الأربعاء، 4 نوفمبر 2009

نوّاف الزرو فرد يقوم بعمل مؤسسة

رشاد أبو شاور

ثمّة أفراد ينتدبون أنفسهم لأعمال جليلة تحتاجها الأمّة، دون أن تكلّفهم جهة ما بهذه المهمّة. هؤلاء نادرون، وهم ينجزون أعمالاً جليلةً لأنها تخدم قضايا، وتُبقي للأجيال ما يرتقي بوعيها، ويغذّي ذاكرتها، ويرسم لها الطريق الذي لا مناص من سلوكه، خّاصةً وبعض القضايا لا يمكن حسمها بجهود جيل واحد، وفي مقدمة هذه القضايا التي تطرح على أمتنا سؤال الحاضر والمستقبل: القضيّة الفلسطينيّة.

نوّاف الزرو هو أحد القلائل الذين انتدبوا أنفسهم لمهمة مُتعبة شّاقة.

اختار الكتابة، لا كمهنة مريحة مُربحة توفّر له حياة دعة، وعيش حياة آمنة لا مطبّات فيه ولا عثرات، ولا مخاطر يمكن أن تعرّض الحياة للخطر.

سُجن في معتقلات العدو الصهيوني 11 عاما، ولأنه حدد دوره ومهمته، فإنه وظّف تجربة السجن ليطوّر معرفته بالعدو، وطبّق الحكمة: من عرف لغة ( القوم) أمن شرّهم.

انكّب على تعلّم اللغة العبريّة، وخرج من السجن عام 79 ليتابع بها ما يكتبه منظرو العدو وصحفيّوه وسياسيّوه وعسكريّوه، مستقيا معلوماته مباشرةً، ليوظفها في نشر المعرفة بفكر هذا العدو ومخططاته، وأسس الخطاب الذي وظّف لخدمة الهدف الرئيس للصهيونيّة: تأسيس دولة على أرض فلسطين، بل والتوسّع شرقا، انطلاقا مّما حواه النشيد الذي كتبه الإرهابي جابوتنسكي مُعلّم بيغن وشامير، والذي يقول مطلعه: لكل نهر ضفتان، وضفتا النهر لنا.

نواف الزرو أراد أن ينفي عن العرب تهمة أنهم لا يقرؤون، وأنهم إن قرأوا لا يستوعبون، فهو بدأ بنفسه فقرأ، ومن ثمّ نقل ما قرأ إلى أبناء شعبه وأمته.

كُتب نوّاف تملأ رفّا من مكتبة أي متابع جاد لقضية الصراع العربي الصهيوني، ولنتذكّر بأنّ هذا الجهد المُبهر هو جهد فردي.

كّل المعارك التي خاضتها الأمّة في زمننا كتب نوّاف الزورعنها، من فلسطين العنوان الرئيس للصراع، إلى لبنان _ حرب تمّوز 2006 _ إلى الحرب العدوانيّة الإجراميّة على العراق، منطلقا من رؤية قوميّة ترفض حشر القضيّة الفلسطينيّة، وتقزيمها، وإضعافها، انطلاقا من رؤية إقليميّة ضيّقة مريضة.

بنظر نوّاف، وأنا وكثيرين نشاركه القناعة بهذا المنطلق الاستراتيجي، فإن القضيّة الفلسطينيّة هي قضيّة الأمّة من مشرقها إلى مغربها، وأنّ الصراع لايخّص بلدا عربيّا بعينه، وليس حكرا على طرف نيابة عن الأمّة، فلا أحد ينوب عن أحد في هذا الصراع، ومن يرضى بأن يُناب عنه فإنه مقصّر، لا يدرك أبعاد الصراع، وينطلق من رؤية محدودة، إن لم نتهمه بما هو أبعد.

في كتابه (غزّة: المحرقة..والصمود..الكتاب الأسود..لائحة اتهام)، يكتب نوّاف الزرو: الأمور لدينا مقلوبة تماما، حيث يقومون بتوثيق جرائم مزعومة، ومشكوك بأمرها، حتى بشهادات عدد كبير من المُراجعين الأمريكان والأوربيين، بينما نحن الذين نتعرّض لأبشع الجرائم والانتهاكات في فلسطين والعراق وغيرها على يّد الاحتلالات، نُطالب بإقامة مراكز لتوثيق جرائمهم.(ص27)

ولأننا نطالب ولا نجد من يبادر ويدعم، ومن يحرّكه الشعور بالمسئوليّة للتنفيذ، وبخّاصة من لديهم الإمكانات، فقد انتدب نوّاف الزور نفسه للتوثيق، بحيث لا يفلت حدث دون أن يتوقّف عنده، ولا يقترف العدو الصهيوني جريمة إلاّ ويثبّتها بكّل جوانبها، ليتأملها من يعيشون في هذا الزمن العربي، وتبقى من بعد للأجيال، وإن أمكن لتنقل إلى العالم، فهي وقائع مثبتة بالتواريخ والأرقام، مكتوبة بدم الضحايا الذين حصدتهم آلة الفتك والدمار الصهيونيّة في حروبها العدوانيّة على الشعب العربي الفلسطيني، وشقيقه اللبناني.

يعرف نوّاف إلى أي مدى استثمرت الصهيونيّة ما تسميّه بالمحرقة، ولذا يرّد عليها بحقائق المحرقة الفلسطينيّة على مدى ستيّن عاما، وهو إذ ينجز الجزء الأوّل من كتاب المحرقة الفلسطينيّة المعنون ب: موسوعة (الهولوكوست) الفلسطيني المفتوح، فإنه ينوب عن مؤسسات فلسطينية عاجزة غير معنيّة بجرائم عدو تلهث وراء التفاوض معه، دون توقّف للتساؤل عن نهاية مسيرة سلام أوسلو التي نهبت الأرض الفلسطينيّة، ومكّنت العدو من تنفيذ مخططه في التوسع، وفي المضي قدما على طريق تحقيق إستراتيجيته القائمة على ثلاثة أهداف متداخلة: الأرض، الهجرة، الاستيطان.

من يتأمّل مسيرة هذا الكاتب سيدهش وهو يتابع منجزاته (التوثيقيّة)، ونشاطه الكتابي في صحيفة (الدستور) الأردنيّة، ناهيك عن محاضراته ومشاركاته في المؤتمرات والملتقيات العربيّة.

لقد جمع نوّاف كل جوانب محرقة العدو الصهيوني لغزّة، وقدّم لائحة اتهام باسم دم الضحايا: الأطفال والنساء والشيوخ، والبيوت التي هدّمت على رؤوس أهلها، وقبل أن يقّدم القاضي( غولدستون) تقريره الاتهامي للكيان الصهيوني، والذي هزّ ضمير العالم. الفرق أن نوّافا يريدنا أن لا ننسى، فالعدالة نحققها نحن بوعينا وعملنا، بالقصاص الذي يردع ويجتّث هذا الكيان من فلسطين قلب وطننا العربي.

كتاب نوّاف الزرو الذي يقع في 280 صفحة من القطع الكبير:( غزّة: المحرقة ..والصمود)، سيبقى مرجعا للأجيال العربيّة، تعود إليه دائما، فتعرف نوعيّة العدو الذي عليها أن تواجهه، لا في قاعات المحاكم الدوليّة على أهميتها إن هي عدلت في الحكم، ولكن هنا على أرضنا العربيّة، وبالسلاح الذي لا يعرف غيره رادعا له، عقابا على جرائمه، ولتحرير أرضنا بالقوّة، فما أخذ بالقوّة لا يسترّد بغير القوّة، كما قال المعلّم جمال عبد الناصر.

لم تتوفّر لهذا الباحث مؤسسة للتوثيق، ولذا فهو لم ينتظر، أو يتقاعس، فقام بدور المؤسسة، وهو الذي يتابع، يجمع الوثائق، يترجم المقالات والمقابلات وتصريحات قادة العدو، ويقرأ ما يُكتب في صحافة العدو، وشعاره: اعرف عدوّك.

وهو يعرف هذا العدو لنا، فيعرفنا به، بفكره، بثقافته العنصريّة التي تتجلّى سلوكا وممارسات، بالخرافات التي تملأ رأسه، بأجهزته الاستخباريّة التي تنخر العراق وغيره من الأقطار العربيّة.( هل نسيتم شبكات التجسس التي اكتشفت في لبنان؟!..فما بالنا بما لم يكتشف في لبنان وغيره بعد؟!)

في مسيرته كتب نوّاف حول ( اللاجئين) وحّق العودة، ومأساة مدينة( الخليل)، ومن يقرأ هذا الكتاب الذي أعدّه بالاشتراك مع الصديق عبد العزيز السيّد، سيذهل مّما خّطط ونفذ لتهويد الخليل، وما جرى للمدينة بعد ( سلام أوسلو)، وحجم الجرائم التي تقترف بحّق الخليل المدينة وأهلها.

ولأن القدس لا تغيب عن فكر ونظر نوّاف الزرو، فقد كتب عنها كثيرا، ثمّ توّج جهده بكتابه المستند للوثائق: القدس ..صراع هويّة وسيادة ومستقبل.

والقدس حاليّا هي العنوان للصراع، وهي ستحدد مستقبل هويّة فلسطين حتى مدى زمني بعيد، إذا لم ننهض ونتصدّى بحزم وقوّة للخطوات السريعة التي تهودها يوميّا، لإنقاذ عروبتها.

نوّاف الزرو الذي يتابع، يوثّق، يترجم، يكتب، لا يكتفي بكّل هذا الجهد( الجماعي) هو الفرد الحيوي الإرادة، بل يعمد إلى طباعة ونشر أغلب كتبه على نفقته، ويقوم هو بتوزيعها وتوصيلها لمن يراهم معنيين _ كتاباه الأخيران ( غزة المحرقة، والقدس مصير ومستقبل) صدرا عن دار مجدلاوي _ لا بحثا عن الربح، ولكن تجاوزا لتقاعس كثير من دور النشر عن تبنّي كتبه، ولغياب الجهة الفلسطينيّة التي تعنى بهذه الكتب، بعد أن استغني عن مركز الأبحاث الفلسطيني نهائيّا، كونه يتنافى مع ( سلام أوسلو)!

من حّق نوّاف الزرو أن يُكرّم، بعد كّل هذا الجهد في خدمة الذاكرة العربيّة، وإغناء المكتبة العربيّة بكتب تعتمد الحقائق والوقائع _ أصدر حتى يومنا 24 كتابا _ ولو على الأقّل بكلمة: شكرا...

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صحيفة " القدس العربي " ـ الأربعاء 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق