الأربعاء، 24 مارس 2010

الشيطان كان هنا بالأمس


د. محمد سعد أبو العزم

هو الوحيد الذي أمر بأن توزع خرائط الأراضي الفلسطينية على المدارس في بلده، لتبين ضيق المساحة التي يعيش فيها مليون ونصف المليون فلسطيني في قطاع غزة المحاصر، وهو الوحيد الذي أعلن بأنه ينبغي جر الرئيس الإسرائيلي إلى محكمة دولية ومعه الرئيس الأميركي، وهو أيضًا الوحيد الذي استدعى سفير بلاده في "تل أبيب" احتجاجًا على الحرب الإسرائيلية على لبنان في صيف 2006، ثم قام بقطع علاقاته الدبلوماسية معها بسبب الهجوم على غزة الذي وصفه بأنه "محرقة" فلسطينية، وأخيرًا فهو الوحيد الذي تهكم على رئيس أكبر دول العالم، عندما خطب في مبنى الأمم المتحدة أمام كل رؤساء دول العالم وقال عن جورج بوش: "الشيطان جاء إلى هنا بالأمس".
قد يكون من المثير للاهتمام أنه في ظل تصاعد الأحداث الأخيرة في فلسطين، فإن الأنظار لم تعد تتجه إلى الأنظمة العربية، لم يعد يطلب منها أي رد فعل، بقدر ما أصبح الجميع يبحث عن الأبطال المنتظرين، والذين عهدت منهم الشعوب المواقف المشرفة تضامنًا مع قضاياها، وكان في مقدمة هؤلاء الأبطال رئيس الوزراء التركي "رجب طيب أردوغان"، والرئيس الفنزويلي "هوغو شافيز"، وهو الرجل الذي سنحاول أن نقترب أكثر من شخصيته لنفهم الدوافع التي جعلت منه المدافع الأول عن قضايانا، ليعلنها صراحة: "نحن الفنزويليين؛ يجب أن نكرس كل ما في قلوبنا وأرواحنا من قوة لإقامة دولة فلسطينية."
عاش "شافيز" حياة الحرمان منذ ولادته عام 1955، وعلاوة على الفقر المدقع الذي عانى منه في طفولته، فإن بشرته الداكنة -التي كانت السمة الغالبة لجميع أفراد أسرته- جعلته يشعر بالمزيد من المعاناة والتمييز في مجتمع تهيمن عليه نخبة من البيض، انتقل "شافيز" في سن مبكرة ليعيش مع جدته، حيث بدأ في العمل لإعانة أسرته عن طريق بيع الحلوى التي تصنعها الجدة، بدأت قصة هذا الرجل مع حلم الرئاسة وهو في التاسعة عشرة من عمره، عندما حضر حفل تنصيب رئيس للبلاد ينتمي لطبقة الأغنياء( كارلوس أندريه بيريز)، وتساءل في نفسه: لماذا لا أكون أنا في مكانه؟، كان "شافيز" وقتها قد التحق بالجيش بهدف تحقيق إنجاز لنفسه وللفقراء من أمثاله، ولاحظ أثناء سنوات خدمته الأولى أن المؤسسة العسكرية في بلاده لا تختلف عن الهيئات المدنية التي ينخر فيها الفساد، صعد "شافيز" في سلم الترقيات إلى أن حصل على رتبة عقيد، ثم تولى قيادة وحدة مظلات، وبسبب ما كان يتمتع به من شخصية كاريزمية، وبشعبيته الواسعة بين الجنود، فقد استطاع أن يستقطب عددًا كبيرًا من العسكريين إلى الأفكار التي يؤمن بها، ثم بدأ يشكل خلايا صغيرة لبناء شبكة من المؤيدين لأفكاره في الجيش الفنزويلي، تمهيدًا لتشكيل حركة عرفت فيما بعد بـ«الحركة الثورية البوليفارية» حيث أعد خطته لانقلاب عسكري يطيح بالرئيس "بيريز"، لكن الانقلاب الذي بدأ في العام 1992 سرعان ما فشل، وألقي القبض على الرجل، وبسبب شعبية "شافيز" الكبيرة تعمدت السلطة ألا تكون قاسية معه، وخدمه الحظ بعد سنتين من بقائه في السجن بسقوط الرئيس "بيريز" بسبب تفاقم الفساد، حيث تولى الرئاسة من بعده الرئيس "رافاييل كالديرا" الذي أصدر عفوا رئاسيًا عنه، ومنحه تسريحًا شرفيًا من الجيش الفنزويلي.
تعلم "شافيز" الدرس هذه المرة، وبدلاً من تشكيل خلايا عسكرية مسلحة، فقد شكل مع مجموعة من السياسيين ذوي التوجه اليساري حزبًا جديدًا أسموه «حركة الجمهورية الخامسة»، وقدمته الحركة مرشحًا للانتخابات الرئاسية، حيث تمكن في العام 1998 من تحقيق حلمه، بحصوله على أصوات 56% من الناخبين ليصبح بذلك رئيسًا للبلاد، وهو أول منصب سياسي رسمي يتولاه في حياته، حيث باشر على الفور بتطبيق أجندته السياسية، وبادر بتغيير الدستور الذي حدد فترة الرئاسة للدورة الواحدة بست سنوات، ثم استعد لخوض الانتخابات بموجب الدستور الجديد، كي يبدأ فترة رئاسية مدتها ست سنوات، ورشح نفسه على أساس برنامج لمحاربة عدوه منذ الصغر المسمى بالفساد، وكان شعاره أثناء الحملة الانتخابية هو «أنا بطل الفقراء» وهو الشعار الذي وجد صدى واسعًا بين الفقراء، وكان للرجل برنامجه السياسي، ويعرف فعلاً ماذا يريد، وبعد نجاحه في الانتخابات بدأ يطبق برنامجه على أرض الواقع، وعلى مدى سنوات قاد شافيز حملات إصلاح اقتصادية واجتماعية عديدة، وبفضل ارتفاع أسعار النفط؛ فقد توفرت لبلاده ثروة كافية، حاول بقدر الإمكان أن تصل ثمارها إلى أفراد شعبه، من خلال إحداث نهضة تنموية شاملة في جميع المجالات.
لقد استطاع "شافيز" أن يقدم لنا النموذج في الحرية، والشجاعة في مناصرة الحق، وبالرغم من أن بلاده ترتبط بعلاقات إستراتيجية بالولايات المتحدة، وتقع بشكل مباشر في منطقة نفوذها، إلا أنه وفى نفس الوقت لم يمنحها الحق في إنشاء أي قواعد عسكرية، ولم يدخل معها في استثمارات مشبوهة أو صفقات أسلحة غير مجدية، وكذلك فهو لم ينقذ اقتصادها بشراء سنداتها، هو يعتبر أن فنزويلا بلد حر، وأنها تستطيع انتزاع حقوقها انتزاعًا، ليس بالقوة بل باليقين، كما يعتبر أن الإرادة الشعبية هي الضوء الأحمر الذي يزعج ويقلق ويردع الولايات المتحدة، ويحمى حقوق وسيادة أي بلد، ولذلك فلا يوجد ما يدعو للعجب عندما يقرر هو شخصيًا أن يقود حملة (شريان حياة) جديدة، لرفع الحصار عن غزة، غير عابئ بأي انتقادات أو مصاعب قد يواجهها.
ولكن كيف استطاع "شافيز" أن يحدث هذا التغيير في الشعب، الذي التف حول قيادته في حب حقيقي؟ وكيف تمكن من نقل اقتصاد بلاده من مرحلة الضياع، إلى مرحلة النمو والازدهار؟ هذا ما سوف نجيب عليه في الأسبوع القادم إن شاء الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق