الثلاثاء، 16 فبراير 2010

عندما هدد جمال عبد الناصر ألمانيا



بقلم : د. فوزي الأسمر
لفتت إنتباهي عدة مقالات نشرتها صحيفة " هآرتص " الإسرائيلية , وجميعها متعلقة بصورة مباشرة مع أوضاع العالم العربي اليوم .
يتحدث إحداها ( هآرتص 14/2/2010 ) عن لقاء تم في شهر أذار/ مارس عام 1960 في فندق "ولدروف أستوريه " المشهور في مدينة نيويورك بين رئيس وزراء إسرائيل في حينه , دافيد بن غوريون, وبين مستشار ألمانيا الغربية في حينه كونرد أدنوارد . وقد إستغرق الإجتماع مدة ساعة ونصف الساعة . ولكن أحدا لم يعرف ماذا تم حقيقة في ذلك الإجتماع .
وبعد الإجتماع قال مستشار ألمانيا للصحفيين بأن التعاون بيننا وبين إسرائيل ودعمنا لها سيستمران في إعطاء نتائج مثمرة . أما بن غوريون فقد قال عند عودته إلى إسرائيل أن مستشار ألمانيا الغربية قد تعهد بأن تدفع بلاده مبلغ 500 مليون دولار بهدف " تطوير النقب " . إلا أن المتحدث الرسمي بإسم المستشار الألماني نفى ذلك .
وتستمر الصحيفة فتقول أنه في عام 1965 أعلن الرئيس جمال عبد الناصر بأنه :"إذا استمرت حكومة ألمانيا الغربية بتزويد إسرائيل بالسلاح , فإن مصر ستقطع علاقاتها الدبلوماسية مع بون " .
ولم تستطع إسرائيل ,حسب ما يقول كاتب المقال من إنكار ذلك بل :" تعجب قادتها كيف حصل ناصر على هذه المعلومات , بغض النظر عن الطريقة التي حصل عليها جمال عبد الناصر على هذه المعلومات . وأعلنت ألمانيا الغربية رسميا بأن إتفاق تزويد إسرائيل بالأسلحة الألمانية قد توقف تماما ".
ولم يكن في حينه بيد عبد الناصر سوى ورقة واحدة , وهي أنه إذا لم تتوقف ألمانيا الغربية عن تزويد إسرائيل بالسلاح , فإنه سيقطع العلاقات الدبلوماسية معها , ويعترف بألمانيا الشرقية , الشيء الذي قد يؤدى إلى قيام بعض الدول الأخرى بإتخاذ نفس الخطوة .
هذه القصة بغض النظر عن التفاصيل , تدفع الإنسان إلى التفكير في المصير العربي اليوم . إن في أيدي الدول العربية إمكانيات هائلة تستطيع من خلالها أن تضع الكثير من الضغط على أمريكا وأوروبا . ولكن الذي يحدث هو العكس . أمريكا و أوروبا تتحديان الدول العربية وتفرضا عليها مواقف لا تتماشى مع مصالحها, وفي نفس الوقت تجاهر بالتعاون مع إسرائيل , وتقوم بتزويدها بكل ما تطلبه من أسلحة حديثة ومساعدات مالية , وتفرض على الدول العربية شراء أسحلة ببلايين الدولارات كي تدعم الإقتصاد الأمريكي .
فالفرق بين موقف هذه الدول اليوم , وموقف مصر في حينه , أن جمال عبد الناصر كان مخلصا لمبادئه , وعنيدا في مواقفه , وجريئا في خطواته . من هنا جاءت مصداقيته و احترام العالم له , حتى الذين كانوا يحاربونه . واليوم ومنذ رحيله لا نزال نكرر : في الليلة الظلماء يفتقد البدر .
وفي مقال آخر ( هآرتص 14/2/2010 ) فموضوعه متعلق بلبنان وسورية. يقول الكاتب إن إسرائيل لم تستطع أن تقرر من ستكون الدولة الثانية التي ستعترف بإسرائيل , ولكن كان هناك شبه إجماع أنها ستكون لبنان . أما اليوم فإن لبنان في الموقع الأخير على هذه القائمة .
ويذهب الكاتب إلى أبعد من ذلك حيث يقول : " إن الحدود الجنوبية للبنان تشكل أكبر خطر جدي و دائم على إسرائيل اليوم . كما أن السلام مع سورية مشلول الآن إلى أن توافق سورية على تحيد الخطر الآتي علينا من لبنان . إن الإنسحاب من الجولان , تقول إسرائيل , سيكون ثمنه حزب الله . إذا كان الهدف في السابق التوقيع على إتفاقية سلام مع لبنان حتى نُحيد التهديد السوري , فإن الوضع اليوم بالعكس تماما " . يقول كاتب المقال .
ويضيف الكاتب أن الموقف من لبنان اليوم يكشف بشكل كبير موقف إسرائيل في المنطقة كلها :" لا يوجد بيد إسرائيل أية رافعة تستطيع من خلالها إجبار بيروت التوقيع على إتفاقية سلام , والأراضي اللبنانية التي تــســيطر عليها( إسرائيل ) غير كافية لوضع مثل هذا الضغط . بل إن إحتلالها ( أي للأراضي اللبنانية ) تعطي حزب الله سببا للإستمرار في التسلح , والتهديد بقصف أهداف في العمق الإسرائيلي " .
وهذا التحليل يؤكد مرة أخرى أن إسرائيل قد بدأت تفهم جيدا التغيير الإستراتيجي الذي طرأ على المنطقة في أعقاب حرب 2006 في لبنان , و2009 في غزة .
فهذا التحول لم يقتصر على لبنان وغزة , بل أخذ يتطور ليصبح أسلوبا إستراتيجيا تتبناه بعض الدول العربية المجاورة لإسرائيل , وبالتحديد سورية . وقد أشرت في مقالي السابق " تخبط قبل العاصفة " إلى هذه الحقيقة .
وهذا التحول يدرس ويناقش اليوم في مراكز الأبحاث الإستراتيجية الإسرائيلية . فقد نشرت صحيفة " هآرتص " ( 15/2/2010 ) مقالا أشار فيه كاتبه إلى تصريح وزير الخارجية السوري , وليد المعلم , الذي رد فيه على تصريحات وزير خارجية إسرائيل أفيغدور ليبرمان الإستفزازية , قال المعلم :"أنكم تعرفون جيدا أن الحرب في هذا الوقت ستصل إلى مدنكم أنتم " .
وعلق كاتب المقال على ذلك بقوله :"إن هذا القول يقوي من الحقيقة القائلة أن سورية في حربها القادمة ستتبنى وتمارس الأساليب الإرهابية لضرب مراكز التجمع السكاني في إسرائيل,وذلك بعد أن فشلت في الحروب التقليدية . كما يحاول ( المعلم ) الإشارة إلى نقطة الضعف الإسرائيلية وهي قصف المدن والعمق الإسرائيلي " .
وقد ناقش " مركز الأمن القومي " الإسرائيلي هذه الظاهرة في يوم دراسي وكيفية السبل التي تمكن الجيش الإسرائيلي الرد على مثل هذا التهديد . وناقش المشاركون وكلهم من الخبراء الإستراتيجيين العسكريين , كيف أن حزب الله والمقاومة الفلسطينية أثناء الغزو الإسرائيلي لغزة لم ينجرا إلى تبني وممارسة الحرب حسب القوانين العسكرية المتبعة( أي الحرب الكلاسيكية ) , ولهذا فإن الجيش الإسرائيلي يجب أن يتخلى في الحرب القادمة عن مثل هذه القاعدة.
هذه هي وجهة نظر من جانب واحد , ولكن هناك وجهة نظر من الجانب الآخر , والتي , على ما يبو , لم يناقشها المجتمعون .
أذن فإن أمام العرب اليوم موقفان : موقف ناصر ضد ألمانيا وبيده ورقة واحدة , في حين يوجد بأيدي القادة العرب اليوم عشرات الأوراق التي يستطيعون من خلالها , إذا كانت هناك إرادة للعمل الجدي,التأثير و فرض إرادتهم .
وأمامهم مثالا لما تهابه إسرائيل في حروبها المقبلة مع العرب , وهي قادمة لا محالة , وهي حرب الردع العربية بقصف العمق الإسرائيلي , إذا ما قامت إسرائيل بقصف الأعماق العربية , وفي الواقع ستقوم بذلك .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق