الثلاثاء، 9 فبراير 2010

المسكونون في الماضي ... بائسون وعاجزون


محمد  خضر قرش- القدس

يكاد يندر ان تشاهد أو تقرأ أو تستمع لأيِ خطاب سياسي أو ديني أو ثقافي أوحتى إقتصادي عربي أو إسلامي ، سواء كان كخطاب دينيَ في المساجد أوكلمة في القاعات المغلقة أو ورش العمل أو المؤتمرات أو الندوات أومحاضرة في مدرجات الجامعة أومقابلة عبر شاشات التلفاز، دون أن يغوص صاحبه/ صاحبها في الماضي التليد وذكرياته وأحداثه وأمجاده . ولأن الماضي البعيد جدا كان يعج بالأحداث والتطورات والمعارك ومعظمها كان لصالح العرب والمسلمين ،حيث كانت السيوف والرماح والنبال والخيول وكتلة الجسم هي ألأسلحة الحاسمة في ذلك الوقت، فإن إستمرارإجترارها من شأنه إعطاء الهيبة للمتحدث عن حجم المعلومات التاريخية التي يختزنها في ذاكرته . كما أنها تساهم في  إراحة نفسية المستمع أو المشاهد أو المتابع للخطاب وتزيل عنه مؤقتا وجع وهموم الحاضر المؤلم والمهين الذي يعيش به .ويمكن تشبيه  الخطاب بالمسكنات أو إبرِ التخدير – البنج- والتي ينتهي مفعولها عادة مع خروجه من قاعة العملية ومشاهدته سيارة عسكرية للإحتلال يقودها جندي واحدلايزيد عمره عن عشرين عاما، يقف على مفترق طرق أو بطريق فرعي في مدينة رام الله،مثلا، لتفتيش المارة ، بغض النظر عن أطوالهم وضخامة أجسامهم وعضلاتهم ومراكزهم ومناصبهم. وتزداد اهمية الخطاب الملقى ، فيما إذا كانت ألأحداث المسرودة فيه تتضمن معلومات دينية من زمن الخلفاء الراشدين والصحابة والقادة التاريخيين إبان الحكمين ألأموي والعباسي وبعض قادتهما كالمعتصم ، الذي إستجاب لصرخات إمرأة مسلمة حاول بعض أفراد الروم إغتصابها فجيًشَ الجيوش من أجلها وإنتصر لها، وصلاح الدين ألأيوبي الذي حرر بيت المقدس، وغيرهما من القادة الذين سبقوهما وحققوا ألإنتصارات وبلغوا نهر السند في الهند في أقصى الشرق وأواسط أوروبا في الشمال دون أن ينسوا إسبانيا – ألأندلس-. ومع التقدير الشديد لما قام به وفعلوه القادة ألأوائل من العرب والمسلمين، إلإان إجترارألأحداث والوقوف عندها كرس حالة من أللامبالاة والبلادة والكسل والخمول والفشل وتبرئة النفس من الفعل أيضا وألإكتفاء بالتغني بأمجاد ما فعله ألأوائل فحسب .فالفخربالأجداد وبما صنعوه أوعملوه، عار علينا وعليهم كما يقول ألأديب عباس محمودالعقاد ، إذا لم نحذُ حذوهم ونحقق بعض ما حققوه كإزالة آثار عدوان 1967 أو فك الحصار عن قطاع غزة على ألأقل ،وذلك أضعف ألإيمان والرجولة. فإذا كان الماضي البعيد جدا،قد شكل الحقبة المضيئة في حياتنا وتاريخنا، فإنه من المصيبة أن نبقى نتغنى به ونعيش عليه وألأكثر خطورة ومأساة ان ننقل هذا ألإجترارالبائس والمفلس الى أولادنا وأحفادنا وأجيالنا القادمة .فالقتال في الزمان البعيد كان يعتمد على قوة وبأس الرجل وقدرته الجسمانية بالدرجة ألأولى ، فلم يكن غريبا والحالة هذه أن ينتصر العرب والمسلمون في معظم المعارك التي كانوا يخوضونها . فالفروسية كانت جزءاً من التنشأة والتربية والخصال التي يتوجب على كل شاب أن يتعلمها ،إذا أراد ان يكون له شأن ومركز ذو أهمية في البيئة والمجتمع في ذلك الزمان ويحظى بثقة ورضى وإحترام محبوبته وعشيقته أيضا. ولم يقتصر إجترار ألإنتصارات وألإستحضار الدائم للتاريخ التليد وألأمجادعلى النخب السياسية والوعاظ وأئمة الجوامع والمساجد وقساوسة الكنيسة فحسب، بل تعداه الى كوادرألأحزاب ومنظمات المجتمع المدني وأساتذة الجامعات والمدرسين وحتى ألأباء وألأمهات.فقد تحول الى مرض متأصل فينا إستعصى على ألأطباء تشخيصه وعلاجه.لقد خرج العرب من صنع التاريخ وألأحداث وألإكتشافات وألإبتكارات منذ زمن ليس بالقريب، ورضوَا بأن يكونوا مع القاعدين والمخلفين من ألأعراب والمنتظرين والمتسولين وذوي العاهات أوالمرضى حتى يتجنبوا الحرج ،على قاعدة وليس على المريض حرج . لقد حرفت وأفسدت وأشغلت وألهت ،كراسيَ السلطة والحكم وأموال النفط وحب نعيم الحياة ومظاهر اللهو والمرفهات الحديثة المستوردة ،العرب عن إحترام أنفسهم وتاريخهم وأبعدتهم عما حققوه في الماضي وإكتفوا بإجترارأحداثه لعلها تواسيهم أوتعيد اليهم جزءاَ من كرامتهم التي هدروها وضيعوها بأنفسهم . وقد وجدواِ ضآلتهم بدخولهم في هوامش الشهرة عبرموسوعة جينس للأرقام القياسية في أوسع صحن للتبولة وأضخم منسف وأكبر صينية كنافة وأفخم كبسة وأعلى برج في العالم،كترجمة لضعفهم وهروبهم من التاريخ والمشاركة في صنع ألأحداث. إن أهم ما يمتاز به الوطن العربي هوسيادة ثقافة الماضي البعيد وسحبهاعلى واقعهم الحالي المقرف والمهين . فتعطيل الديمقراطية ووأد حقوق ألإنسان وإهدار كرامته وألإستئثار المطلق بالسلطة بغض النظر عن الثمن المدفوع ،حتى لو كان بسفك دماء العرب والمسلمين وتأجير ألأوطان أو بيعها ومن ضمنها تهجير الرعية.لقد أدى ألتمسك بالسلطة والتشبث بها تحت أي ظرف، الى الخشية من الحداثة وتطبيقاتها بمضمونها ومحتواها  الحقيقي وكره النقد وتشجيع النفاق ومدح الذات وإجهاض ألإبداع وتعطيل نصف المجتمع عن المشاركة الحقيقية في البناء وتكريس مصطلحات الكهنوت السياسي وصبغ الهالة عليه ، للحفاظ على دور الشخوص السياسية وإطلاق إسماء القادة أو الزعماءالتاريخيين عليهم بدلا من أسمائهم الحقيقية،وذلك لدرء النقد عنهم وحمايتهم طيلة سنوات مكوثهم ألإجباري في أعلى سلم البطريركية السياسية والحزبية والدينية والتي بات همَها التبرير للحاكم وألإفتاء له وتحليل أقواله وأفعاله.فلم يكن مستغربا والحالة هذه ، أن يلجأ هذا الكهنوت الى تحجيم دور العقل ومعارضة المنافسة لمسيرة التقدم والتغييروالتي بفضلها سبقتنا أمم كثيرة الى مضمار الحضارة الحقيقية . لقد إعتقد هذا الكهنوت، بان ألإحتفاظ بالمصطلحات وألألفاظ والتعابير الثورية اللفظية البعيدة عن الممارسة والعمل الفعلي بالإضافة الى التغني بالديمقراطية  ودع ألف زهرة تتفتح ،من شأنه إطالة عمره وتحصينه والحوؤل دون سقوطه أو إستبداله ما دام على قيد الحياة . لقد تحولت كل دولة عربية  أو شبه دولة ،بما فيها تلك التي مازالت تحت ألإحتلال كالعراق أوالحكم الذاتي المحدود جدا،كفلسطين ،الى قوة طاردة ومحاربة للكفاءات والخبرات .أفليس غريبا أن يبدع ألأفراد العرب في كافة المجالات والمهن حينما يعملون في الخارج ؟! . فهل يمكن لهذه ألأنظمة أن تقدم تفسيرا لهذه الظاهرة الملفتة للنظر!! لقد تحولت معظم ألأنظمة العربية الى أنظمة ملكية دكتاتورية توريثية وبالأدق الى إمبراطوريات أقسى وأمرَوأبشع من تلك التي سادت في القرون الوسطى . لقد شجعت هذه ألأنظمة على قيام مؤسسات ومراكزثقافية ومحطات فضائية  بغرض ألإمعان في حرف ألأجيال الحالية والمستقبلية عن واقعهم المؤلم وإلهائهم عن قضاياهم الجوهرية نحو برامج الخلاعة وألأغاني الهابطة بغرض تخريب الثقافة أوما تبقى منها .فالذين يعيشون في الماضي يحتاجون الى ثقافة هابطة ومنحرفة لكي يضمنوا لأنفسهم ألإستمرار في الحكم . إن أكثر ما يخيف قادة الكهنوت السياسي والحزبي والديني الحالي هو خشيته من سيادة الديموقراطية الحقيقية وطيَ صفحات تمجيد الماضي التليد وعودة الكفاءات الى أرض الوطن واخذ دورهم المرتجى وتكريس المساءلة والشفافية والمحاسبة في كل القطاعات والمجالات وإطلاق ألأسماء الحقيقة عليهم والتأسيس لمبدأ ألخيار الحر لكل شخوص الحكم والسلطة وسيادة الثقافة الوطنية. إن بقاء ألأنظمة الحالية ومكوناتها وفروعها من ألأحزاب والجبهات والحركات والفصائل وما يطلق عليه المنظمات الشعبية ما هو إلا تكريس لسيادة ثقافة الماضي وألإستغراق أو البقاء فيها والمكوث بين جنباتها وألإسترزاق منها وعليها . فالمسكونون في الماضي لا يرغبون بخلع عباءة التقاليد والعادات البالية والتخلص من نظرية المؤامرة والتبريروإلقاء اللوم على الغيروتأليه الزعيم وأفكاره !!!. فهم على إستعداد لمحاربة أبناء عروبتهم وشعوبهم بلا هوادة لمنعهم من إحداث التغيير المطلوب ، ليس هذا فحسب، بل هم متأهبون دوما للتعاون مع الشيطان في سبيل الحفاظ على حكمهم ومصالحهم وثقافة الماضي التليد الذي يتغنون به ، حتى لو أدى ألامر الى تقسيم البلدوتفتيته وأنتشار الحرب ألاهلية أو الطائفية أو المذهبية، وألأمثلة هنا أكثر من أن تعد أوتحصى ،سواء في الماضي غير البعيد أوالوقت الحالي .فالكهنوت السياسي بكافة أطيافة وأشكاله وأصوله وأفخاذه وتفرعاته ،يهدف لخلق اليأس في نفوس ألأجيال الجديدة من إمكانية التغيير ليبقي على البؤس السائد وألآخذ بالإنتشار ،من أجل ألإعتراف به وألإقرار له بأحقيته بالبقاء على قمة هرم البطريركية السياسية والدينية والثقافية وألإجتماعية وألإقتصادية بلا منازع . فالمسكونون في الماضي لا يملكون غير هذا ،لذلك فهم بائسون وميئسون وفاشلون وعاجزون عن الفعل في ذات الوقت لذا، لا فائدة ترتجى منهم،فهم بمثابة الميتون سياسيا ووطنيا . ولا يتوقع والحالة هذه أن نتوسم التغيير أو الخير ممن مات سياسيا وإن بقيت أجسامهم شاخصة أمامنا تتحرك، حالهم كحال الملك سليمان حينما لم تعلم الجن الذين كانوا يعملون لديه بالسخرة أنه ميت إلا بعد أن دلتهم دابة ألأرض على ذلك، بعد أن تمكنت من حفروأكل سأته التي كان يرتكز عليها، فسقط أرضا . وعندها أدرك الجن موته فأصبحوا أحرارا. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: متى يدرك الشعب العربي أن قادة الكهنوت السياسي ماتوا منذ زمن بعيد  ولا حاجة لدابة ألأرض لتدلنا على موتهم . فدعونا نخرج عن طاعتهم لقد آن ألآوان لفعل ذلك . فالمسكونون في الماضي دائما بائسون وعاجزون عن مواكبة العصر وتحقيق النصر،لذلك وجب علينا أن لا نكرر تجربة الجن مع الملك سليمان . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق