السبت، 6 فبراير 2010

في المشروع الوطني المستقل تحديات لها تاريخ ومعالجات أكيدة


 بقلم: عبد السلام بوعائشة

    واقع اللغة العربية في بلادنا وما يشهده من تهميش مقصود من عدد لا يستهان به من النخب السياسية والثقافية والإعلامية فضلا عن نخب الإدارة والعلم يختزل بشكل ملموس واقع الهوية,هوية  المجتمع وهوية الدولة, ويكشف عن عمق التشوهات التي لحقت بنسيج كل منهما على جميع المستويات. هذا الواقع  وإن كانت بداياته قد تزامنت مع سياسات الاستعمار الفرنسي المباشر لتونس منذ سنة1881 و استمرت على امتداد سبعين سنة أي إلى حدود1956 إلا أننا وللأسف نرى انه اتخذ مع  حكومة الاستقلال أبعادا أكثر خطورة وتأثيرا على البلاد ومستقبل أجيالها وأفضى إلى ما نعيشه اليوم من أزمة حقيقية تعصف بمجمل نظامنا الحياتي من اقتصاد واجتماع وثقافة وتعليم بل وتعدت ذلك كله لتنسحب على وعينا الدفين بموضوع الهوية في علاقتها بالآخر وعلى طريقة مقاربتنا لمشاكل البلاد وسبل حلها حاضرا ومستقبلا.
في زمن الحركة الوطنية التحريرية كان الخط الفاصل بين الانتماء وبين التبعية والعمالة للمستعمر الفرنسي واضحا بفعل الحضور المادي المباشر لجيش الاستعمار و سياسته القمعية التي مثلت حاجزا بينه وبين الشعب تتباين في العمق مع مطالب الحركة الوطنية  كما كانت المقاومة على عهده متحصنة في المؤسسات التقليدية للمجتمع وفي منظومة القيم التي سارت عليها حياة البلاد منذ قرون ونتيجة لذلك فان العلاقة بين مشروع الاستعمار ومشروع التحرر الوطني ما كان لها أن تتجاوز حدود الصراع التصادمي إلى التعايش والتصالح ولم يفلح الاستعمار رغم جبروت قوته العسكرية وتفوقه العلمي والاقتصادي والنهضة الشاملة التي كانت عليها فرنسا في كسر شوكة المقاومة وإجبار المجتمع على القبول بنواميس حضارته ومدونة ثقافته ومصالحه. لكن ومع خروج جيوشه المباشرة سنة 1956 وقيام حكومة وطنية من أبناء البلاد غابت الحواجز المادية التي كانت تفصل بين مشروع المستعمر ومشروع التحرر الوطني وبالمقابل اعتمدت الحكومة على نظم في السياسة والاقتصاد والتعليم متأثرة أيما تأثر بنظم المستعمر إن لم تكن صورة طبق الأصل لنهجه وخياراته في بناء الدولة - وقديما قال ابن خلدون" المغلوب مولع أبدا باتباع الغالب"-.
 هذا النهج قاد الحكم الجديد وبقطع النظر عن نوايا أصحابه إلى القضاء التدريجي  وباسم التحديث  على تقاليد البلاد الإنتاجية والتعليمية والثقافية والعمرانية و عمل على استنبات نظام جديد للحياة جعل البلاد تعتمد شيئا فشيئا على مستحدثات التمدن الفرنسي فكرا ولغة ونظما سياسية واقتصادية وإدارية وتعليمية وثقافية  وتهمش  مخزون التاريخ الوطني الأصيل . هذا النهج يبدو واضحا في الاستهداف المبكر  للنظام السياسي الذي كان قائما قبل الحقبة الاستعمارية واستبداله بطريقة آلية بنظام سياسي لم تكن لتتوفر  الشروط الثقافية والمجتمعية لنجاحه وهو صورة للنظام السياسي الفرنسي, كما يبدو هذا النهج واضحا في الاستهداف المبكر لمؤسسات عريقة في البلاد كالتعليم الزيتوني ونظام الأحباس أو الأوقاف و في استهداف تيار عريض داخل الحركة الوطنية عارض بشدة توجهات الحكومة الجديدة وخياراتها في بناء مستقبل تونس وشعبها.
 وباعتبار غياب الشروط المجتمعية والثقافية لنجاح هذا المشروع الجديد بالإضافة إلى ما يمثله من اختراق استعماري للدولة الحديثة فانه بقي رغم كل جهود الحكومات المتعاقبة معلقا بين الإمكان السياسي والمقاومة التاريخية  فعجز عن النهوض بالمجتمع إلى ما وعد به من نظام سياسي ديمقراطي وتنمية اقتصادية مستقلة مستديمة وبقي حبيسا في  مؤسسات الدولة وفكر النخب عاجزا عن إحداث التحول التاريخي في هياكل المجتمع التقليدية بل إن هاته المؤسسات حاصرته بثقافتها القبلية أو الدينية أو الجهوية وعطلت آليات عمله كما عطل هو مسيرة نموها وتطورها وبتنا نشهد ما نشهده اليوم من جمود في الحراك الاجتماعي والسياسي والثقافي والتعليمي رغم تنوع حضور الأحزاب والجمعيات في ساحة العمل العام بل وأصبحنا نعيش تراجعا خطيرا في أداء منظومة الأسرة والمؤسسات التربوية والتعليمية الشيئ الذي يؤشر على أن حالة التصادم والتباين بين الخيارات المؤسسة للدولة الوطنية وخيارات التاريخ الاجتماعي للبلاد قد أفضت إلى أزمة حادة على المستويين المجتمعي والسياسي تكاد تعطل مجمل المسارين وتعمق معضلة الهوية , هوية البلاد وهوية الدولة ومشروعها الوطني.
 إن النظرة الموضوعية المستندة إلى قراءة المسار التاريخي للبلاد ونظامها السياسي لا بد أن تفضي بنا إلى ضرورة الوعي بان تمنع النظام الديمقراطي في تونس وهشاشة البنى الاقتصادية والثقافية والتعليمية واستقالة المجتمع عن الحراك التاريخي الايجابي وتزايد نزيف الهجرة بأنواعها والتشوهات الخطيرة التي باتت تهدد الهوية الوطنية وأنتج طابورا للتبعية والعمالة المفضوحة إنما هو نتيجة لهذا الخصام القديم بين كتلة التاريخ والحضارة الكامنة في هياكل ومؤسسات المجتمع وكتلة المشروع السياسي المستحدث مع دولة الاستقلال والذي عجز عن فك الارتباط مع الآخر الاستعماري والاستجابة للمطلب التاريخي الوطني , هذا الخصام وتداعياته السلبية على المجتمع والدولة أخرجته العولمة الرأسمالية وآلياتها الثقافية والسياسية والإعلامية إلى العراء وفضحت العجز القاتل الذي أصبحت عليه الدولة والمجتمع على حد سواء.
    إن هذا الحال يتطلب في نظرنا من جميع المعنيين بالمستقبل الوطني ضرورة الوعي بان المعالجة المطلوبة في التعامل مع أوضاعنا الوطنية اليوم لا بد أن تكون أولا معالجة تاريخية بمعنى البحث عن المصالحة بين المجتمع والمشروع السياسي وثانيا معالجة عميقة و شاملة لا تقف عند حدود السياسي بل تتجاوزه إلى الثقافي والاقتصادي والاجتماعي وثالثا أن تكون معالجة توافقية تتحسب للتحديات الخارجية الجارفة للدولة والمجتمع والتي بدأت تعصف باستقرار عديد الدول والكيانات الضعيفة في العالم  ورابعا أن تكون معالجة وحدوية بمعنى أن تعيد الاعتبار لعمق الهوية الوطنية في بعدها القومي العربي توافقا مع الماضي  و اعتبارا لما يوفره هذا البعد في زمن العولمة من طوق للنجاة نعتقد انه هو المنقذ لأنه هو طوق التاريخ الذي يأبى العودة للوراء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق