الأحد، 7 فبراير 2010

النصر المستحيل .. والخديعة ؟


لا شك بأن قادة إسرائيل قد قرأوا جيدا المرويات التوراتية عن ما حدث ليهود العهد القديم في غزة وعن أطماعهم فيها، إذ أن غزة الممر والباب لأرض مصر الغنية، والعكس هي باب مصر إلى بلاد الشام وطرقها العالمية، كما يذكرون حروب قائدهم (شمشون الجبار) وعن استخدامه الثعالب والكلاب في إحراق حقول أهل غزة وبيوتها إلى أن عرف أهلها بسر جبروته فانتهى أمره بأسره في معبد داجون إله القمح إلى أن قتل نفسه فيه، وأيضا بما حل(بشاوول) أول ملوكهم بعد حروبه مع أهل غزة إلى أن تمكنوا منه وعلقوا رأسه في معبد داجون ذاته.
 فالرواية عدا عن هيبتها الدينية القادمة من القرون البعيدة لما قبل الميلاد فقد تحمل في طياتها رمزية ودلالات لما نشهده الآن.
 لكن هل يمكن أن يتكرر في غزة الآن ما كان قد حدث؟ وهل يمكن التخيل أن في القرن الواحد والعشرين للميلاد الذي شاع فيه منطق الحضارة وحقوق الإنسان والعدل والسلام أن تلجأ جماعة أو دولة ما إلى تهجير شعب من مناطق سكناه مستخدمة كل الوسائل الفتاكة التي توصل إليها العلم الحديث من أجل الهيمنة على ثرواته وأراضيه؟
 أعلنت إسرائيل الحرب على غزة وهي دولة وظيفية قادرة، فهل تحتاج هذه الدولة المرتبطة عضويا مع الولايات المتحدة والمعدة بنية وتسليحا كمخلب فولاذي تابع لها للتسلط على دول الشرق الأوسط وكقاعدة انطلاق عدوانية إلى ثلاثة أسابيع من همجية الذبح والتقتيل والتخريب ضد شعب أعزل كي تحصل على ما يسمى ضمانات من الولايات المتحدة لضمان بقائها بمنع تهريب السلاح إلى شعب غزة المقاوم؟  ألا يحق لشعوب الأرض التساؤل عن المعتدي؟ وكيف يمنع شعب محتل معتدى عليه عن مقاومة الاحتلال؟ 
 فكان يمكن أن تحصل إسرائيل على هذه الضمانات دون أن تكلف نفسها عناء الحرب، أو في اليوم الأول لإعلانها، على خطورة هذا الاتفاق بما يتضمن من توسيع للحصار بإعطاء الولايات المتحدة الحق لنفسها أن تكون شرطيا وقحا وأيضا لمن يتحالف معها بما فيها إسرائيل في مراقبة المياه الإقليمية في البحار وفي أعالي البحار والأجواء والصحارى بحجة ضمان عدم تمرير السلاح لأهل غزة، وفق االضمانات المعطاة لإسرائيل، كما يعني هذا حق التفتيش والمصادرة لكل وسائل النقل، والحد من حرية انتقال الأفراد والجماعات.
 فالأمور لا يمكن أن تفهم بما هو معروض من الادعاءات والمروّج من تفاسير وتقولات حولها من قبل بعض المراهقين من الساسة العرب، فهم يعتقدون بأنهم شركاء في اللعبة الدولية، بينما دولهم وأنظمتهم وحتى رؤوسهم موضوعة في دائرة الاستهداف، فما هو بديهي أن الولايات المتحدة ومعها إسرائيل لا تحتاجان بعد غزو العراق والعدوان على شعبه إلى مبررات للمراقبة أو للتدخل السافر بشئون الدول الأخرى أو العدوان عليها. فالمسألة، حتى في الشكل التي صورت عليه، هي أبعد من حصار غزة واحتلالها. ومن غير المنطقي أن لا تحظى حكومات المنطقة على حق المشاركة أو حتى العلم بالمخططات المعدة أو في مآلها، لكن مع الأسف هذا هو الواقع فالحكومات ليست سوى أضحوكة كما يلحظ في مشهد الابتسامة الساخرة للسيدة رايس أثناء توقيعها الاتفاق مع السيدة ليفني.
فما هو واضح بأن مشروع الإدارة الأمريكية للهيمنة على الشرق الأوسط ليس عابرا ويمكن تبديله أو تجاوزه إلى مشاريع أخرى، بل هو استراتيجي وأساس كل المشاريع، ولم يزل يتحرك بخطواته الثابتة على الأرض. إذن هو قضية حياة أو موت ليس للولايات المتحدة وحلفائها بل أيضا لإسرائيل، وأن ما يجري من حروب هنا وهناك ليس سوى مقدمات تكتيكية، أما ما يصرح به من قبل البعض على المنابر فليس سوى ضحك على الذقون، فالحرب على غزة ليست فقط مهزلة المآسي بل أنها غير منطقية في منطق الحروب.
تحتل إسرائيل غزة، ثم تخرج من غزة، تضرب حصارا على شعب غزة، تهاجم تقتل، إنها ممارسات مستفزة في حد ذاتها لأهل غزة ولشعب المنطقة، بل تعدت ممارسات إسرائيل ذلك إلى الحصار الجائر بما يتضمن من تجويع ومنع وأسر وخطف للشباب وقتل، بما يفضي كل ذلك إلى إبقاء حالة من عدم الاستقرار تمنع نشوء أي حالة اجتماعية سياسية. فإذا رد أهل غزة والقائمين على الأمر فيها على ما يصيبهم من جور وظلم اعتبر ذلك الطرف الآخر بحسب ما وضع من مفاهيم عقوقا وخروجا عن المواثيق والأعراف، وأدرج أهلها في خانة المخربين والإرهابيين، عندها تبرر لنفسها إسرائيل ومن وراءها إعلان الحرب على غزة؟!  مع أن هذا من الوجهة المنطقية غير صحيح، فإسرائيل لم تعلن حربا سياسية مفهومة بل أنها واقعا قد أعلنت حرب الإبادة على شعب غزة بالتواطؤ والتفاهم ليس مع إدارات دول غربية فقط بل مع عرب، وإلا كيف يمكن أن نفسر ما جرى ويجري من خراب ودمار وقتل للأطفال والنساء والعجائز والرجال، هل كل هؤلاء مقاتلون، وكيف نفسر العرض من الدول الأوروبية الحليفة بإرسال البوارج والمساعدات العسكرية لمنع تهريب وسائل الدفاع عن أهل غزة، أي نقل الحصار على أهلها من الإقليمية وتوسيعه إلى العالمية، إن لم يكن للحرب بعدا آخرا (أرض نظيفة) يبدأ بإبادة شعب غزة، وعليه فإذا دافع أهل غزة عن وطنهم وذاتهم بما يتوفر من الأسلحة لديهم، اسـتعْدوا عليهم العالم الشريك وتنادوا إلى استخدام مزيد من القوة للفتك والخراب والتدمير.
 ومع ذلك فبالرغم من وصول عدد شهداء غزة إلى ما يقارب الألفين وجرحاها إلى ما يفوق الستة آلاف، لم يستطع جنود الدولة العبرية وآلة حربهم من دخول غزة أو احتلالها للقضاء على المقاومين فيها فوقفوا عند التخوم، ما يعني فشلهم في مشروع احتلالها. فغزة أكبر من أن تنتصر عليها إسرائيل، وأصغر الآن من أن تهزم إسرائيل، فمشروع احتلالها يحسب بالربح والخسائر، وهكذا يقع جنودها عمليا إذا أصرت على عدم الانسحاب في المصيدة وفي دائرة الاستهداف، فإذا تراجعوا خسرت إسرائيل، وبمعنى آخر انتصار المقاومين بكل ما يترتب على هذا الانتصار من تداعيات في المنطقة العربية والعالمية وسقوط وهم العجز لدى الشعوب ووهم القوة لدى أعدائهم، فكان لا بد إذن من اللجوء إلى مخرج آخر، وهذا المخرج ليس سوى فخ جديد لأهل غزة ولشعوب المنطقة، فما هو مؤكد بأن الإسرائيليين سيقفون مرحليا في المناطق التي وصلوا إليها، لكنهم لخطورة الوضع على جنودهم فهم لا يستطيعون البقاء، وسيحرمون المقاومة في غزة من فرصة استنزافهم وعلى العكس من ذلك سيحاولون استنزاف المقاومة، فإعلان الهدنة إذن هي عملية احتواء للنصر الممكن للمقاومة، كما أن الهدنة المنقوصة المعلنة مع التطمينات الآتية ممن يحسب أخ وصديق يمكن أن تخدع بعض أهل غزة وبعض المقاومة وستفتح الطريق لبعض العملاء، كما يمكن أن تخدع أيضا بعض الشعوب، عربية كانت أو عالمية، فيهدأ من هبّ منها لنصرة حقوق الإنسان وإيقاف العدوان.
 فإعلان الهدنة في حقيقة الأمر ليس سوى خديعة لإعطاء إسرائيل ومن يحالفها ذرائع لعدوان أشد فتكا وضراوة ولاستخدام أسلحة أكثر تطورا في المستقبل القريب، بحجة أنه لا يصح التعامل مع الإرهابيين وعصابات المقاومة بغير هذه الأساليب، فإسرائيل رغم حروبها الهمجية المحدودة سينتهي مشروعها إلى الفشل لأنه مصادم لمسار قوى التاريخ، فلهذا ممنوع أن تخسر، لكن بالمقابل ليس لها سوى وهم الانتصار كضرورة لبقائها، فهل يدرك بعض القادة العرب أن العدوان على غزة مقدمة للعدوان على شعوبهم والقضاء على دولهم والنموذج هو العراق، وأن اتفاقية إسرائيل مع أمريكا لضمان بقائها ما هي سوى اعتراف ضمني بهزيمتها، لكن بالوقت ذاته نقل الحرب إلى الدائرة الأوسع وتكليف الدول المتحالفة الأورو الأمريكية المعنية بهذه المهام، وأيضا إعلان من قبلها بالمشاركة ببدء مراسم الحرب الواسعة للقضاء على دول المنطقة بما فيها دول شعوب العرب في إطار تنفيذ ما يسمى مشروع الشرق الأوسط الجديد، فبقاء إسرائيل يرتبط بمشروع يتعدى حدودها، ولا يمكن لإسرائيل أن تنتصر إلا بانتصار حلفائها عبر حصار دول المنطقة وضمان خضوع شعوبها، ويبدوا هذا حتى الآن أكبر من قدرات إسرائيل.
 فإلى أن يدرك حكام العرب ذلك يمكن أن تعلن إسرائيل الهدنة كما تشاء، كما يمكن لهؤلاء أن يقبلوا بها وأن يسوقوها وأيضا أن يصلوا معها إلى طريق السلام.

براعم التحرر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق