الخميس، 1 أبريل 2010

أنا بطل الفقراء


د. محمد سعد أبو العزم
لم أكن أتخيل أن صديقي العائد توًا من رحلة عمل في فنزويلا يتحدث بجدية، وهو يؤكد لي ما شاهده بعينه من وجود آلاف الشباب المصريين العاملين هناك في مختلف قطاعات الأعمال بالدولة، ذلك أن الصورة العالقة في أذهاننا عن فنزويلا حتى وقت قريب كانت ترتبط بالجوع والفقر والفساد.
"
إن رؤيتك يا سيدي للمصلحة تختلف كلية عن رؤية الآخرين، الذين أمكنهم أن يتناولوا طعامهم وشرابهم وهم يتحدثون عن استخدام البترول في التنمية، على رائحة شواء أجساد الأطفال في فلسطين ولبنان، عندما قمتَ بسحب سفير بلادك من اسرئيل، فأنت قد صنعت أسطورتك وأنت على قيد الحياة، والتف حولك شعبك في حب حقيقي، وأصبحت رمزًا وحلمًا للشعوب الحرة في العالم كله".
هذه هي كلمات المستشارة "نهى الزيني"، في رسالتها التي وجهتها للرئيس الفنزويلي "هوغو تشافيز"، والتي لخصت فيها مشاعر المحبة والوفاء التي تكنّها الشعوب العربية لهذا القائد الحر، فقد أصبح حماسه للدفاع عن قضايانا أكثر من بعض العرب أنفسهم، رافعًا شعار "ما يجمعنا هو الموقف وليس اللغة أو الدين".
من دون شك فان تشافيز مثل غيره من الزعماء لهم العديد من الأخطاء، سواء في المنهج أو في النزعة الديكتاتورية التي ظهرت ملامحها مؤخرًا، ولكن ما يعنينا بشكل مباشر هو التعلم من تجربته في قيادة بلاده نحو الاستقلالية والريادة الإقليمية، مع تحقيقه درجة كبيرة من الرخاء وتحسين مستوى المعيشة لكل أفراد شعبه، وذلك على الرغم من العراقيل التي توضع يومياً في طريقه، ولأن التنمية والحرية الحقيقية هي الحلم المنشود الذي تبحث عنه شعوبنا؛ فقد أصبحت تجربة "تشافيز" نموذجاً بديلاً يستحق العناية والاهتمام، وهو المجهود الذي بدأه الدكتور "إبراهيم علوش"، ونشره منذ فترة في دراسة بجريدة "العرب اليوم" الأردنية.
عندما وصل تشافيز للحكم كان ثلثي الشعب الفنزويلي يعيش تحت خط الفقر، وذلك بالرغم من أن فنزويلا تسبح على بحر من الثروة النفطية والمعدنية، ولعل خطابه الذي ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يعبر عن أهم انجازاته التي تمكن من تحقيقها في غضون سنوات قليلة، فقد أصبحت بلاده خالية تمامًا من الأمية، كما بات 70% من السكان يتلقون العناية الصحية الشاملة للمرة الأولى في حياتهم، وخلال بضعة سنوات سيتمكن كل مواطن من الوصول مجاناً لرعاية صحية ممتازة، وقد تم خفض معدل البطالة ليصل إلى أقل من 10% بعد أن كان ثلث السكان تقريبا بدون وظيفة.
الإدعاء القائل بأن النفط وارتفاع سعره هو سر نجاح التجربة التنموية الفنزويلية - نتيجة امتلاكها ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم- وبالتالي فهي غير قابلة للتعميم لعدم امتلاكنا هذه الإمكانيات، هو ادعاء خاطئ تمامًا، لأن آخر إحصائيات عام 2009 تؤكد تنوع مصادر الناتج المحلي الإجمالي، ومع أن الطفرة النفطية شكلت المصدر الرئيس لدخل البلاد، لكن الأهم هو المشروع التنموي الذي عرف كيف يستفيد منها، وتوجد أمثلة كثيرة على دول عربية مشابهة لم تنمُ قطاعاتها غير النفطية بنفس الطريقة التي نمت فيها في فنزويلا، ولكن نجاح "تشافيز" الأكبر لا ينعكس بالأرقام، بل بتأثير تلك الأرقام على تحسن نوعية الحياة، فقد تبنى القضايا التي تهم الناس مثل: محو الأمية، التعليم والصحة، تأمين الوظائف، والتزام الدولة بتأمين الحد الأدنى من الدخل والغذاء، وهنا لا بد أن نتذكر اسم "كارلوس لانز" وهو العقل المفكر لإصلاحات "تشافيز" الاقتصادية، حيث استطاع بناء نموذج اقتصادي مختلف يقوم على مبدأ "المشاركة" و"المجتمع التعاوني"، ويستهدف نقل المزيد من السلطة والثروة للفئات المهمشة، دون الوقوع في خطايا النموذج الشيوعي لإدارة للدولة، وتقوم هذه التجربة على استخدام عائدات النفط في تأسيس وتمويل آلاف التعاونيات الصغيرة، الزراعية والصناعية والتجارية، التي تعمل بجهدها الذاتي حسب قوانين السوق ودون إشراف الدولة المباشر، ولكن ضمن خطتها العامة للتنمية، وقد بدأ هذا النموذج يؤتي ثماره بتصدير فنزويلا للغذاء، بعد أن كانت تعتمد بشكل شبه كامل على استيراده، كما بدأت في تصدير السلع الصناعية بعد أن كانت الصناعة فيها معدومة.
من المحزن أن نقارن الآن بين مشروع الوحدة الاقتصادية العربية الذي تم إعلانه رسميًا عام 1964 بهدف إنشاء السوق العربية المشتركة، وإقامة اتحاد جمركي عربي، ومنطقة استثمارية وتكنولوجية عربية، (بالطبع لم يتحقق شيء من ذلك حتى الآن)، في مقابل مشروع "تشافيز" السياسي والاقتصادي للدفع باتجاه الوحدة في أمريكا اللاتينية من خلال " كونفدرالية الجمهوريات"، حيث تتضمن رؤيته مد خط أنابيب غاز عبر القارة، وإقامة تحالف تجاري، ووحدة نقدية وسوق مشتركة بين بلدان المنطقة، بالإضافة إلى بنك الجنوب الذي تم تأسيسه بالفعل لتمويل مشاريع تنموية في القارة، ويصبح بديلاً عن المؤسسات المالية الدولية التي تعمل وفقا لأجنداتها الخاصة، وقد كان لدى تشافيز من الإرادة ما يكفي لتجتمع حول فكرته 12 دول لاتينية، حيث بدأ أفكارًا غير تقليدية لتعزيز ذلك التعاون مثل تصدير النفط الفنزويلي إلى كوبا مقابل 13 ألف طبيب كوبي، وآلاف المعلمين والمدربين الرياضيين وغيرهم، وهو ما يساعد بحل مشكلة الشعب الفنزويلي الصحية والتعليمية، ويساعد بحل مشكلة الشعب الكوبي الاقتصادية والنفطية، وقد اشتكت الولايات المتحدة للمنظمات الدولية مرارًا من أنها لا تفهم تفاصيل العلاقة التجارية ما بين فنزويلا وكوبا.
إن أهم ما يميز تجربة فنزويلا مع "تشافيز" أنها تعتمد على قواها ومواردها الذاتية، بحيث تختبر نموذجاً جديداً في إدارة الاقتصاد يجعل الإنسان والشعب أولويته الأولى عندما يرفع شعاره الدائم "أنا بطل الفقراء"، نموذج يدرك جيداً العلاقة الهامة ما بين النهضة والتنمية من جهة، والتخلص من التبعية المفرطة للولايات المتحدة من جهة أخرى، ، يهدف مشروع "تشافيز" أن يصبح القرار الاقتصادي والسياسي للشعب، وأن يفك تبعية الاقتصاد للشركات الأجنبية والقطاع الخاص، دون الوقوع في مصيدة السيطرة المركزية الحكومية على وسائل الثروة والإنتاج، وهي تجربة من الحري بنا أن ندرسها جيداً حتى نفهم نقاط القوة التي يمكن الاستفادة منها، وأن ندعمها لنبني أفضل العلاقات معها بما يفيد كل المستضعفين في الأرض.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق