الاثنين، 25 يناير 2010

الدخول التركي على القضايا العربية المصيرية حدود وآفاق



مطاع صفدي

عودة الترك إلى مشرقهم العربي قد يكون واحداً من أهم منعطفات النهضة في مطلع الألفية الثالثة لكلا الأمتين الصانعتين للحضور العربي الإسلامي، حوالي عشرة قرون، على المستويين الحضاري الذاتي لكليهما، ومستوى تفاعل المدنيات الإنسانية المعروفة بمؤثراتها الكونية الاستراتيجة حتى اليوم.

السؤال المركزي هو حول الحقيقة في هذه العودة الموصوفة بالفجائية في سياق سياسة دولية وإقليمية بالغة التعقيد والحساسية كحالها دائماً. فلسنا لنطرح التساؤل من وجهة التحليل السياسي اليومي. إنه الاستفهام الفلسفي الباحث عن الحقيقة، كما هو تقليده الكوني إزاء مسرحة الحدث، بطريقة المفاهيم المختفية وراء الوقائع، والصانعة لها أحياناً. فالتحول التركي لا يمكنه الاندراج والانحباس في سياق الضرورات السياسية ومناوراتها. ذلك أنه ليس ثمة براغماتية آمرة بالتغيير الأيديولوجي الكبير الذي ينطوي عليه حراك حكومي لا سابقة له في تاريخ (تركيا الحديثة). هذه الدولة الجديدة كلياً التي قام تأسُيسها الأول انطلاقاً من تجذير قطيعة بنيوية شاملة مع تاريخها السابق، بدءاً من إلغاء صورة معينة وثابتة عن شخصيتها المفهومية طيلة تواجدها الألفي في سياق من التداخل العضوي، مع كل ما كانت تعنيه الحضارة العربية الإسلامية.

القطيعة الأتاتوركية مع العرب لم تكن قراراً سياسياً، ولا حتى أيديولوجياً فحسب، كانت شرطاً تكوينياً محورياً لقيام الأمة التركية الخالصة المتصوّرة بحسب نزعة قوموية استوردها حزب (الاتحاد والترقي) منذ أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر، من عصر القوميات الإمبراطورية الصاعدة في أوروبا الغربية. بينما كانت الإمبراطورية العثمانية تعاني مرحلة أفولها في مختلف نواحيها كدولة قروسطية، ومجتمع خليط من قوميات أخرى متنافرة وساعية إلى استقلالها عن السلطنة. كانت حركة التتريك التي قادها الضباط الشباب من قادة ذلك الحزب، تأتي من جهةٍ، كعامل تحريض لشعوب السلطنة، وكرد فعل في آن على تحركاتها الاستقلالية، وفي سياق هذا التفكك المتنامي في جسد الرجل المريض، وهو اللقب الأوروبي لحال تخلف السلطنة آنذاك، كان العرب، وهم القومية الثانية المشاركة للأتراك في بناء الإمبراطورية العثمانية، يعيشون عصر نهضتهم القومية من مدخلها الثقافي والأيديولوجي، ما جعل القادة النهضويين العرب يعتبرون أن حركة التتريك موجهة أساساً ضد الشريك العربي.

كان غلوُّ الاتحاديين بالغاً أوج الإثارة العنصرية في هيكلة الدولة السلطانية، لدرجة حتى أنهم حمَّلوا العنصر العربي مسؤولية التخلف المتفشي في أنحاء كيانهم الإمبراطوري. فحين قامت الثورة العربية الأولى الصاعدة من أرض الحجاز مع بوادر انهزام اسطنبول عسكرياً خلال الحرب العالمية الأولى، لم تكن في نية القيادات العربية آنذاك تدمير الإمبراطورية، لكنهم شعروا أن جماعة الاتحاديين المحيطين بالسلطنة آنذاك، قد فصموا شراكة الأمتين العربية والتركية في بناء الإمبراطورية. كانت نزعة التتريك تهدف إلى قلب الكيان المفهومي المؤسسي للدولة المعولمة طيلة القرون الأربعة السابقة. فالعنصر العربي كان شريكاً أصيلاً في صناعة السلطنة وتاريخها، كان تواجده البشري أساسياً في مختلف مستويات الدولة إدارياً وعسكرياً وثقافياً. كانت الإمبراطورية تمثل في عيون شعوبها المتعددة، المنضوية تحت لوائها، الحلقة الأخيرة من مسيرة الفتوحات الإسلامية. هكذا كانت هذه الشعوب، الاسلامية منها، تسوّغُ تنازلها عن هوياتها العنصرية، بانضوائها تحت قبة الخلاقة الإسلامية، والعرب كان لهم الدور المحوري في شرعنة الخلامة وذلك ليس كأمر واقع فحسب، بل كخيار ضروري، يصبُّ في صميم مشروع العولمة الإسلامية، الذي أبدعوه وخرجوا به من صحرائهم إلى مدنيات العالم القديم المتخلفة، أملاً في صناعة كونية جديدة من العدالة والمساواة أمام الحق.

المهم في هذا الموضوع هو أن إيديولوجيا الكمالية لم تعد وحدها المسيطرة على عقول الأتراك المعاصرين اليوم، سواء على مستوى النخب السياسية والثقافية، أو على مستوى الجمهور الواسع. والعودة إلى الإسلام قد تكون حراكاً استبدالياً لكمالية استنفذت أهدافها، وكان لها نجاحها التاريخي في إنهاض تركيا، جمهوريةً حداثيةً، على أنقاض خلافة تيوقراطية متهالكة إلى سلطنة قروسطية زائلة بسبب أعطالها البنيوية ذاتياً، قبل أن تطيح بها هزيمة الحرب العالمية الأولى التي أجهزت عليها. لكنها أخذت معها كذلك، النسخة الأخيرة عن نموذج الحكم (الأممي) الديني، أو الخلافة الإسلامية للعصور القديمة.

هذه الخلفية التاريخية لا يمكن للذاكرة العربية أن تتجاهلها، بل تفرض نفسها في هذه اللحظة من الانعطافة التركية الأهم في قصة الانتماء المشترك الفعال لكلا الأمتين العربية والتركية في الأقنوم المفهومي والحدثي للحضارة الإسلامية. فمن الصعب أن ينتظر أحد من طرفي هذه الشراكة إلى الانعطافة من زاوية كونها مجرد استجابة لمصالح سياسوية اقتصادوية فحسب. ذلك أن رفيقيْ الدرب الواحد الطويل افتقدا هذه الرفقة، خلال معظم القرن العشرين، وها هما يلتقيان فجأة ومجدداً على ذات الدرب الواحد؛ كأنه لم يفرقهما إلا ليجمعهما ثانية. لكن لن يتعارفا ثانية بحسب المنظار الماضي البعيد، بقدر ما يقرَّان بحجم الاختلافات المكتسبة والطارئة بالنسبة لكل منهما، طيلة الغيبة المديدة عن بعضهما. هذا مع التيقن انه ليس هناك ثمة خلافة دينية عظمى، ولا إمبراطورية عسكرية معولمة، ينتظرها أحدهما من عودتهما إلى بعضهما.

لكنهما معاً يعانيان من لحظة ازدحام زمن العالم بمقاربات الأفول والظهور لإمبراطوريات هرمة متداعية وأخرى شابة صاعدة، في حين تبقى ، وحدَها قارة العرب والإسلام، مبعثرة الأركان والهويات، فاقدة في معظمها، لحس العصر، ولوقتها أو لمكانها من خارطته الغاصّة بكل الآخرين وإنتاجاتهم، ماعدا الذات وخوائها المستديم.

تركيا المحكومة سابقاً بنظام العسكريتاريا الانقلابي، كانت أسيرة لبوصلة التوجه الكلي إلى شمالها الأوروبي. كانت ترى في الالتحاق الذيلي بمولود أوروبا الكبير، باتحادها، المستقبل الضامن لحداثتها، ولاغترابها الكياني والنهائي عن هويتها التراثية. وكان اغتراباً مفروضاً بسلطة الدستور المتشبث بعلمانية مغلوطة، ليست في حقيقتها سوى قناع ثقافوي لقوموية العسكريتاريا القابضة على قمة السلطة والممسكة بمفاتيحها النفعية سياسياً اقتصادياً معاً. فهي المستفيدة من تركة الإنجاز الأتاتوركي، بما حققه بدءاً من إنقاذ تركيا من مصيرها المقرر غربياً، في تقسيمها وتوزيعها استعمارياً، على أثر الهزيمة الحربية؛ كما كان هو مصير بقية المشرق العربي. فقد فاز جيش كمال أتاتورك، المتبقي عن جيوش الإمبراطورية العثمانية المنهارة، بجغرافية الأناضول وساحليه الشمالي والغربي، كوطن لأمة تركية جديدة، خالصة عرقياً، حسب تصور مؤسسها، وإن شاركتها في هذا الوطن شعوب أخرى عديدة، ومتجذرة في ترابها منذ ما قبل قدوم قبائل الجد المغولي القديم (أرطغرل) للأتراك من أقاصي آسيا.

تركيا (أردوغان) ليست نقيضة تركيا أتاتورك. لكنها قد تأتي تصحيحاً لعلمانيتها المبدئية، فلا تتدخل الدولة سلباً أو إيجاباً في خيارات العقائد لدى مكونات مجتعها، بشرط ألاّ تنسحب حيادية السلطة هذه، على خيارات استراتيجيتها، وذلك انطلاقاً من كونها مرآة عاكسة لشخصية أمتها في ماضيها وحاضرها. ولعل ذلك هو الدليل الأيديولوجي الذي صار يقود السياسة الخارجية لتركيا راهنياً، نحو الانفتاحات المتتابعة على قضية العرب الرئيسية، فلسطين. فالحزب (الإسلامي) الحاكم في أنقرة يريد أن يبرهن على أن العلمانية لا تتناقض مع هوية الأمة. وبالتالي لا يمكن للسلطة الحاكمة أن تقف مكتوفة الأيدي إلى الأبد تجاه تعاطف شعبها مع مآسي الشعب الفلسطيني، واتخاذ المواقف الإنسانية، على الأقل، المنتظرة، مع المظلوم ضد الظالم المتجبر الذي هو العدوان الإسرائيلي المستمر والمتصاعد ضد أبسط متطلبات الأمن الفلسطيني وتطلعاته نحو كيانه الحر المستقل.

بالمقابل يستنتج الفكر الاستراتيجي التركي أن المشروع الإسرائيلي ليس له حدود يقف عندها في مساحة المشرق العربي وجواره الإسلامي معاً. فلماذا لا تقوم لهذا المشرق ثمة سياسة متضامنة عربياً إسلامياً ضد المطامع الإسرائيلية المتمادية.

تلك هي بعض بدهيات الواقع الجيوسياسي لمنطقة الشرق الأوسط بمعناه الأوسع، وكما يجب أن تفهمه شعوبه أولاً، وليس كما تفرضه إرادة أمريكا من ما وراء البحار، أو كما تحلم به إسرائيل الدخيلة على المنطقة، مهما طالت رحلة السرقة الدموية الوقحة لبعض أوطان الآخرين، ولبعض الوعي الدولي المسلوب الإرادة وقوة الحسم معاً.

لا شك أن هذا الدخول التركي العقلاني والحاسم على قضايا منطقته العربية، من محورها المركزي الفلسطيني، سوف يُغير تدريجياً وفي العمق، من قواعد اللعبة الأمريكية الصهيونية المستبدة حتى اليوم بالمنطقة كلياً، والممسكة بتوازناتها الجيوسياسية الراكدة لصالحها، مع ملاحظة أن توقيت هذه اليقظة التركية، والانفتاح المتنامي على قارتها العربية والإسلامية من حولها، وبدءاً من جوارها المشرقي المباشر، ومن الموقع المحوري لسورية بالذات، إنما يجيء في اللحظة التطورية المناسبة لبروز الممانعة العربية، عبر جولات متتابعة من إحباط الارتدادات الأمبريالية الصهيونية على المواقع الصامدة في أنحاء المنطقة.

العرب يتطلعون حقاً إلى ما تعنيه إضافة الحراك التركي إلى مجموع قواههم المشتتة، على أن يكون هذا الحراك نفسه جديراً بالآمال المعقودة على تطوراته الكبيرة المنتظرة. و في كل الأحوال لن يكون مستقبل المنطقة بعد هذا الحراك كما كان كلُّ ماضي المشرق المعذب قبله. فليس التفاؤل المفرط ليستبق الحقبة القادمة بما تحمله من فجائيات السلب والإيجاب، لكنها هي المتغيرات الموضوعية وحدها التي لها حسابها المجدي. لعلّ التحول التركي قد يجاري أمانيه العربية، مع العلم أنه لن يكون في منأى عن الترددات والنكسات. وقد يتوقف الأمر في أساسه على مدى تجذير التحول التركي في أرضه الذاتية، مع النظر إلى كونه خطاً نضالياً معيناً، سيظل سابحاً في خضم تناقضات الداخل التركي وصراعاته الظاهرة والخافية، والثانية هذه قد تكون هي الأدهى.. ربما!

' مفكر عربي مقيم في باريس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق