارتباطها وارتهانها بمصالح الأطراف الأخرى بما في ذلك مصلحة إسرائيل ذاتها.
 أسئلة كثيرة وتساؤلات قد تعترينا حول سمات وسيناريوهات كل مرحلة من مراحل الاحتلال، بكل ما فيها من مفارقات ومقاربات مثيرة للجدل أو الحزن والإحباط وخيبة الأمل. لكن عقم المراحل ومرارة التجربة العابرة فيها ما هي إلاّ نتاج فاضح لحروب السياسات الإسرائيلية المحملة على أكتاف الاقتصاد المحقون دعماً من كل حدبٍ وصوب، والمدجج بسلاح الاحتلال والاستيطان الذي ما زال مشرعاً في وجه الفلسطينيين حتى يومنا هذا.
 صحيح أن النكبة قد شكّلت إخراج الفلسطينيين من ديارهم عنوةً، لكن قرار الترحيل الجديد يشكّل اليوم إمعاناً فاضحاً في مطاردة الفلسطينيين في ديارهم وأرضهم وطردهم منها. فهم يريدون بقرارهم إعادة إنتاج النكبة الفلسطينية الأولى وإدامتها ككابوس تهجير دائم من شأنه توريث حالة الاحباط والانكسار الهادم للآمال بمستقبل واعد بالسلام والدولة، الأمر الذي يضع مسؤولية أخلاقية وقانونية مضاعفة على عاتق المجتمع الدولي والإدارة الأميركية على وجه التحديد تجاه الشعب الفلسطيني وحقوقه المستباحة إسرائيلياً. ومع أن خلاصة الفعل الفلسطيني الشافي والناجع في الرد على كل هذا وبعد فقدان روافع وأوراق الحَوْل والقوة، باتت تنحصر بشكل جلي في مرحلة الصمود والبناء التي يقودها اليوم الرئيس أبو مازن ورئيس الوزراء د. سلام فياض من خلال كل الطرق والمسارب الآمنة والمتاحة، التي تحفظ مصالح الشعب الفلسطيني، حيث البناء المؤسسي السياسي والاقتصادي الشفّاف في خضّم معركة التنمية الشاملة التي نخوضها في مواجهة الاحتلال والاستيطان، والتي تعتبر مثل هذا القرار آنف الذكر جزءاً لا يتجزّأ من معركتهم الساعية لإفشالنا ومنعنا من تحقيق أي تقدم باتجاه إقامة دولتنا وكنس احتلالهم. إلاّ أن جُلّ ما أخشاه وأخاف تداعياته وعُقباه، أن يشكل هذا القرار الإسرائيلي مقتلاً جديداً لنا في سياق تعاظم النزعة العنصرية الإسرائيلية المنفلتة من عقالها، فهو سيحقق ابتزازاً مجزياً لصالح الإسرائيليين وتقويضاً مخزياً لعملية السلام وآمال الفلسطينيين، وسيكون له تبعات وتداعيات لا تُحمد عقباها، وفي أحسن الأحوال إذا تراجعوا عن قرارهم أو جمّدوه، فسيرسمون لنا وللعرب والعالم كما في كل مرّة نصراً كاريكاتورياً على الورق يُداعب سخريات القَدَرْ في أمرنا معهم، فنحمد اللّه ونشكر فضله على الانتصار في وقف القرار أو تجميده ليتحوّل إلى هزّة بَدَن حملت لنا وللعالم رسائل عدّة في امتحانٍ قاسٍ، فيصبح تهويد القدس وما يجري فيها أمراً سالفاً ويتثبت الاستيطان فيها وبغيرها مجدداً أمراً واقعاً تحت وقع نشوتنا بالنصر المبين على قرار وزير الدفاع، ليستمر لسان حالنا معهم ما بين "دوّخيني يا لمونة" و"يا داره دوري بينا ظلّي دوري بينا"، وهي الغاية المقصودة على الدوام بالنسبة لهم. asefsaeed@yahoo.com


بين السياسة وردود الأفعال ثمة ما يمكن أن يُقال
بقلم: آصف قزموز

لعبة السياسة الإسرائيلية القائمة أبداً على الافتراءات ولغة الابتزاز وإلصاق التهم المحمّلة على قدراتها وإمكاناتها العالية في قلب الحقائق وتحويلها إلى الضدّ ممهورة بموشحات التباكي المتقنة على السلام والديمقراطية من موقع الجلاّد المجرم اللابس لثوب الضحية على الدوام بعد أن نجح في تحويل الضحية إلى مجرم في نظر العالم، وسياسات التلكُّؤ والاستدراج والإسقاط والتشويه المتعمّد واستسقاء الدم بالدم، وسياسة حفظ الملفّ الأسود لليوم الأبيض كمنهج في التعامل مع الفلسطينيين قيادةً وشعباً، أفراداً وجماعات. ناهيك عن تناغم وتكامل الأدوار على طريقة خذني جيتك في كرة القدم ما بين معسكري ما يسمى اليسار واليمين التي واجهوا بها الفلسطينيين عَبر الحكومات المتعاقبة في مختلف المراحل، ما زالت هي ذاتها بشحمها ولحمها وكامل عُدَدِها وعتادها ومقولاتها الخاصة والعامة المعادية للسلام والفلسطينيين وإن اختلفت الأسماء والمسمّيات والشخوص وتباين النص النظري في القول مع الأداء العملي في الملعب.
كيف لا ونحن الذين شهدنا بدمنا وتعب السنين وعذابات الأسرى والجرحى والمعتقلين، هذه السياسة الماكرة الممتدة على مساحات الصراع التحرّري في بلادنا، تتشكّل وتبني ذاتها مستفيدةً من سياساتنا ومواقفنا القائمة دوماً على ردود الأفعال والعواطف الجيّاشة المستدرجة والمستقاة في غالب الأحيان إن لم نقل على الدوام، لتشكّل لإسرائيل الهاربة أبداً من أي التزام بالسلام أو بغيره وقوداً وشمّاعةً تحمّل عليها تطرّفها وعنصريتها الاستيطانية الاحتلالية وبطشها بالفلسطينيين هروباً من السلام وعواقب الالتزام.
نعم، هم الذين برعوا وأتقنوا سياسة اللعب على أوتار نقاط الضعف والقضايا الحساسة التي تمسّ مشاعر الرأي العام والمواطن كأساس ناجع لهم في التأليب والتحريض على الشعب الفلسطيني وقيادته، لهدم كل لبنة يمكن أن يبنيها الفلسطينيون في جسم الكينونة السياسية أو السلام الموصل لباحات استقلالهم واستقرارهم الوطني والحياتي اليومي. كذلك ففي سجل الماكينة الإعلامية والعسكرية الإسرائيلية ما يكفي من الدلائل والشواهد على ما أنجزوه وحقّقوه في مجال تهيئة وتحريض الرأي العام والمجتمع الدولي عَبر قلب الحقائق وفبركتها ضد الشعب الفلسطيني، وخلق الأرضيات اللازمة لاعتداءاتهم وجرائمهم التي يسعون اليوم لتهريبها من أمام أعين القضاء الدولي، لا سيما جرائمهم في غزة واغتيال الشهيد المبحوح في دبي. بل إن في قضية شبانة-الحسيني ما يؤكد للأعمى وللبصير معاً ما وصلت وذهبت إليه السياسات الإسرائيلية المتوارثة من انحدار وانحطاط مكشوف في ابتزاز الفلسطينيين ومنعهم من تحقيق أي إنجاز أو إظهار أية حقيقة منصفة لهم ولحقوقهم. ففي هذ الملف تحديداً بصرف النظر عن سيناريوهاته وشخوصه وشكله ومضمونه تجلٍ فاضح في انحطاط السلوك الإسرائيلي تجاه الشريك الفلسطيني الذي ما زالت الحكومة الإسرائيلية تستهدفه وتسعى لابتزازه بكل الوسائل المانعة له من النجاح أو المشاركة الندّية أو الجزئية في صنع سلام واستقرار متوازن خلاّق وبنّاء يحقق المصلحة الفلسطينية عَبر حفظ مصالح كل الأطراف المكونة لمعادلة المنطقة دون استثناء.ولعلّنا لم ننس بعد ما قاله رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق أرئيل شارون في جوابه على سؤال أحد كبار القادة الأوروبيين حول خطط إسرائيل المقبلة تجاه الفلسطينيين بعد انقلاب "حماس" على السلطة، حيث أجابه بكل وضوح أن لا خطط لدى الحكومة الإسرائيلية بل ستكون في استراحة واسترخاء تراقب ما يجري بين الفلسطينيين، ولَعَمري أن أكثر ما يقلق الإسرائيليين هذه الأيام هو حالة الاتزان الواقعي والتكامل وتناغم الأدوار في أداء ثنائية رئيس الدولة ودولة الرئيس، أبو مازن ود. سلام فياض.
نحن اليوم مدعوون للإقدام على مواقف وسياسات واقعية ومتوازنة بعيداً عن العواطف والعنتريات المحمّلة على ردود الأفعال وحسابات المزايدات مع الخصوم السياسيين والفصائل. فالمسؤول الحامل للواء قيادة الشعب الفلسطيني تقع على عاتقه مسؤوليات وأعباء لا تخضع لحسابات من هم مختلفون أو متخالفون مع القيادة الشرعية الرسمية، واللحظة السياسية التي نعيشها هذه الأيام أكثر عُسراً ودقة وحساسية من أية لحظة خلت على امتداد كل المراحل.ففي ضوء الردّ الأميركي الذي قدم للفلسطينيين من خلال المبعوث الأميركي جورج ميتشل والذي أصبح على ما يبدو أكثر يأساً وإحباطاً من الفلسطينيين، لم يكن مرضياً للقيادة الفلسطينية ولا بمستوى المسؤولية والموضوعية المفترضة التي كنا ننتظرها. لكن هذا الأمر بكل مرارته الرابطة للألْسُن والأفئدة معاً يتطلّب منّا صحوة وتأنياً مسؤولاً في اتخاذ الموقف المطلوب. حيث نحن مدعوون وفقاً للردّ المذكور للذهاب إلى مفاوضات غير مباشرة في ظل عودة الترحيب الأميركي بحل الدولتين وكأن الأمر يطرح على مسامعهم لأوّل مرّة، وبالتالي لا بدّ لنا من موقف رزين مسؤول ومتوازن محمل على بساط العقل والمنطق لا على بساط العواطف والأحلام وردود الأفعال المعهودة، آخذين بعين الاعتبار كل المعطيات بما فيها انعدام الأسباب الكافية للذهاب مجدداً إلى المفاوضات.
يجب أن نحرص ونعمل بكل ما أوتينا من قوّة ومن رباط الخيل، لأجل الذهاب للمفاوضات وإن بشروطٍ لا ترتقي لمستوى رضانا الكامل، بحيث نضمن تحسيناً في الشروط والمواصفات تحقق لنا إمكانية أن نحرز تقدماً أو إنجازاً محدداً عما كنا وأصبحنا عليه، وهذا أضعف الإيمان وأقلّ الطموحات تواضعاً. آخذين بعين الاعتبار كذلك انه من الصعوبة بمكان أن نرفض الذهاب لهذه المفاوضات رفضاً مطلقاً مع إدراكنا بأن هذه المفاوضات غير المباشرة ستقودنا بالتأكيد لمفاوضات مباشرة لكنها والحالة هذه غير مضمونة النتائج ولا واضحة المعالم، ما يستوجب السعي لضمانة أكبر للنتائج ووضوحاً أكثر للمعالم التي سنسير بهديها. وخلاف ذلك نصبح أمام خيارين لا ثالث لهما على الاطلاق وهما: إما الذهاب لمجلس الأمن من أجل انتزاع قرار بحل الدولتين وهذا خيار محفوف بالفشل والمخاطر التي لا تقل عن المخاطر المحفوف بها الخيار الأول القاضي بالذهاب لمفاوضات غير مباشرة.
نعم، الأمر لم يعد يحتمل المناكفات والمزايدات، والبَلَلْ بات يَطالُ كل اللّحى والذقون، والوطن والقضية باتا في خطر من طهران حتى قطر. وكما قال لنا أحد المسؤولين المرموقين في السياسة وبالفم الملآن الطافح بالمصارحة والعامر بالشفافية: "لا جماعة المقاومة بيقاوموا ولا جماعة المفاوضات بيفاوضوا". وبالتالي نحن اليوم أمام مفترق خطر وخيارين وحيدين قد يكون أحلاهما مُرّ، فإما الذهاب للتفاوض غير المباشر بعد بذل كل جهد مستطاع لتحسين الشروط، أو الذهاب لمجلس الأمن، ولكن في كلتا الحالتين ستبقى خياراتنا غير مضمونة النتائج ولا العواقب.
 فهل ينتصر العرب لنا ويؤازروننا ولو في تحسين شروط الذهاب ومساحة الضمان في أيٍّ من الاتجاهين الخيارين؟ وهل ننجح هذه المرة بتخطي عقلية رسم المواقف والسياسات على أساس ردود الأفعال وحسابات المزايدة التي طالما طبعت سياساتنا ومواقفنا السابقة؟
 تساؤلات تبقى بظهر الغيب ورحم الأيّام المقبلة.
asefsaeed@yahoo.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق