الخميس، 11 فبراير 2010

نحو بناء خطة استراتيجية للتغيير


د/ صلاح الدين دسوقي
 موضوع التخطيط الاستراتيچي يحتاج إلي مقدمات لا تتوافر في حالتنا.. فالاستراتيجية هي الطريق الرئيسي الأفضل للوصول إلى هدف أو مجموعة أهداف في الأجل الطويل . فهي لا تبني من أجل أن تبني.. إنما تبني لتحقيق أهداف ترتضيها جماعة بشرية محددة .. فإذا تحدثنا عن استراتيچية عربية فماذا نقصد بكلمة عربية؟ هل هناك كيان عربي ما يتبنى مهمة صياغة استراتيچية تتبناها الأمة في مواجهة أعدائها؟ سوف ننفي بداية أن جامعة الدول العربية تعني جماعة فهي إطار لا يمثل آلية لاتخاذ القرار أو وضع استراتيچية أو أهداف.. ناهيك عن أي مهام تتعلق بالأمة العربية كأمة. يبقي بعد ذلك النظام الرسمي العربي.. وهو نظام لا يعتنق مفهوم علمي أو تصور عقلاني ترسم علي أساسه استراتيچية صائبة تنحاز لمصلحة الأمة العربية. فقد تبنى النظام الرسمي العربي مقولة أن السلام اختيار استراتيچي.. بما يعبر عن استراتيجية في مواجهة "العدو" الصهيوني وبما أسموه أجندة السلام. هذا هو الأمر الذي أجمع عليه النظام الرسمي. فلماذا اختاروا السلام كخيار استراتيجي؟ هل لتحقيق التقدم والازدهار للأمة؟ أو ليسمح لها بأن يكون لها مكان تحت الشمس وأن تستطيع المنافسة في عالم سريع التطور. إنما اتخذ النظام الرسمي هذه الاستراتيچية في تصور خاطئ بأنها أنسب استراتيجية لمواجهة "إسرائيل". وفي حقيقة الأمر فإنه إعلان عن عجز واستسلام هذا النظام وانصياعه للإرادة الأمريكية التي تتبنى استراتيجية واضحة تتمثل في تحقيق أمن الكيان الصهيوني وضمان تفوقه الشامل في مواجهة الأقطار العربية مجتمعة .
الاستراتيچية غير المعلنة للنظام الرسمي العربي هي استراتيجية الاستقرار في مقاعد الحكم.. نجد أن أي تنسيق عربي مشترك حقيقي هو تنسيق أمني يجمع وزراء الداخلية لخدمة هذا الغرض، ولنأخذ مشهد غزة الأخير وكيف أن النظام الرسمي بأجهزته الأمنية ساعد علي بل وتورط بشكل سافر في تكريس الحصار حول غزة وبناء الجدران الفولاذية والأسمنتية حولها لإحكام حصارها وتركيع أهلها. الاستراتيچية الثالثة التي تبدو واضحة يجاهر بها بعض من الحكام العرب ولا يصرح بها بعضهم الآخر هي الانحياز للغرب وأن أوراق اللعبة في يد أمريكا وأننا دول لا تملك القدرة علي المواجهة بل وتحتاج إلى الحماية الأمريكية .. وعليه فإننا لا نملك غير أن نسير في إطار التوجهات الأمريكية سواء بالنسبة للعراق أو أفغانستان أو فلسطين أو الصومال. يظهر ذلك بوضوح إذا حاولنا أن نجد استراتيچية للنظام الرسمي العربي.. إنما إذا تحدثنا عن استراتيجية لذلك النظام تبحث عن تقدم الأمة العربية فإننا بالقطع لن نجد شيئاً؛ لأنه غير معني بهذه القضية ولا تمثل أهداف غائية له.
هذا في حين أن ثورة يوليو حددت استراتيجيتها منذ اللحظة الأولي.. حينما نادت بأننا أمة عربية واحدة ونريد العدل الاجتماعي والاشتراكية وتوحيد هذه الأمة.. وبالفعل اجتمعت الأمة العربية كلها وراء جمال عبد الناصر وتوحدت كلمة الشعوب العربية.. لأن عبد الناصر وضع أسس البحث عن استراتيجية قومية عربية تعمل لنهضة عربية شاملة تحقق للإنسان كرامته وللوطن حريته.. فاستطاع من خلال استراتيجيته تلك أن يجمع الشعوب العربية علي كلمة واحدة. الآن وبعد مرور أربعون عامًا علي رحيله وعلى بداية عهد الردة والانقضاض على مشروعه النهضوي ، فإن الجماعة العربية بدأت تتفكك كما تتفكك أيضًا القيم الإيجابية التي سبق وزرعها في الأمة.. فشعار مصر أولا ولبنان أولاً والأردن أولا .. الخ إنما يمثل إعلاء لقيمة الوطنية في مواجهة القومية، وكأنما هناك صراع ما بين القومية والوطنية.. وهنا تبدأ عملية تفكيك الهوية العربية وإجهاض عملية التحرر العربي.
وهنا يطرح السؤال.. ما هو حصاد مسيرة الردة والاستسلام ؟ أين أصبحنا من هؤلاء الذين تقدموا؟ ألم يصبح أمامنا غير أن نأخذ بما يقدمونه إلينا ؟. وإذا أردنا اللحاق بل مجرد الاقتراب بالغرب في مجال التصنيع مثلا.. فما هي المقومات الموجودة لدينا حتى نصل إلي مستوي تكنولوجي مناسب؟ فالنظام الاقتصادي العربي يقوم الآن على حالة من التبعية الكاملة للغرب في إطار رأسمالي يعلي قيمة آلية السوق.. يعتمد علي المنافسة دون أن تتوفر لدية القدرة التنافسية في أدنى درجاتها.. يفتح الأسواق.. يتبنى حرية التجارة.. يوقع ويصدق علي اتفاقية الجات.. ويدخل في منظمة التجارة العالمية، ويفتح الأبواب للمنتجات من كل حدب وصوب .. ولتذهب عملية التصنيع إلي الجحيم. لقد تم تزييف الوعي الاقتصادي العربي ليتبنى مبادئ التخصص وتقسيم العمل في العلاقات الدولية وهي التي أتضح بشكل قاطع أنها ضد أي عملية تنمية في الدول الأقل حظًا من التقدم والنمو.. وأنها في مصلحة الدول المتقدمة فحسب.
كما استهدفت مسيرة الردة والاستسلام تفتيت القيم العربية الايجابية التي أرساها المشروع النهضوي العربي سواء منها ما يتعلق بالتحرر من الاستعمار قديمه وحديثه ، أو منها ما يتعلق بالوحدة العربية كهدف استراتيجي.. أو منها ما يتعلق بالاشتراكية والعدالة الاجتماعية.
في مواجهة كل ذلك فإنه يلزم بناء استراتيجية شعبية عربية.. وتلك الاستراتيچية الشعبية يمكن أن تبني بالتأكيد، ولكن لابد تتوفر مقومات وشروط لها.. أول هذه المقومات والشروط أن تكون هناك طليعة واعية قادرة علي بلورة أهداف هذه الأمة.. وقادرة علي أن تتبنى مشروع للتغيير ينهض بهذه الأمة ويسمح لها بأن تحقق النصر الحاسم على أعدائها . وثاني المقومات أن هذه الطليعة المتقدمة، لابد وأن تكون طليعة عربية قومية وليست مجرد طليعة قطرية.. أما ثالث المقومات فهو أن تتمتع هذه الطليعة بمنهاج ثوري يعتمد استراتيجية للتغيير.
ولصنع استراتيجية التغيير.. يبقي أن تدرك هذه الطليعة أن عملية بناء الاستراتيچية هي عملية طويلة المدي، تبدأ بتوفير الأساس المناسب الذي تبني الاستراتيچية عليه. هنا يلزم توفير عدد من الإجابات :
رقم (1) إجابة علي من نحن؟ هل تمت على الإجابة هذا السؤال ؟.. أم أننا مجموع من العرب المصريون والعراقيون والسوريون والجزائريون ....الخ؟. أم أننا عرب من الشام والجزيرة العربية والمغرب العربي ووادي النيل... الخ من كافة أرجاء الوطن من المحيط إلى الخليج؟ هل يوجد فارق بين الإجابتين أم أنها سفسطة لغوية لا غير ؟ لابد أن توجد إجابة واضحة ونهائية علي السؤال..؟
إلي أين نسير.. هل نسير منحازون إلي هذه الأمة.. أم نسير منحازون إلي الصفوة.. أيا كانت هذه الصفوة.. صفوة حاكمة.. صفوة اقتصادية.. صفوة قبلية أو عشائرية.. صفوة مذهبية .. أيا كان.. ما هو الانحياز الحقيقي؟ كيف نترجم هذا الانحياز إلى أهداف تسعي الأمة إلى تحقيقها ؟ هل تكفينا أهداف الحرية والاشتراكية والوحدة مشقة الاختلاف ، أم أنها تمثل أحد أركان مشروعنا النهضوي العربي ؟
رقم (3) ما هو الطريق الرئيسي الأنسب لتحقيق هذه الأهداف ؟ وبمعنى آخر ما هي استراتيچيتنا لبلوغ هذه الأهداف ؟ ..
دعونا نركز هنا على دروس النضال العربي والتي صاغت استراتيجية تتمثل في المقاومة والوحدة .. فالمقاومة والوحدة معًا يعطيانا بعداً أكثر اتساعًا.. والمقاومة هنا ليست هي فقط المقاومة المسلحة والتي في العراق في مواجهة الغزوة الأمريكية .. وفي لبنان حزب الله والمقاومة الوطنية .. وفي فلسطين فصائل المقاومة .. وفي أي بقعة عربية أخرى حمل السلاح فيها في مواجهة الاستعمار والصهيونية . المقاومة مفهومها أوسع من هذا بكثير ، يمتد ليشمل المقاومة النفسية التي تعمل علي مواجهة محاولات التفكيك لنظام القيم. هذه الاستراتيجية تمتد إذن على كافة الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية .
إننا مقبلون حاليا علي عالم يختلف عن العالم الذي عاصرناه في نصف القرن الماضي.نعيش متغيرات استراتيجية عديدة تحتاج إلى التأمل والوقوف عليها حتى نستبين قدرة استراتيجية المقاومة والوحدة على التعامل الفعال معها .
المتغير الأول هو تلك الأزمة المالية العالمية الأخيرة التي قدمت عدد من الإشارات الهامة. لقد كان هناك من يقول: إن الاشتراكية فشلت ورحلت . ونجد الرأسماليون يعيدون اليوم النظر في النظام الرأسمالي. كان هناك من يقول : إن التأميم والتخطيط المركزي والقطاع العام والتصنيع والاكتفاء الذاتي والتنمية المستقلة وغيرها من سياسات الحقبة الناصرية قد انتهت وأصبح لا جدوى منها.. نقول لهم أنظروا اليوم كيف تتدخل معاقل النظام الرأسمالي أمريكا وفرنسا وإنجلترا في الاقتصاد . أنظروا إلى ما يقومون به من عمليات التأميم وتقييد الواردات وتقديم الدعم وغير ذلك من آليات تعاكس آليات السوق. علينا أن ندرس هذه الظاهرة ونتوقع في إطار هذه المتغيرات الاقتصادية بزوغًا لتعددية دولية مرة أخري.. هناك بزوغ للصين وللهند.. هناك تطور.. هذا الانفراد في السيطرة علي مقدرات العالم لن يستمر أكثر مما استمر. تهدد الأزمة المالية أول ما تهدد الانفراد الحالي في القطبية الدولية.. وتعجل في ظهور ثنائية أو ثلاثية دولية قادمة، ولابد أن نكون مستعدين لها. وليس هناك أهم من الوحدة استعداداً لهذا التطور . وحدة عربية .. تكامل اقتصادي عربي.. سوق عربية مشتركة .. وحدة المقاطعة الاقتصادية والثقافية للاستعمار والكيان الصهيوني ..
المتغير الثاني علي المستوي الإقليمي هو بزوغ دور إيران وتركيا.. في نفس الوقت نري انسحاب العرب من التأثير حتى علي مقدرات أنفسهم.. وهذا يخلق حالة من الفراغ لها تأثير في شكل المنطقة في الفترة القصيرة القادمة.. ولكن مازال لدينا عوامل قوة وهي كامنة داخل ضمير الشعب العربي. هناك نزعة قومية راسخة ومتأصلة داخل الضمير العربي . أنها مسألة لم يخترعها أحد.. فالعروبة موجودة لدي ناس بسطاء جدًا لا يستخدمون مصطلح "القومية العربية" . العروبة هوية تميز جماعة بشرية موجودة بالفعل . لهذا لابد أن نستند علي نقطة القوة هذه لتفعيل استراتيجية الوحدة الشعبية ولملأ الفراغ الذي تركه النظام الرسمي العربي ولمقاومة محاولات الامتداد من الجوار الجغرافي غير العربي .
أما المتغير الثالث فإنه يتمثل في شكل الحياة السياسية في الوطن العربي والتي تتسم بتعددية ديكورية وبتحول عدد من النظم العربية إلى النظام الجمهوملكي بالتوريث أو التمديد. حقيقةً أنه مازال هناك نخبة سياسية عربية تتوزع ما بين تيار قومي وتيار ماركسي وتيار ليبرالي وتيارات دينية وتيارات أخري متعددة. وإذا كان ذلك يسهل عمومًا مهمة الفرز علي مهام مثل مهمة المقاومة بمفهومها الأوسع.. وإذا استدعى ذلك استراتيجية الوحدة من خلال إقامة تحالفات وائتلافات وجبهات على الأصعدة القطرية والقومية ، إلا أن ذلك كله يجب أن يتجنب مخاطر المظهرية والشكلية التي قد تفرغ مفهوم المقاومة والوحدة من فحواه . لسنا في حاجة إلي لافتات جديدة ترفع لكي نفرغ هذا النزوع لبناء مشروع جديد في قوالب فارغة المضمون. أننا نشهد في هذه المرحلة كثير من هذه القوالب وهذه المسميات التي تُطرح كل يوم، ولكنها لا تعبر عن قوي فاعلة داخل المجتمع. لذلك نجد هذه القوالب الفارغة تتفكك بعد فترة قصيرة ولا يصبح لها تأثير علي عملية نهضوية حقيقية.
خلاصة القول أننا نحتاج لمشروع نهضوي طويل الأجل.. نحتاج إلي منهجية تحدد، إلي أين نحن ذاهبون.. ما هي أهدافنا.. وما هي عوامل القوة والضعف الموجودة فينا.. وما هي التحديات وما هي الفرص المتاحة أمامنا.. وبالتالي نعرف ماذا يمكننا أن نفعل في إطار استراتيچية واسعة نعتبر أنها استراتيچية المقاومة والوحدة مؤقتًا. نعم لأنها استراتيچية رد الفعل الذي لا نملك سواه الآن.. لكن في مشروع مستقبلي، لابد أن يكون لدينا استراتيچية تتجاوز أننا مجرد رد فعل لهجمة موجهة نحونا. نتطلع لرؤية مستقبلية طويلة المدى تترجم إلى أهداف أوسع بكثير لبناء مشروع حضاري متكامل وتأتي المقاومة والوحدة كأداة من أدواته وليست عنواناً للمشروع.
كانت تلك مقدمة لا غنى عنها لفتح حوار واسع يستهدف المشاركة في بناء خطة استراتيجية للتغيير تتضمن عدد من المحاور والإجابات على النحو التالي:

1. من نحن ؟ ودعونا هنا نتحدث عن التيار الناصري .
2. ما هي رؤيتنا طويلة المدى ؟ أو كيف نرى أنفسنا في المدى الطويل ؟
3. ما هي الرسالة التي نتبناها ؟ بمعنى: ماذا نريد أن نقدم للأمة ؟ كيف ؟ ولماذا ؟
4. ما هي الأهداف التي نسعى إلى تحقيقها خلال السنوات (العشر أو الخمس) القادمة لنحدث التغيير ؟
5. ما هي الفرص والتحديات على المستويات الدولية والإقليمية والقطرية التي قد تؤثر على سعينا هذا ؟
6. ما هي نقاط القوة والضعف التي يتسم بها التيار الناصري وتؤثر على سعينا هذا ؟
7. ما هو اختيارنا الاستراتيجي الأفضل ؟ أو ما هو السبيل/الأسلوب/الطريق الأنسب والأكثر فاعلية لتحقيق أهدافنا المحددة في ظل هذه الظروف الخارجية والداخلية والذاتية ؟
8. ما هي الخطط والبرامج والخطوات العملية التي يجب مباشرتها في الأجل القصير ؟ وكيف يمكن وضع خطة زمنية لذلك ؟
وتلك أيضاً دعوة لحوار واسع يستهدف بداية اعتماد المحاور أو الموضوعات أعلاه كمنهج للحوار ثم ننطلق للبناء محوراً وراء آخر حتى نستكمل هذه المهمة لوضع خطة استراتيجية للتغيير يشارك فيها كل من يرغب من أصحاب الفكر والاهتمام من الناصريين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق