الأربعاء، 25 نوفمبر 2009

أقطعناك تونس مدى الحياة





على بساط الثلاثاء
57
مبروك ... يا زين الحاكمين ..!
أقطعناك تونس مدى الحياة
ثم لنسلك من بعد .. وإلى أبد الآبدين ..!
يكتبها : حبيب عيسى

( 1 )
أعترف بداية أنني مدين للسيد الرئيس زين العابدين بن علي رئيس الجمهورية التونسية بموقفين فريدين تميز فيهما عن نظرائه من الحاكمين يفصل بينهما أكثر من عشرين عاماً .
o الموقف الأول : كان منذ أكثر من عشرين عاماً عندما رفعّ نفسه من مخبر في وزارة الداخلية إلى رئيس لجمهورية تونس إثر انقلابه على ولي نعمته الحبيب بو رقيبة .. يومها أطل علينا سيادته بصوت يتهدج تأثراً ليعلن موقفاً لم يسبقه إليه أحد من المتحكمين بمصائر العرب ، قال يومها بنبرة عسكرية حاسمة : لقد آن الأوان أن تنتهي من حياتنا تلك المرحلة التي يحكم فيها الحكام مدى الحياة .. ثم أتبع ذلك سيادته بدرس رصين مؤثرّ عن الحرية ، والديمقراطية ، والرأي، والرأي الآخر ، وإرادة الشعب ، وحكم الشعب ، وتداول السلطة .. وإلى آخره ...!
أعترف ، أنني يومها ، حاولت أن أتفاعل مع هذا الوافد الجديد علينا ، رغم تجاربي المرة مع أمثاله ، حاولت أن أصّدقه .. فلعّل ، وعسى ..!، الغريق يتعلق بقشة كما يقولون ، ولكنني أعترف أيضاً أنني لم أستسغ هذه الفكرة التي تهدد الاستقرار ، والخصوصية ، وتشّكل خروجاً على السائد ، وحاولت أن أجد له العذر في ذلك ، فقد يكون سيادته قد تفوه بتلك العبارات " النابية " لأنه مازال حديثاً في نادي الرؤساء ، وأنه لم يكتشف بعد قدراته الخارقة الاستثنائية التي لا مثيل لها ، ولا نظير ، ولا تتوفر لأبن أنثى ، أو رجل في تونس .. وبالتالي فإنني لم افقد أملي بأن سيادته سرعان ما سيدرك الخطأ الذي وقع فيه ، وسيكتشف أنه لا بديل له في تونس ، وأنه سيرضخ للإرادة الخفية التي لا راد لها ، وسيتواضع في حكم تونس مدى الحياة الطبيعية على الأقل مع السعي الحثيث لتمديدها بإطالة عمر خلايا سيادته اعتماداً على تطور العلم ، والخلايا الجذعية ، لكن سيادته في الأحوال كلها مطمئن إلى مستقبل تونس ، فالسيدة الأولى قادرة على أن تقوم بدور الوصية على الوريث حتى يبلغ سن الحكم إذا لا سمح الله ... ، ولا نقول سن الرشد .. لأن الرشد قد يطيح بهذا الاستقرار ، وتلك الخصوصية العربية الفريدة .
o الموقف الثاني : الذي أدين فيه لسيادة الرئيس زين العابدين بن علي كان دعوته منذ أسابيع إلى استفتاء حول رئاسة الجمهورية ، ذلك أن سيادته لم يقبل التمديد الحكمي مدى الحياة ، رغم الثقة بأنه لا بديل له ، ولا نظير ، وهذا تواضع من سيادته ، لكن يشاركه فيه الكثير من أقرانه ، الموقف الجديد ، الذي تميز فيه ، كان في النتيجة حيث جاءت نتيجة الاستفتاء بأرقام لم تعتد عليها الآذان العربية .. 89.99 بالمائة ، لقد خيب شعب تونس الآمال ، فمن هم هؤلاء العشرة فاصلة واحد بالمائة الذين قالوا : لا ، لسيادته ، إنهم لا شك ناقصي عقل ، ودين ، ونطالب على الفور بالحجر عليهم في مصحات عقلية ، حتى لا ينتشر وباء هذه " اللا " اللعينة ، ونطالب تضامن جامعة الدول العربية ، ومجلس الأمن الدولي في محاربة هذا الوباء .. ذلك أنه كان قد تم التساهل مع الواحد بالعشرة من المائة خلال العقود المنصرمة حيث كانت النتائج 99.99 بالمائة على مدى النصف قرن الأخير ، وهذا أدى إلى انتشار جرثومة " لا " لتصل إلى هذا الحد الخطير .. وإذا لم تتضافر الجهود المخلصة فإن هذا يعني انه بعد قرنين من الزمن أي بحدود عام /2210/ ميلادية قد يحكم تونس حاكم ضعيف عاجز لا حول له ولا قوة ، ولا سطوة في حدود الخمسين بالمائة ، وهذا يهدد الاستقرار والديمومة ، والخصوصية ، والنمو ، والسياحة ، والصمود ، بل أن هذا الوباء في هذه الحالة لن يقتصر على تونس بل قد يمتد ليهدد الاستقرار والخصوصية .. في سائر أرجاء الوطن العربي ، لذلك لابد من إعلان النفير القومي العام ، واستنفار المخبرين ، والبصاصين ، والتشدد في إعلان حالات الطوارئ ، وتعميمها ، والضرب بيد من حديد في سائر الاتجاهات حفاظاً على هذه الرموز النادرة الوجود في هذا العصر ، والذي تنفرد الأمة العربية ، دون سائر البشر بتربعهم على رؤوس أبنائها ...
لكن ، ما أعاد الطمأنينة إلى نفسي هو، أنني لجأت إلى أحد الخبثاء ، أو العقلاء على الأصح ، أبث إليه هواجسي ، فسخر من مخاوفي ، وقال بهدوء ، ورصانة ، وجدية : لا تخشى شيئاً يا صديقي ، ذلك أنهم يفتتحون المزاد دائماً بالـ 99 بالمائة ، ثم ، وبعد استقرارهم على العروش ، واقتراب التسليم لمن يختارونه من نسلهم ، يتنازلون طواعية عن هذه النسبة ، حتى إذا جاء الوريث عاد إلى النسبة الأولى 99 بالمائة ، وهكذا في دائرة مغلقة .. وأضاف صاحبي ، وهو يودعني مطمئناً : لا تخشى شيئاً يا صديقي بإمكانك أن تنام ملء جفونك ، فالمستقبل العربي مضمون ، وممسوك ، ومستقر ، لا تشوبه شائبة ، والهواجس التي تنتابك ما هي إلا من عقابيل مرحلة أحلام الحرية المنهارة , التي مازال يعيش فيها المتوترين ، الموتورين أمثالك .. وأضاف إنني أنصحك بأن تعرض نفسك على طبيب نفسي ، وأنا مستعد أن أصطحبك إذا قررت ذلك .. قلت له : لا ، لا اعتقد أن الحالة تفاقمت إلى هذا الحد بدليل أنني اقتنعت برأيك ، وعادت الطمأنينة إلى نفسي ..
( 2 )
لكنني ، أعترف مرة أخرى ، أنه ما أن أغلقت على نفسي باب مكتبي حتى عادت الهواجس اللعينة تطاردني من جديد إلى درجة أنني عدت أشكك بقدراتي العقلية ، خاصة ، وأن ذاكرتي أعادت عرض تلك الحلقة التي شاهدتها على إحدى الفضائيات منذ أيام عندما اعترض أخي من تونس المنصف المرزوقي على نسبة التسعينات في المائة التي تتسم بها ظاهرة الاستفتاءات الرئاسية ، فسخر منه واحد من لاعقي الأحذية في بلاط القصور الرئاسية في تونس داعياً إياه التوجه فوراً إلى إحدى المصحات العقلية .. عندها تذكرت على الفور الحالة التي أنا فيها .. وقلت بيني ، وبين نفسي ، لا بأس ، فقد نلتقي أخيراً أنا ، والمنصف المرزوقي في إحدى المصحات العقلية .. ثم ، ولكي أهوّن الأمر على نفسي .. عادت ذاكرتي تسعفني بقائمة طويلة من الأفذاذ الذين اتهموا بالجنون على مدى العصور البشرية ، لم يكن سقراط أولهم ، ولن نكون ، المنصف المرزوقي ، وأنا آخرهم ، ثم ، كم من المحارق نصبت للعلماء ، وكم من المقاصل دقت أعناقهم ، وكم من الزنازين المظلمة احتوت أحلامهم حتى أن الشواهد مازالت حية في الأذهان عن المصحات العقلية الجماعية التي شيدتها سلطات حديثة للمعارضين ... ورغم أن اغلب تلك السلطات قد اندثرت ، فإن بعضها مازال حياً يسعى ..
في خضم هذه الأجواء الخانقة التي تحاصرني من الاتجاهات كافة جاء الفرج فجأة عندما نبهتني ذاكرتي ، وكأن يد غامضة نقرت على فأرتها ، إلى أنني منذ عدة أشهر قد أعلنت جهاراً ، نهاراً ، عن تغيير " اللوك " والخروج من دائرة الأفكار البائدة عن الحرية ، والديمقراطية ، والعدالة ، والمساواة ، والمواطنة ، والأمة الواحدة العصية على التفتيت الإقليمي ، والطائفي ، والمذهبي ، والديني ، والإثني .. لقد ذهب العمر هباء ، ولم يتبقى منه إلا القليل ، القليل ، الذي قررت أن أمضيه بالفرجة على "هز النواعم" ، وتتبع أبواط المتلاعبين بالكرة ، عوضاً عن ملاحقة المتلاعبين بالأوطان ، وتعويضاً عن الأيام العجاف ، فماذا جرى .. ؟ ، وما علاقتي بما يجري ، أو سيجري ... ؟ وهل يستحق استفتاء تونس الرئاسي كل هذا العناء ، ليعيدني إلى أجواء الإحباط ، والهموم ، والجنون ..؟ .. ألم أتعهد على الملأ بتغيير " اللوك " ، وهل يليق بي ، بعد كل هذا التاريخ الحافل بالهزائم ، والخيبات أن تلصق بي ، أيضاً ، تهمة النكوص عن عهد قطعته على نفسي في العلن ...؟ .
( 3 )
لكن الطبع غلب التطبّع على ما يبدو ، كما يقولون ، وهذا ما يجب مواجهته ، بموقف حاسم حتى لا أنزلق مرة أخرى إلى المتاعب ، دعونا نحلل بعقلانية ، فالمشهد ليس تراجيدياً ، ولا سريالياً ، ولا درامياً ، إنه مشهد كوميدي بامتياز .. وبالتالي دعونا نسخر من أنفسنا ، دعونا نرى الواقع من الزاوية الأخرى الكوميدية ، ولنبدأ من المحيط حيث الجنرالات في موريتانيا لم يحتملوا نتائج الانتخابات الديمقراطية سوى أشهر قليلة ، على الشمال من ذلك في المغرب حيث تعمل لجان الأنصاف والمصالحة لكن الصحفيين يعتقلون بجرم المس في الذات الملكية "المس بالذات الإلهية لا باس عليه" ، إلى الجزائر حيث سيترحم الجزائريون على أبو تفليقة عندما سيّطل عليهم إبن تفليقة ، إلى ليبيا حيث ظهر النقيب كأمين للقومية العربية ، وما أن ترفع إلى عقيد حتى بات أميناً للقومية الأفريقية ، ذلك أنه تنبأ بأن "السود سيسودون" في كتابه الذي كان أخضراً .. والوريث الولد بات كبيراً ، وجاهزاً ...
ثم إلى الكنانة ، حيث حسني أدى بالمصريين إلى الترحم على غليون أنور السادات الذي ذهب إلى الصهاينة ، حسني يستقبلهم في قصوره المنتشرة من القاهرة إلى شرم الشيخ حتى لا يحّملهم أعباء الضيافة ، والوريث تم تربيته "على الغالي" وبات جاهزاً .. وأولئك الذين يقولون ، ويصرخون " كفاية " ليسوا إلا حفنة مجانين .. " كفاية إيه يا ولاد الأيه .. هو انتو لسه شفتوا حاجة .. " ، ثم إلى السودان المثخن بالجراح التي يرقص عليها بالعصا سيادة الرئيس "ولا هز النواعم".. إلى الصومال حيث تقام الحدود تقتيلاً في كافة الاتجاهات والذبح الحلال على الطريقة الإسلامية والأسلحة من النظام الأرتيري الذي تديره الذي تديره "أسرائيل"، إلى اليمن حيث الدماء تسيل غزيرة إلى أن يحسم الرئيس الصراع بين ولديه المدللين ترى من منهما سيرث اليمن ، ومن عليها ..؟ حتى يبقى اليمن سعيداً بكل هذه الدماء ، وبالوريث القادم .. وإلى آخرهم من أصحاب الجلالة ، والسمو ، والنيافة في الخليج الذي تتهدد هويته العربية تهديداً شديداً من الناحية الديموغرافية ، ورغم ذلك ، فإن هناك اعتذار واجب من مظفر النواب ، وكأني ، بلسان حاله ينشد على طريقة بدوي الجبل :
عفواً قابوس ومعذرة أجراس النهضة لم تقرع
لو أكمل الأدعياء زحفهم لكانت سياطهم بالشعب تلسع
و بسوطك الرحيم تحلم
وصولاً إلى تلك الكيانات التي تم النص في وثائق ولادتها على أنها ملكية لفلان الفلاني ثم هي أرضاً وشعباً وثروات وراثة في أبنائه من بعده ، ثم إلى العراق المثخن بالغزو والفتن ، وليس انتهاء بعباسية رام الله ، وغزة الهنية ... ومستوطنات الصهاينة التي تشكل جزءاً أساسياً من المشهد المأساوي ، الكوميدي ...........
( 4 )
عند هذا الحد تنبهت .. إلى أنني أناقض نفسي ، بنفسي ، فالمشهد ليس كوميدياً بالكامل ، إنه خليط من الكوميديا ، والسريالية ، والتراجيديا ، والدراما ، والمونودراما .. وأنني مطالب قبل أي أحد أن أحسم موقفي نهائياً من مسألة تغيير " اللوك " وأن اعترف أنني عجزت عن الخروج من المأزق ، فلا العزلة وفرّت الحل ، ولا الأساليب ، والأدوات ، والإمكانيات متاحة للعمل العام .. ولا "هز النواعم" كان هو المخرج ... ثم ، ثم ماذا ؟ وجاء الجواب من داخلي حاسماً : لاشيء ، لاشيء على الإطلاق لقد كسرنا الدف وبطّلنا الغناء ، لا علاقة لي بكل هذا ... ألم أتجاوز من الناحية الفيزيولوجية مرحلة الانخراط في مغامرات جديدة .. من أي نوع كانت ، حتى على الصعيد الشخصي ..؟ .
وعند هذا الحد ، أيضاً ، تناهى إلى مسامعي قرع الطبول ، وبدأ القرع يقترب ، ويشتد عنفاً ، إنهم يزفون الرئيس إلى قصور تونس .. والطبل يقترب ، ويقترب ، وهناك من ينشد على طريقة المتنبي:
لا تشتري الطبل إلا والعصا معه إن الطبول من جلود الخنازير
لا تقربوهم إلا مكمّمة خشومكم تفادياً للعدوى بإنفلونزا الخنازير
هنا انتفضت من فراشي مذعوراً .... لقد كان كل ما تقدم كابوساً ثقيلاً ، وضعت رأسي تحت مياه باردة ، وأنا أردد : "اللهم اجعلوا خير .." ، وقد كان لزاماً عليً أن أوضح موقفي من كل ما جاء في هذا الكابوس الثقيل ، منعاً لأي التباس ، وها أنا أعلن على الملأ إخلاء مسؤوليتي تماماً من كل ما جاء في هذا الكابوس المريع ، جملة ، وتفصيلاً ، وإنني أؤكد على موقفي الثابت ، الذي لا عودة عنه ، بتغيير "اللوك" ....
( 5 )
في مواجهة ذلك كله .. وتوثيقاً للموقف أقترح عليك يا أخي يا منصف ، يا مرزوقي ، أن نعرض نفسينا على طبيب نفسي يرشدنا سيكولوجياً ، أنت حيث أنت ، وأنا حيث أنا ... لأن التقاء المغرب العربي بمشرقه العربي ممنوع ... ثم نتبادل الإرشادات التي تلقيّناها .. علنّا بذلك نصل إلى حل .. يخرجنا مما نحن فيه .. ويمنع عنا مثل تلك الكوابيس المؤلمة ، اللعينة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
دمشق ، الثلاثاء:24/11/2009
حــبيب عـــيـسى


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق