الأربعاء، 4 نوفمبر 2009

عن الفجوة الطبقية في عمان

د. خالد سليمان*

قبل ايام عرضت قناة "الجزيرة" برنامجاً يبرز الفجوة الطبقية الهائلة التي باتت تفصل الجانب الغربي من العاصمة عمّان عن شقها الشرقي.

كثير من الناس ساءهم ذلك، وأنا منهم إذا أردتم الحق؛ إذ لا يملك المرء إلا أن يشعر بالقهر والغصة وهو يرى مدينة عربية يحبها تنهشها العيون وتطالها الألسنة بسهام النقد والاتهام والتجريح، غير أن ذلك لا يعني أن تأخذنا العزة بالإثم ونرفض الاعتراف بصحة ما جاء في ذلك البرنامج، الذي لم يفعل ـ والحق يقال ـ أكثر من تسليط العدسات على واقع مؤسف نحاول إنكاره والتستر عليه.

بكل أسف، أزعم أن عمان غدت واحدة من أكثر مدائن العرب طبقية وتشوهاً، فبعض الناس في جزئها الغربي، يتصرفون كما لو كانوا يعيشون في سويسرا، ويختالون على الناس كما لو كانوا يتحدرون من أصول أرستقراطية ترجع إلى لويس الرابع عشر أو إلى الملك جيمس! وقد نسوا تماماً، بل تناسوا، أنهم ليسوا في معظمهم إلا أبناء حراثين أو أبناء مخيمات أو أبناء جنود فقراء، يقطنون في بلد صغيرة وفقيرة، ما تزال جزءاً لا يتجزأ مما يسمى العالم الثالث المتخلف!

أنا بالمناسبة ـ وأقول هذا قطعاً للطريق على محترفي المزاودة ـ ابن رجل عسكري، وأعتز بأن والدي قضى ثلث عمره في خدمة الجيش بشرف، وإن كان لم يجن من ذلك إلا راتباً تقاعدياً هزيلاً، لا يكاد يكفي ثمناً لشراء الطعام المستورد الذي قد يخصص لكلب من كلاب أحد الفاسدين الذين اغتنوا على حساب الوطن وأهله!

شاءت لي الأقدار أن أعيش حيناً من الدهر في كندا، إحدى أغنى دول العالم، التي أخشى أننا سنحتاج إلى مليار سنة في ديار العرب حتى نصل إلى بعض ما حققته من تقدم وتحضر واهتمام حقيقي بحقوق الإنسان.

أقسم أنني لم أشهد فيها ولو قدراً يسيراً مما أشهده في بعض أحياء عمان الغربية الغريبة من تظاهر صفيق ومقزز، ومن مظاهر سقيمة تعكس هوة طبقية شاسعة تكاد تعصى نهائياً على الرتق!

فالناس هناك، حتى الأغنياء منهم، الذين درجنا جهلاً وتعسفاً على اتهامهم بالمادية والبرود والتكالب على الدنيا، يتعاملون مع الآخرين بتواضع وإنسانية وحميمية أكاد أجزم باستحالة إيجادها عند معظم الأغنياء في بلدنا الفقير! الذين لا أذيع سراً إذا ذكّرتكم بأن كثيراً منهم ليسو إلا من محدثي النعمة الذين أثروا بطرق مشبوهة، قد تفضي عملية تتبعها إلى زجهم في غياهب السجن ألف سنة على الأقل، هؤلاء الذين نراهم يخطرون بعرباتهم الفاخرة التي تدوس قلوب الفقراء قبل أن تدوس الإسفلت، بوجوه معتمة تنضح بسيماء الفساد، تجعلك تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم!

هناك، لا يجد الناس على اختلاف مستوياتهم حرجاً في المشي على أقدامهم، أو حتى في استعمال حافلات النقل العام.

أما عندنا، فكأن الأغنياء قد نذروا للرحمن صوماً بألا تطأ أقدامهم تراب الأرض، وكأن الصعود في عربات النقل العام مجلبة لعار ما بعده عار، حتى بتنا لا نكاد نرى أحداً يتمشى في شوارع عمان الفارهة إلا بعض عمال البناء البائسين والشغالات الآسيويات اللواتي يقمن بتنزيه الكلاب!

وهناك، تتقارب إلى حد مدهش مرتبات ومداخيل الجميع، فراتب الوزير لا يفوق كثيراً راتب الخفير، والإثنان يعيشان بشرف وكرامة، وقبل ذلك والأهم منه، الإثنان يعملان بشرف وكرامة! فهما يثقان بأن القانون والمجتمع يقفان بالمرصاد بصرامة وتأهب للضرب بيد من حديد على يد كل من تسول له نفسه الانجراف إلى الفساد واستغلال مركزه للإثراء غير المشروع على ظهور الناس.

أما في ديارنا العامرة، فرواتب الأغلبية الساحقة من المواطنين تجعلهم من المحكوم عليهم بالعيش المؤبد في ظروف حياتية مهينة، وهو ما قد يدفعهم إلى الفساد والإفساد، بينما تصل رواتب كبار الموظفين والمستشارين إلى مبالغ فلكية، علماً بأن الكوارث الاقتصادية التي تعاني منها البلاد لم تتراكم إلا بفعل فساد كثير من هؤلاء، أو سوء إدارتهم على أقل تقدير، وكأننا نكافئهم على ما أوصلونا إليه من سوء الحال والمآل!

وهناك أيضاً، لا تسمع الناس يتشدقون بلغة غير لغتهم، ولا تراهم يفخرون بغير رموزهم الوطنية وما تبدعه أيديهم.

أما عندنا، فتجد وضعاء النفوس من مستجدي الغنى الذين نسوا أصولهم يلوون ألسنتهم بمناسبة ودون مناسبة بكلمات غربية تظهر تشظي هويتهم وشعورهم بالنقص والانسحاق أمام كل ما هو غربي، كما تجدهم يتيهون فخراً وتباهياً بمنتجات غربية يغيظون بها الفقراء، ربما لا يعرفون في كثير من الحالات كيف يتعاملون معها!

لكم تبدو عبارة "محمد عبده" التي أطلقها قبل عقود طويلة صادقة ومعبرة اليوم، عندما أبدى تحسره لأنه وجد في مدائن الغرب الإسلام، وإن لم يجد مسلمين، وذلك لأمانة القوم هناك وحرصهم على قيم العدالة والإنصاف، بينما لم يجد في مدن الشرق إلا مسلمين لا يكادون يعرفون من الإسلام إلا اسمه وطقوسه التي يؤدونها بصورة شكلية تخلو من الروح!

قبل أعوام قليلة، كانت عمّان بفضل الجهود الحثيثة والجبارة لكبار اللصوص والجشعين فيها، قد صنفت رسمياً كأغلى مدينة عربية، دون أن نجد مبرراً موضوعياً واحداً يسوغ ذلك!

ومن ثم فإن علينا ألا نغضـب أبداً عندما تقرع إحدى الجهات ـ حتى وإن كانت قناة "الجزيرة" ـ ناقوس الخطر، لتحذرنا من خطورة ما يحدث، ولتنبهنا بأن علينا أن نوجه أصابع الاتهام إلى كثير من الطفيليين الذين يمتصون دماء الناس، وأن نسألهم بعلو الصوت: من أين لكم هذا!؟ وإن كنا نعرف تماماً بأن ما عندهم قد تمت سرقته من جيوب بسطاء الناس بألف طريقة وطريقة!

أن يصل سعر متر الأرض في بلد لا تتجاوز المرتبات الشهرية لنحو (90 %) من العاملين فيه الثلاثمائة دينار إلى ثلاثة آلاف دينار أو يزيد، وأن نجد في عمان من القصور الباذخة الفخامة ما قد لا نجده في واشنطن نفسها، أمر يبعث على القلق، بل على الفزع، إنسانياً وأخلاقياً واجتماعياً، فهو يعني، إذا ما ابتعدنا عن المراوغة والدبلوماسية وتوقفنا عن خداع أنفسنا، أن هناك قلة قليلة مرفهة يصعب تبرئة كثير من أعضائها من شبهات الفساد تعيش فوق السحاب، بينما تشقى الأغلبية الساحقة من الناس المقهورين بالعيش في جحور مظلمة تحت الأرض!

إن اتساع الفجوة الطبقية على نحو متسارع في كثير من مدائن وطننا العربي أمر ينذر بمخاطر جدية لا حصر لها، ربما تصل إلى حدود ثورات شعبية كاسحة قد لا تبقي ولا تذر،

فهل يتنبه أولو الأمر إلى خطورة ذلك ويبادرون لعمل إصلاحات جدية تنزع فتيل سخط الناس وتمتص غضبهم الآيل للتفجر قبل فوات الأوان!؟

* باحث اردني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق