الجمعة، 26 مارس 2010

هل شق مخطط التطهير الثقافي طريقه نحو مصر؟


بقلم: محمد عبد الحكم دياب
  كانت هناك مسلمات تستبعد الصلح مع الدولة الصهيونية أو مهادنة القوى التي منحتها الوجود والمشروعية، لكن زيارة السادات للقدس المحتلة أسقطت هذه المسلمات وأذهبتها إلى حال سبيلها، ووصل الأمر إلى اعتماد الدولة الصهيونية في تعزيز وجودها وحماية أمنها على كثير من نظم الحكم العربية والإسلامية، وصار المشروع الصهيوني بالنسبة لهؤلاء فوق المصالح الوطنية والقومية، وله ألأولوية على الالتزامات السياسية والأخلاقية.
كنا في زمن هذه المسلمات نتصور أننا محصنون ضد الضعف والاختراق. وكنا محقين إلى حد كبير فيما ادعيناه، فقد كنا نبحث عن أسباب القوة داخلنا، ونحرص على أن نكون أصحاب إرادة مستقلة، ونسعى للتكتل والتوحيد والتضامن، وكانت كلها محفزات للقوة الذاتية والعامة. ومن وقت البدء في البحث عن مثبطات العزيمة، والتعلل بنقاط الضعف، فقدنا كل قيمة. وصرنا لا نقوى على شيء، وسقطنا تحت سنابك المنظومة الصهيوغربية. وفي هذه البيئة العفنة والمناخ السام شهدت مصر مؤخرا حدثين يؤكدان الوقوع في براثن الإبادة الثقافية، وحقبة التطهير الثقافي.
 وهو الوصف المستخدم من قبل رئيس تحرير هذه الصحيفة عبد الباري عطوان لعملية السطو الصهيوني على المسجد الإبراهيمي، وطمس معالمه، وتحويله إلى تراث يهودي عبراني .والعالم يتفرج والعرب في سبات عميق.
 الحدث الأول هو أن جامعة حلوان سمحت بتدريس كتاب في الجغرافيا يشطب ويلغى فلسطين من خرائط المنطقة السياسية والجغرافية، ويستبدلها مؤلف الكتاب بدولة أخرى أكبر. شملت سيناء وفلسطين والأردن وسورية ولبنان وبعض الجزيرة العربية. وأطلق المؤلف على ذلك الكيان الممتد اسم 'إسرائيل'، واعتبرها دولة صهيونية من جهة، وعربية من جهة أخرى، ومن لم يقر بها من الطلاب يرسب في الامتحان.
والحدث الثاني كان من توابع عودة رئيس الوكالة الدولية للطاقة النووية السابق محمد البرادعي لمصر، وبسبب ما أعلنه فيما يتعلق بالتعامل مع الإسلام السياسي، وتبنيه موقفا كان قد نال الإجماع الوطني لمختلف القوى والمنظمات السياسية المرخصة وغير المرخصة، باستثناء الحزب الحاكم. كلهم أقروا بحق الإخوان المسلمين في تشكيل حزبهم السياسي المعبر عنهم، وفور أن صرح الرجل معززا رأيه بحال ووضع الأحزاب المسيحية الديمقراطية في الغرب، وكانت ذات مرجعية دينية، والتزمت بقواعد العمل لليبرالي. وفور ذلك قامت دنيا الانعزاليين والليبراليين الجدد.  وصار البرادعي، الذي كان قبل هذا التصريح بمثابة المنقذ، الذي أعفاهم من حرج وورطة التوريث، و تحمسهم له. وتحول المنقذ المنتظر إلى شيطان يجب إخراجه من عداد البشر.
ونعود إلى الحدث الأول: نجده قد تجسد فيما جرى الأسبوع الماضي في محكمة حلوان، التي ذهب إليها حشد من المتضامنين أثناء نظر قضية الطالبة أسماء ابراهيم من جامعة حلوان. اتهمتها أستاذة لها، هي ماجدة محمد جمعة، بنشر أخبار كاذبة. أساءت لها ولسمعتها العلمية ومكانتها الأدبية. وكل ما حدث هو أن هذه الطالبة أبدت اعتراضها على المادة الواردة في كتاب الجغرافيا المقرر، وتناقض الحقائق التاريخية والجغرافية فيه، وكشفت مجريات القضية أن الأستاذة الجامعية الشاكية كانت تقوم بتدريس كتاب ألفه زوجها لطلابها، ويحتوي معلومات وخرائط تشير إلى وجود كيان سياسي مستحدث، ألغى وشطب فلسطين وسيناء والأردن ولبنان وسورية وبعض من الجزيرة العربية، وسمى هذا الكيان "إسرائيل"، وجعل لهذا الكيان المستحدث هويتان متناقضتان..صهيونية وعربية الصفة. وتمت مواجهة اعتراض الطلاب بالتهديد من جانب الأستاذة التي قالت لهم  “:إسمها إسرائيل غصبا عنكم، وكل من يرفض كتابة إسرائيل مكان فلسطين سوف يرسب في الامتحان '، وبالفعل رسب أكثر من ثلثي الطلاب، الذين التزموا بالحقائق التاريخية والجغرافية. وتضامن مع الطالبة عدد من أساتذة جامعة حلوان، وجمهور من زملائها، وعدد من الناشطين السياسيين وممثلي أحزاب المعارضة. وكانت أسرتها معها تساندها وتشد من أزرها. إلا أن الغضب والاحتجاج الذي تفجر على شبكة البث الألكتروني (الانترنت) كان كاسحا مشيرا لخطورة التآمر الثقافي والمعرفي على عقول وأفكار أجيال مصر الشابة. وهذا الحدث وصفه الأكاديمي المرموق محمد شرف، الأستاذ بكلية العلوم بجامعة حلوان.  وصفه بأنه تحقيق لنبوءة أرض الميعاد من النيل إلى الفرات، وتواجهه بعض الجامعات بالصمت، دون تصحيح هذا التزييف العلمي والثقافي، ورأى في ذلك صهينة ممنهجة لجامعات ومؤسسات التعليم العالي في مصر، وتساءل عن تدريس المناهج المغلوطة والخرائط المدسوسة رغم تكرارا الشكوى منها .. هل يعني أنها قرارات مصرية أم قرار وتوجيه خارجي؟
 وزارة التعليم العالي من الوزارات التي تستجيب وتشارك في مخطط يستهدف تغيير منظومة القيم الثقافية الوطنية والدينية والأخلاقية، وهي المنظومة المستقرة على مدى قرون، ودور هذه الجامعة ليس معزولا عن أدوار هيئات ومؤسسات حكومية وشبه حكومية أخرى .. سياسية واقتصادية وأمنية. تتولى التطبيع العلمي والثقافي المجاني، ودخلت إلى صلب مخطط التطهير الثقافي، المكمل للتطهير العرقي، الذي استؤنف في أماكن عدة من الوطن العربي والعالم الإسلامي. ولم يغفل المتضامنون والمحتجون الدور الذي تقوم به مكتبة الإسكندرية، الخاضعة للرعاية المباشرة للسيدة سوزان مبارك صاحبة الباع الطويل في التطبيع الثقافي باسم السلام، وتحت مظلة المنظمات النسائية العربية والدولية حرصت المكتبة على دعوة أساتذة وخبراء من الدولة الصهيونية، لحضور مؤتمر لشبكات المعلومات، مع مشاركة مكثفة من جامعات القاهرة والإسكندرية والنيل الخاصة، التي أسسها ويرعاها رئيس الوزراء، وهي جامعات فقدت الكثير من استقلالها، وتلبي رغبات عائلة مبارك وتنفذها حرفيا، عكس جامعات ما زالت تتمتع بدرجة عالية من الاستقلال، وقد انسحب أساتذة الجامعة الأمريكية في بيروت من المؤتمر، ولم يكن أي من أساتذة الجامعة الأمريكية بالقاهرة قد دعي من الأصل. وعكست تصرفات تلك الأستاذة سوء حال جامعة حلوان، فهي الأكثر خضوعا وإذعانا لأجهزة الأمن، والأكثر تمكينا لها في تسيير وتوجيه العمل الأكاديمي، وبذلك فرطت في حصانة هيئة التدريس بها، ووضعت طلابها تحت رحمة جهاز أمن الدولة بوحشيته المعتادة، وكثيرا ما تنشط جامعة حلوان للتأثير على جامعات أخرى. وأمكنها تدريس ذلك الكتاب في عدة جامعات أخرى، والطلاب الرافضون لهذه المادة تتم يواجهون بالردع القانوني (الجائر طبعا)، فيقدمون إلى مجالس التأديب، ومنهم من يقدم إلى المحاكم، وحكم على بعضهم بالحبس أو الغرامة. وهو ما لا يحدث في أي جامعة أخرى في العالم، وقدمت جامعة حلوان بذلك أسوأ النماذج في تاريخ التعليم الجامعي . وموضوع البرادعي ليس بعيدا عن ذلك المخطط. له بعده الثقافي، لكونه يتعلق بالإسلام السياسي. فزاعة الغرب، وبعبع الليبراليين الجدد، وخصم الانعزاليين المصريين. فور أن صرح الرجل برأيه حول السماح للإخوان المسلمين بتشكيل حزب على غرار الأحزاب المسيحية الديمقراطية في الغرب.
 انطلقت جحافل الليبراليين الجدد، وجماعات التكفير المدني، في وقت أُعلِن فيه النفير العام بين الانعزاليين، فانهالوا على رأس الرجل وأهدروا دمه سياسيا. متناسين أن جوهر الأحزاب المعاصرة هو الفكرة الليبرالية، وهي في أساسها فكرة تجارية، خرجت من رحم مبدأ حرية التجارة، فإطلاق التجارة اقتضى تشكيل أحزاب وجماعات سياسية وحكومات برلمانية، وجاء ذلك على حساب الدولة الدينية، ونظرية التفويض الإلهي، وتم الأخذ بالدولة المدنية، والالتزام بآليات الليبرالية في تغيير الحكم وتداول السلطة. وكلها كانت مقدمات لبروز الظاهرة الاستعمارية ومرورها بتطوراتها التاريخية المعروفة. ومن تابع الشأن البريطاني مؤخرا يجد أن الحزب القومي البريطاني، وهو حزب عنصري. معاد للأجانب المسلمين منهم تحديدا، اضطر لتغيير برنامجه وهياكله، لم يبق حكرا على أعضائه من البيض، وضم أعضاء ذوي أصول عرقية ودينية غير بيضاء، بقوة القانون. ودخله أول بريطاني من أصل هندي. لا يدين بالبروتستانتية.
ورغم هذا التطور تبقى الحضارة الغربية تبني رخاءها وتقدمها بتزكية الحروب، إلى أن استأنفت التطهير العرقي والإبادة الثقافية من جديد، ولم تتخلص من الثراث العنصري بعد. وهنا أشير إلى ورقة عرضت في دورة من دورات المؤتمر القومي العربي من سنوات، قدمها الكاتب الباحث العربي الأمريكي منير العكش. وتحولت فيما بعد إلى كتاب من أهم المراجع التاريخية والعلمية فيما يخص ظاهرة الإبادة الثقافية. ويرى فيما أسماه 'الإسرائيلية الإنكليزية ' خطرا أعم من الصهيونية المسيحية. يرجع إلى إيمان ذوي الأصول الأنكلو سكسونية بأنهم إسرائيليون. فواظبوا منذ أكثر من 500 عام على تأسيس الفكرة.. وفي حديث له نشر مؤخرا ضرب مثلا بإسحاق نيوتن، مكتشف الجاذبية الأرضية، وقال انه بجانب كتابيه الفريدين في العلوم له ما يقارب الأربعين كتابا عن تصورات وحسابات للمعبد اليهودي وقياساته في وصفه لبناء الهيكل، ويرى أنهم بنوا إسرائيل مجازيا، حسب تعبيره، قبل تأسيسها على أرض الواقع. ورصد تفاصيل ووقائع موثقة للإبادة الثقافة على مدى التاريخ الاستيطاني للأمريكتين، مع استراليا التي تحتل المرتبة السادسة عالميا من حيث المساحة، ولم يبق من سكانها الأصليين سوى عينات قليلة. وأفرغت قارتان ومئات الجزر حول العالم من سكانها باسم إسرائيل.
المهم أن البرادعي، المسيح العائد من عالم الغيب الدولي تشيطن، دون حساب للمياه الكثيرة التي جرت في نهر الأفكار والعقائد والمرجعيات الفلسفية والدينية والسياسية، وكلها تشير إلى أن الدولة الدينية قد ولت ولم يعد لها مجال، والثقافة الإسلامية تتميز بوقوفها في صف الدولة المدنية، بما ييسر ظهور أحزاب ذات مرجعية دينية، وهي إذا كانت حلالا في النموذج الغربي فلماذا تحرّم وتجرّم في مصر، وعلى من ينشد الحرية ألا يكون انتقائيا. ويطلبها للجميع. ولا يصادر حق أصحاب المرجعيات الدينية في تكوين أحزابهم. فهذه الأحزاب في ظل القبول بالتعددية ترسخ قواعد الدولة المدنية، وتجعل الوطن رحبا وتمكنه من أن يكون حاضنا لكل أبنائه، على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم. وهذا الهجوم الكاسح بسبب فكرة الحزب ذي المرجعية الدينية يعبر عن انفصام، يقوم بتحريم ما هو ممكن من جانب ويصادر على ما يسمح به العصر وتتيحه الظروف من جانب آخر. وفي ذلك تخفيف للاحتقان السياسي، وإبعاد لخطر الفتن الطائفية والمذهبية. ولأني لست من دراويش البرادعي أو غيره، ولا ممن يراهنون على الفرد، أيا كان تميزه وتفوقه. فأنا أتعجب من الاتهامات التي وجهها هؤلاء ضد البرادعي، ووصفهم له بالجهل والسطحية والتسرع، بسبب عدم ضبط ساعته على توقيتهم، وعدم توجيه بوصلته صوبهم. 
وإذا ما كانت الغالبية ضد التطرف الديني وتكفيره، وضد التطرف المدني وإقصاءاته، فعلى الجموع التي تتفق أو تختلف حول البرادعي ألا تقع في شراك الليبراليين الجدد في تعاملهم مع الإسلام السياسي، ويكفيهم ما هم فيه من تناقض..يدعون الديمقراطية، لكنهم يفاقمون الاحتقان ويساعدون في نشر الفتنة!
' كاتب من مصر يقيم في لندن


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق