الاثنين، 12 أكتوبر 2009

الجغرافيا السياسية في خطابي عباس ومشعل.....

ايمن اللبدي

أمس استمع الفلسطيني إلى خطابين، الأول ألقاه على مسامعه محمود عباس من مدينة رام الله المحتلة ومن مقاطعة الشهيد ياسر عرفات، والثاني ألقاه خالد مشعل من مدينة دمشق وعلى مقربة من الجولان العربي المحتل، بعض الذين يستهويهم استخدام أدوات الجدال المزدوجة الحدود، مالوا إلى مفردة الجغرافيا السياسية في أول هذه الأدوات، وفي حين لم يقولوا لنا ما هو تأثير حدود هذه الأداة في حالة خطاب عباس، وهل أثرت هذه الجغرافيا السياسية التي واقعها الاحتلال والتنسيق الأمنى، وتنفيذ الأجندات الصهيونية- الإمبريالية على هذا الخطاب، تنطحوا للغمز من قناة الخطاب الثاني لمشعل على هذا الأساس!

الجغرافيا السياسية في خطاب مشعل، هي جغرافيا المقاومة والممانعة، هو صحيح أنها تتم عبر خطوط تماس أخرى مع العدو الصهيوني، عبر قيادة المقاومة اللبنانية والفلسطينية في لبنان وفلسطين، ولكنها في الجغرافيا السورية وحتى الساعة تشهد ثلاثة عوامل لا يمكن إنكارها على الإطلاق ولا التحايل حولها، الأول منها أن هذه الجغرافيا لم توقع حتى الآن معاهدة منفردة، والثاني أنها حتى الآن تدعم خيارات الشعوب العربية المقاومة بما فيها العراق، والثالث أنها حتى الآن تعمل على أساس تبني الخيارات الاستراتيجية المتعددة للوطن السوري وللأمة العربية، في معركتها التي تقول لأنها الأساس، فأي مثلبة في هذه الجغرافيا السياسية؟

أظن أن الذين استحبوا هذه المفردة في التعريض بقصة الجغرافيا السياسية، هي استهلاك الإشارة إلى وضع التصالب الإقليمي والدولي في السياسات، سواء الاستراتيجية أو التكتيكية، حيث القيادة السورية وخياراتها المنبثقة والمرتبطة معاً بحساباتها في هذا الموضع، لسان حالهم يريد أن يقول ما أحجموا عنه، وهو كيف تنادون بالمقاومة والجولان السوري لا زال محتلاً ولا مقاومة فيه؟ إنها ذات الفكرة المكرورة التي يكفي المرور بفعل العمل القائم حالياً في مواجهة فعل الاستلاب القائم عند الآخرين، على الأقل طالما بقيت صورة دمشق في مركز قرار الممانعة والصمود والدعم لفعل المقاومة القومي، فإن حربها مع العدو ستكون جزءً قادماً لا مفرَّ منه لا شك تدركه دمشق، وهي طالما بقيت تجهّز له الحسابات فإنها تكون مقبلة على التلاقي في مراحل قادمة بنفس الجدية التي تؤسس فيها للمرحلة الحالية عبر دعمها لهذا لخيار.

لكن الجغرافيا السياسية في خطاب عباس، هي شيء مختلف تماماً ، فهي لم تلحظ فلسطين الواقعة تحت كل أنواع سيوف التهديدات المفصلية العنيفة، وباستثناء التباكي – اليوم- على وضع غزة المحاصرة، وإهمال ذكر الضفة المستباحة تحت التنسيق المشترك في سياسة صاحب الخطاب، وعدم تكليف الخاطر المرور على وضع الفلسطيني في أرض الجذور حيث الوطن الأم، والدور الوطني الذي يلعبون في معركة القدس التي تغيب عنها السلطة منذ عدة سنوات، ومعاناتهم ومواقفهم البطولية في هذا الشأن، وآخر شواهدها استقالة الأخ حاتم عبد القادر من حكومة سلطة رام الله، مشفوعة بالأسباب الواضحة التي تقول بأن لا دور للسلطة هناك، وعلى الأقل فحوى يعارض تماماً ما قاله خطاب عباس عن ادعاء الأدوار فيها، هي جغرافيا سياسية لم تسافر حتى داخل المقاطعة ذاتها، مقاطعة الشهيد عرفات !، وفقط تعمل الصور في مضاد المعاناة الفلسطينية وأشواقها للخلاص، وفي ما هو معاكس لأمانيها بالحصول على الأجوبة الشافية، هي تتبع للأسف عاملها في تحديد جزء آخر من واقع هذه الجغرافيا السياسية ،حيث يتقدم سلاح العدو فيها للعمل في طبيعة الخطاب، إنها جزئية ما يريح العدو ولا يستتبع منه لا غضباً ولا قلقاً.

إنها أيضا ليست فقط في باب حصر الخيارات الاستراتيجية فلسطينياً في لبن السلام المسكوب صهيونياً، والمسلوب الإرادة أمريكياً – أوروبياً، باستثناء أدوار التجميل وامتصاص الغضب من هذا الإفراط في عملية سكب اللبن الذي لم يتبق منه شيء، بل هي في باب ضرب الخيارات الاستراتيجية الأخرى للشعب الفلسطيني ومن عدة أوجه بطريقة منهجية، إنها عملية ليس فقط نكران وتنكّر لتاريخ وأسطورة الكفاح الفلسطيني المعاصر، بل هي عملية تقزيم له مع محاولة التنكّر له، جارية على قدم وساق تتبع منهج إدانة المقاومة نفسها، وتكثير السكاكين فوق رقابها، بالفعل المباشر، والشواهد أكثر من أن تحصى، إنها منهج متكامل الأجزاء والنتوءات، وليست قصة تقرير القاضي غولدستون إلا واحدة من المحطات التي تظهر فيها الصور الفاقعة لهذا المنهج الذي لا يختلف عن منهج حكومة فيشي، وكل الحكومات التي قامت على أساس التعاون مع المحتل ضد مصالح الشعوب المستعمرة، إنها ذات الصورة.

اليوم يقول الخطاب الأول نفسه تماماً، لا شيء جديد فيه على الإطلاق، منهج الهروب للأمام، والذهاب بكل الطرق الممكنة وغير الممكنة إلى أحضان العدو، والقطيعة في ذات الوقت مع الجوهر الوطني الشامل، والإصرار على النبوءة الفردية التي لا تملك في عالم الواقع أية درجة من درجات مقوماتها المنطقية، فضلاً عن الاستخفاف بالناس وحركة التاريخ معاً، هي بلا شك انعكاس لواقع الشخصية المهتزة في الفعل الاستبدادي الطاغوتي فعلاً، الأمر الذي يدعنا لا نتوقع معه بصيص أمل في هذا النفق المظلم والبارد معاً، والذي يجعلنا في ذات الوقت نرى في التغيير الشامل ضرورة وطنية ومنطقية لا بد منها.

في خطاب الثاني بعض التجديد الذي يستحق الوقوف عنده، يكمن أول صور التجديد الواضحة في التفريق بين حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح»، وبين نفر باسمها استقوى عليها أولاً، ثم اشتغل قرصاناً على القرار الوطني، وارتبط تحالفياً مع بؤرة الفساد السياسي والأخلاقي في السلطة الفلسطينية، وصولاً إلى مد السطوة لاحقاً على المركب الأم في منظمة التحرير الفلسطينية، وهو تجديد يحسب لمشعل ويحترم ويقدّر أيضا، وهو من هذه الزاوية حجر البناء على التجديد الثاني الذي ظهر من خلال الدعوة ليس إلى «تقاسم شكلاني» في مواقع التمثيل، بل إلى شراكة وطنية شاملة، تعتمد على المأسسة الحقيقية والتعبير التمثيلي الحقيقي، والمشاركة في البرنامج والتنفيذ معاً.

إذا كان لا بد من تعقيب بسيط، فنهمس في أذن محمود عباس، لا أحد بما فيهم حضرتكم يصدّق أن قراراً مهما كان نوعه يتخذ اليوم هناك في رام الله دونكم، ولم نكن نتوقع من خطابكم قياساً على ما عوّدتم عليه الناس غير ما قلتم نصاً وطريقةً، أما في أذن خالد مشعل فنهمس، أصبت وأجدت، وعلمت فالزم، وألزم به من حولك،ربما لا زال مبكراً أن نقول لك يا خالد فلسطين جدد خالد الترك والعرب معاً، لكننا قطعاً سعيدون بك أخاً مجاهداً على طريق فلسطين، كل فلسطين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق