الجمعة، 16 أكتوبر 2009

امين محمد حطيط

عميد ركن/ استراتيجي

بعد أن الغى مصطفى كمال أتاتورك الخلافة العثمانية عام 1924 واتجه بالجمهورية التي أنشأها في تركيا نحوالعلمانية المفرطة التي لا تفصل الدين عن الدولة فحسب بل تتخذ وضعاً حذراً من الدين والدعاة اليه، ثم نظم الجيش التركي وأوكل اليه وظيفتين: الأولى حراسة العلمانية الجديدة، والثانية الدفاع عن الجمهورية الوليدة، وقد نجح الجيش في مهامه خاصة بعد ان التحقت تركيا بالحلف الاطلسي عام 1952 وأبدى جيشها تماهياً مع القوات العسكرية لهذا الحلف، ونسج مع اسرائيل تحالفاً استراتيجياً عميقاً (لم يعترف به علانية ولكنه مارسه واقعياً) ثم خطط لتعاون عسكري بين البلدين راح يتعزز ويتطور من دون التفات الى حساسية ذلك مع الدول العربية. وقامت في تلك العلاقة التي فيها شيء من الالتباس هوة بين القرار الرسمي الذي تتخذه الحكومة العلمانية وبحمى الجيش، وبين الاتجاه الشعبي او العاطفة الشعبية ذات المنطلقات الاسلامية التي ظلت تختزن في الذاكرة مواقف سلاطين بني عثمان الرافضة منح اليهود حقاً في فلسطين على حساب أهلها الاصليين ذوي الاكثرية الاسلامية. وقد حاول الاسلاميون الاتراك في العقدين الاخيرين الوصول الى السلطة لكن استعجالهم وحماستهم المفرطة ومحدودية خبرتهم الدبلوماسية أفقدتهم الفرص ولم يستطيعوا ان يناوروا بما فيه الكفاية ليتاح لهم البقاء في السلطة في ظل جيش لا يحرس النظام فحسب بل يكاد يصنع الحكام في الحقيقة. لكن «الاسلامي» رجب الطيب اردوغان استفاد من الإخفاقات واتجه في عمله السياسي جامعاً الى الصلابة في المبدأ ليونة في الاسلوب، واستطاع ان يعبر حقل الألغام في بلد علماني وفقاً للدستور، وأن يتجذر رويداً رويداً من دون ان يضطر الى مواجهات، ولكنه لم يتهرب من اي مواجهة داخلية اذا فرضت عليه، بل يتصدى بعد ان يحشد للأمر متطلباته من القوة السياسية والقانونية فضلاً عن الشعبية.

وفي السنوات الثلاث الاخيرة، وبعد ان استقام الحكم «للإسلاميين» في نظام علماني، بدأ البحث عن الموقع الحقيقي لتركيا في منطقتها والعالم، وكان قاسياً على تركيا ذاك الرفض الأوروبي المتمادي لانضمامها الى الاتحاد الأوروبي، رفض قدمت له الذرائع المختلفة، وأفصح عنه بعض ممن يجرأون على قول الحقيقة من غير دبلوماسية: «لن يقبل الاتحاد الأوروبي في صفوفه دولة إسلامية» خاصة تركيا ذات الحجم والتاريخ المعروفين. فالتقطت تركيا الرسالة وبدأت تبحث عن دورها في المنطقة والعالم الذي تنسب له، شرق اوسط وإسلام... وهنا بدأ التحول الاستراتيجي التركي. الذي يحتاج لنجاحه لعناصر اساسية ثلاثة لا بد منها: اولها حسن الجوار مع المحيط، والثاني الاهتمام بالقضية المركزية في الشرق الاوسط، والثالث تجنب القطيعة او الجفاء مع اميركا وأوروبا خاصة في مرحلة الابتعاد التدريجي عن موقع التابع او على الاقل الحليف غير المتكافئ .

وفي الترجمة العملية طرحت مسألة تسوية العلاقات التركية السورية التي شهدت «مآسي مؤلمة» في بعض فصولها، وتلقفت سوريا الفرصة لأكثر من سبب، ويمكن ذكر اهمها بأن سوريا تقدم المسألة الفلسطينية والصراع مع المشروع الصهيوني على ما عداه، ونجح الفريقان بعد مسيرة لم تتعد بضع سنوات من قلب صفحة العداء والجفاء، وإبدالها بالنقيض وصولاً الى إلغاء التأشيرة بينهما وإنشاء المجلس الاستراتيجي المشترك المولج بنظم العلاقات بين البلدين. وبعد ذلك كان التحرك باتجاه الارمن لوقف مفاعيل التاريخ المأسوي معهم، والعمل للمستقبل وها هي تقطع الشوط النهائي في لمّ القضية الارمنية.

ومع تصفية العلاقات مع الجوار كان السلوك التركي حيال مسألة الصراع مع اسرائيل، فكانت فكرة التفاوض غير المباشر بين سوريا وإسرائيل بوساطة تركية، وتلقفتها سوريا لأن في الطرح زحزحة لتركيا عن موقع الحليف لإسرائيل الى موقع الوسيط وهو ما يفرض التوجه الى الوسط وفيه كسب للقضية العربية. وتابعت تركيا مسيرتها التى تجاوزت العرب في مواقفها نصرة للفلسطينيين، وكان الموقف التركي الشهير في «دافوس» في كانون الثاني الماضي حينما انسحب رئيس وزرائها رجب اردوغان من الجلسة احتجاجا على السلوك الاسرائيلي ومخاطباً بيريز بقوله «صوتك العالي يثبت أنك مذنب لأن الجيش الإسرائيلي يقتل الأطفال على شواطئ غزة»، انسحب لينتصر لأطفال غزة، في حين ان معظم العرب الحاضرين لم يحركوا ساكناً. واليوم تقرر تركيا ومن قبل اردوغان نفسه إلغاء مناورات عسكرية كانت ستشارك فيها اسرائيل، متذرعة بالمأساة الفلسطينية.

هل ستبتعد تركيا عن إسرائيل الى حد يغضب اسرائيل ويحملها على البدء بالتعاطي معها وفقاً للأسلوب الذي تعتمده ضد إيران؟ ثم هل سيكون تنافس بين ايران وتركيا في المنطقة ام تكامل في التعاطي مع المسألة الفلسطينية؟ وهل ستكون علاقات تركيا مع سوريا على حساب العلاقات السورية الايرانية؟ وهل ستتابع تركيا اندفاعتها؟ ثم هل سيخسر الحلف الاطلسي عضواً بأهمية تركيا، بعد ان سد باب الاتحاد الأوروبي بوجهها، وبالإجمال ماذا تريد تركيا؟.

مقابل هذه الأسئلة نرى، ان تركيا تتحرك اليوم للتعويض عن دور فقدته في المنطقة منذ حل الخلافة العثمانية، ولم تستطع ان تجد ما يناسبها في موقعها اللصيق بالغرب وباتت على قناعة ان اميركا لا تعطي من يعمل معها دوراً قيادياً، فالسياسة الاميركية تقوم على ذهنية الاستتباع حتى ولو كانت الدولة بحجم فرنسا او بريطانيا، ولكن تركيا في حركتها لن تصل الى مستوى القطيعة او الجفاء مع اميركا واسرائيل التي تحرص هي بدورها على تلك العلاقة الاستراتيجية خاصة بعد ان فقدت منذ ثلاثة عقود علاقتها بإيران. كما ان تركيا لن تكون بديلاً لإيران في الميدان السوري، فالعلاقة الممتازة بين سوريا وتركيا هي علاقة ضرورية لسوريا من اكثر من وجه، ولكنها غير كافية لسد الاحتياجات الاستراتيجية السورية لأكثر من سبب، وأعتقد ان تركيا تعلم ذلك ولن تحاول العمل بأسلوب الإزاحة، لتبعد ايران وتحتل مكانها، خاصة انها ترى ان الفضاء السوري يتسع لحليفين استراتيجيين ويمكن تلمس طريق تكاملهما في هذا الفضاء وإن كان تنافسهما في الفضاء الاوسع امراً لا يمكن استبعاده رغم ان إنشائهما لمثلث استراتيجي متكامل مع سوريا يكون لمصلحة الجميع.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق