السبت، 10 أبريل 2010

مجرّد مستوطنة


علي شكشك
في البدء كان الاستيطان, مُذ كان فكرة, قبل أن يُهاجرَ الغازي الأوّل إلى فلسطين, الغازي أي المستوطن بلغة السياسة الدارجة, ربما لتخفيف وطء الكلمة وظلالها وإيحاءاتها, وربما لأنه لم يفرض واقعاً احتلالياً فقط, بل واقعاً اصطلاحياً أيضا,
فقد استوطنت فكرة الغزو رؤوسهم قبل أن يأتوا, وإذا كان الأمرُ كذلك فكلُّ بقعةٍ غزوها وأزاحوا أهلها واستوطنوها هي مستوطنة, كلّ بيت, كلّ شارع, كل فضاء, كلّ هواء,
ولا فرق بين الاستيطان الأول في "تل أبيب" وبين وبناء المستوطنات في القدس الآن, ولا فرق بين تهجير الفلسطينيين ابتداءً من عام ثمان وأربعين وبين تهجيرهم من بيوتهم في الشيخ جراح عام ألفين وعشر,
ذلك أنّ الفكرة الأساسية واحدة, الغزو والتهجير والاستيطان الإحلالي, وأنّ الروح التي تكمن خلف كلِّ هذا الفعل هي روح الحرمان والإقصاء والنفي من جهة, والاستحواذ والادّعاء والتملك والإحلال والاحتلال من جهةٍ أخرى,
ولعلّ الدافع الأوّل وراء كلّ ذلك هو جِبِلّتُهم الأولى, جبلّتهم هم أنفسهم التي أورثتهم ما أورثتهم من صفاتٍ وسمات شهد عليها الأنبياء والكتب المقدسة والتاريخ والمؤرخون والمجتمعات التي عايشتهم وعايشوها, وأكّدت تلك الجبلة وصّدقت تلك التسميات الأولى,
"ضعوا التوراة بجانب تابوت الرب ليكون شاهداً عليكم, لأني عارفٌ تمردكم ورقابكم الصلبة, هو ذا وأنا بعدُ حيٌّ معكم قد صرتم تقاومون الرب, فكيف بعد موتي" {نبي الله موسى عليه السلام},
"فرفع يده مقسماً ليسقطنهم في البرية ويسقطنّ ذريتهم في الأمم ويبددنهم في البلاد ... مرّاتٍ كثيرة أنقذهم لكنهم تمردوا على تدبيره وانحطوا بآثامهم" {المزمور السادس بعد المائة لداوود عليه السلام},
"ويلٌ للأمة الخاطئة الشعب المثقل بالآثام, ذرية أشرار وبنين فاسدين" {أشعيا},
تلك الجبلة التي شهدت عليها أيضاً البشرية على مرّ العصور أدباء وسياسيين, هي التي فاقمت العناد عناداً والغيرة غيرةً والحسد حسدا, وهي التي وصل بها الأمر إلى الاحتجاج والحسد على مشيئة الله أن ينزّل من فضله على من يشاء, أن يصبح الحجر الذي أهمله البناؤون هو رأس الزاوية كما قال مسيح البشارة, وأن تكون النبوّة وختم الرسالة في نسل إسماعيل عليه السلام,
فعمدوا من حينها إلى استيطان التاريخ ونفي الآخرين, في حركة نفسية لمعاندة الكون ومحاولة التوازن واستعادة الاعتبار المَرَضِيّ, فكانت كلُّ حركتهم التاريخية تحاول احتلال المقدس واحتكاره ونفي الآخر منه, ملكوت الأرض ورأس المال وملكوت السماء, والتسلل إلى كتب التراث والسيطرة على فضاء الوعي والأفكار والغرائز والإعلام, وصولاً إلى الهيمنة والسيطرة وفرض الأمر بالقوة, واحتلال المستقبل وتأويل الماضي واختلاق الآثار, وادّعاء بناء الأهرام وتأميم التراث, بل ومصادرة الأزياء والفولكلور وأطباق الطعام, إنه ليس مجرّدَ سلب بل جبلّة مرضية تعاندُ الإله,
وهم لم يستوطنوا فقط البيوت التي اغتصبوها, بيوت الفلسطينيين التي استولوا عليها بما فيها من أثاثٍ وأسِرَّةٍ وفراشٍ وأدوات مطبخ وذكريات وصور الحائط وما فيها من ديكورات, وشربوا الشاي الذي كان على النار وأكلوا الدقيق المخزون في الدار, بل استولوا على المزارع والبيارات وعلى مواسم الحصاد, استولوا على وطنٍ كاملٍ جاهزٍ للاستعمال, على بيوتٍ جاهزة مجهَّزَة, وعلى حقولٍ مثمرة, ومصانع ما زالت ساخنة, وعلى شوارع مرصوفة ومدارس مؤثثة وشوارع مرصوفة ومستشفياتٍ ومخافرَ للشرطة ومقار للحكومة, ومراكز بلدية وقروية وبنوك وخطوط مواصلات وعلى مطارات وموانئ وشواطئ وسكك حديدية ومحطاتٍ إذاعية, وعلى رائحة الليمون والأجران والمحجار,
هم لم يفعلوا منذ البدء أكثرَ من الاستيطان, الأرض والتاريخ والمستقبل والتراث والآثار, هم ليسوا إلا مستوطنة كبيرة تعاند السياق وخارج المدار.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق