الأربعاء، 17 مارس 2010

في إشكالية الحركات القومية ..


جلال / عقاب يحيى
    إذا كانت التجزئة القومية، وحالة التمزّق والاحتلال، هي الأرضية الخصبة لولادة، ونمو، وتصاعد، واندفاع، وعاطفية، وغلوائية الحركات القومية(كردّ فعل على فعل عنيف )  ...فإن قصة، قضية فلسطين شكّلت الحافز، والمحرّض، والراية، والسبيل، بله المدخل لنفاذ الحركات القومية من شبابيك، وأبواب الأزمة العاصفة(بداية المؤامرة ـ الهزيمة وملحقاتها ـ تأسيس الكيان ..).....لتكون فلسطين، وعلى مدار عقود أهم قضايا النضال العربي، ومحور فكر ومهام وشعارات الحركات القومية، وحاملها ومحمولها في حالات كثيرة  ..
ـ ولئن كان الوطن العربي قلب العالم( وسطه وعقدة مواصلاته) ففلسطين قلب القلب الرابط بين جزئه الأفريقي بالآسيوي، وبين بلاد الشام ومصر اللتين شكّلتا ـ عبر تاريخ مديد ـ بوابة ومنطلق العمل العربي، وعموده الفقري . وبالتالي : فمن يحتل فلسطين يقطع أوردة القلب، ويفصل جغرافياً بين الممر البري الوحيد لآسيا بأفريقيا .
ـ وفلسطين موطن عديد الديانات الشرقية(الأوسطية المسيحية واليهودية)، السماوية، التي عاشت في هذي الأرض، وانطلقت منها إلى العالم، وهي أولى القبلتين، ومسرى ومعراج الرسول العربي(ص)، وبوابة الانتقال إلى بقية العالم، وهي موئل الحضارة الكنعانية المؤسْسِة لفلسطين العمران والمدن، وقدس(يبوس) العاصمة، ومحطّ تعددية وتفاعل الأديان والأصول التي بوتقتها فلسطين بدمائها الخاصة لتكوين تلك الخليطة الفخورة بانتمائها، وثقافتها، ودورها، وهي بذلك فريدة الأهمية الدينية والتاريخية والجغرافية . وهي لذلك كانت محطّ أنظار الغزاة(الأمواج الصليبية المتعاقبة)، وأنشودة الصهيونية الباحثة عن محاصصة قوية في عالم الإمبريالية الناهضة .
ـ وفوق هذا وذاك فطبيعة المؤامرة الغربية لاحتلال، وسلب، واستيطان فلسطين، وتحويلها إلى قاعدة متقدمة للغرب، والصهيونية العالمية(وعديد تنظيمات اليهود العنصرية ـ السريّة السابقة والمستمرة).. شكّلت مفصلاً في استراتيجية كونية ـ صهيونية(يهودية عنصرية ـ تآمرية) لا تقف عند فلسطين الجغرافيا، وإنما تتخطى ذلك إلى عموم الوطن العربي، إن كان عبر البعد التوسعي للصهيونية الذي يجد ترجماته في القضم والضمّ والحروب، وفي رفض تحديد حدود الكيان بشكل رسمي(ما يزال الشعار الصهيوني مرفوعاً على مبنى" الكنيست" : حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل)، أو من خلال استنزاف الأمة العربية بشكل دائم، وعبر التآمر، وسياسة الحروب المبرمجة، والاعتداءات المرتّبة، والاغتيالات والتصفيات للقادة والمناضلين الصلبين، والنخب العلمية، والتجسس وغير ذلك من أعمال الجريمة المنظمة، وصولاً إلى السيطرة الشاملة على الموادر الطبيعية، وفي مقدمها النفط والغاز، ووقوفاً عند تغذية، وإشعال فتيل الانقسامات والحروب الداخلية المذهبية والدينية والقومية وغيرها، واختراق منظومة الأمن القومي، وأبجديات التضامن العربي، ثم احتواء النظام العربي وإخضاعه .
ـ ولأهمية فلسطين، وأهمية الوطن العربي، وللبعد التاريخي الذي يحتله : بخلفيات الإرث التوحيدي، والدور الحضاري، وتشابك الإيديولوجيا بالانتماء القومي.. تميّز الاحتلال الصهيوني لفلسطين عن غيره من الاحتلالات، بما فيها الاستيطانية ـ الإحلالية التي عرفتها بعض مناطق العالم، كالجزائر وجنوب أفريقيا.. بأن الاستراتيجية الصهيونية(ومعها جموع التنظيمات والمنظمات اليهودية التآمرية ـ السريّة ـ الأخطبوطية)، وعبرها : استراتيجيات الغرب الإمبريالية، لم تكتف بفلسطين، ولا تقف عندها، بل صنعت منها قاعدة ومنطلقاً لغزو، وتدمير الأقطار العربية، وإخضاعها، بأشكال كثيرة لأنواع مختلفة من الاحتلال والهيمنة، والسيطرة على القرار السياسي، والمقدرات الاقتصادية وغيرها .
ـ فلسطين بذلك، ومن خلال المشروع الصهيوني ـ الغربي الشمولي.. وضعت مصير العرب، في جميع كياناتهم(القريبة منها والبعيدة) أمام الخطر الماحق : المباشر، الملموس والمتجلبب بأقنعة وألبسة كثيرة، بما وفّر شروط توحّد المواقف العامة من القضية الفلسطينية، وبما وضع فلسطين قاسماً مشتركاً أعظم لدى الشعوب العربية برمتها، وحتى الأنظمة،على اختلاف طبيعتها ـ ولو شكلياً، ولفظياً .
                                                     ****
الحركات القومية : نظرة، وإشكالية :
    كان طبيعياً أن تستيقظ وتنتشر، وتتصاعد(حركة البعث بوجه خاص)، أو تلد عديد الحركات القومية(كالقوميين العرب) في غمار تفصّح المشروع الغربي لاغتصاب فلسطين(قسراً وبالتآمر والحيل) وتحويلها إلى وطن قومي ليهود العالم، كنوع من تعويض عن المظالم وحروب الإبادة الأوربية، والتخلص منهم ومن نفوذهم الأخطبوطي، وتنفيذاً لتلك الاستراتيجية المذكورة .
وكانت الهزيمة الفاضحة للجيوش، بله للحكومات العربية في (حرب ال1948)، بما  أفصحت عنه من تواطؤ وتآمر وتخاذل، وضعف جيوش وأسلحة، وخطط الحكومات العربية، وما ظهر فيها من خذلان وثقوب وهشاشة، وقابليات للمساومة والقبول، ضمنياً، بقرار التقسيم .. محرّضاً قويا لزلزلة الوطن العربي بهزّات قوية متلاحقة، وأخرى ارتدادية متعاقبة تجلّت في مسلسل الانقلابات العسكرية(متعددة الخلفيات)، وفي ذلك الحراك الشعبي والسياسي الكبيرين، ونمو وصعود القوى القومية، وتغلغلها في الجيش الذي عرف توسّعاً كبيراً، وفي جملة المتغيرات والانتفاضات، وثورات التحرير التي تعاقبت، وتواصلت في عديد الساحات العربية، وفي دخول قطاعات شعبية واسعة ميدان العمل السياسي، والالتفاف حول تلك الشعارات البديلة التي طرحتها الحركات القومية، بما رفع القضية الفلسطينية إلى المصاف الأول في الانشغالات والاهتمامات الشعبية والسياسية .
    لقد نجحت الحركات القومية في استقطاب الشارع المفجوع بالهزيمة، وارتفعت به إلى مستوى الأحلام الكبرى عبر رفع شعارات التحرير وتصويرها على أنها المهمة الأولى الموضوعة على جدول الأعمال التي لا تدانيها، ولا تنافسها أية مهام أخرى . كما نجحت في تسييس الجماهير ودفعها لاحتضان فلسطين : قضية أولى للعرب، فاكتست بذلك بُعداً شعبياً حوّلها من نخب مثقفة في غالبيتها، تبشيرية، محدودة الانتشار والتأثير، إلى حركات شعبية واسعة.. ولكن ..
إشكاليات متداخلة :
لكن عديد الإشكاليات وقعت بها عموم الحركات القومية منذ البدء، وعلى طول مسار وتطورات تلك القضية، ونخصّ منها :
ـ إشكالية النظرة إلى موقع فلسطين في قضايا النضال العربي ..
بدت الحركات القومية وكأن فلسطين احتكارها وحدها، دون القوى السياسية الأخرى، خصوصاً وأن مواقف الأحزاب الشيوعية التقليدية لم تكن واضحة في البداية حيث ظهرت مبلبلة، منقسمة، وخاضعة لتأثيرات الحركة الشيوعية العالمية التي رأت في الصهيونية، و"وحزب العمل الإسرائيلي" حالة تقدمية بالقياس إلى(الوضع العربي وقياداته التقليدية : " الدينية ـ الإقطاعية ـ البرجوازية المتوسطة والصغرى" !!)، ثم أسفرت عن قبولها ب"قرار التقسيم "، ودفاعها عن اعتراف الاتحاد السوفييتي بالدولة ـ الكيان(ثاني دولة بعد الولايات المتحدة) . وكانت الحركات القومية بالوقت نفسه، تشكك بمواقف القوى الأخرى(غير القومية)، وبالنظم العربية القائمة(الرجعية والبرجوازيبة والنص نص)، وقد ترافق ذلك مع التشديد على الطابع القومي للصراع بين الطرفين(العرب والصهاينة)، في حين أن للقضية الفلسطينية أبعاداً أخرى أوسع : تحررية، ودينية تعني العرب المسيحيين والمسلمين، والعالم الإسلامي، بشكل عام،(وحتى اليهود العرب غير الملوثين بالصهيونية)، وأممية (قضية تحرر وتحرير من الطراز المعقّد، والرفيع بكل ما تقتضيه من علاقات وتحالفات بالقوى والنظم الثورية في العالم) . وهو ما أدى، أيضاً، إلى نوع من الإرباك في تحديد وتفصيح الطبيعة الصهيونية، وموقعها من اليهودية، ومن تلك الأكذوبة المصنّعة بقوة الهيمنة على الإعلام ودوائر النفوذ والقرار العالميين التي تركب على التاريخ والأسطورة(التي أوجدتها عقود السبي والتهجير) لادعاء الشرعية في(وطن اليهود القومي ـ وطن الوعد التوراتي من إله صوّر على أنه عنصري ـ تمييزي)، وحدود الجانب القومي من الديني، والديني من الإمبريالي، والإمبريالي الكوني من خصوصية، واستقلالية المشروع الصهيوني عن الإمبريالية(عبر نوع من تشابك الخاص بالعام تناغماً وتبايناً)، وماهيّة اليهود : شعب؟ . أمة ؟ . خليط عرقي ؟؟..إلخ . مع تسجيل ابتعاد الحركات القومية ـ على العموم ـ من تحويل الصراع إلى صراع ديني(يهود ومسلمين)، وأخطار هذا التحويل على جوهر القضية، وجوهر تشكّل اليهود من قوميات مختلفة، بما فيهم اليهود العرب، وأهمية التفريق بين اليهودية كدين وركوبها من قبل الحركة الصهيونية وشقيقاتها من التنظيمات السريّة للاستخدام[a1]  والتوظيف .
ـ ولعل أهم إشكالية(وإن بدت لفظية ـ شعارية) تكمن في تحديد موقع فلسطين في فكر، وفلسفة، وبرامج، وطروحات الحركات القومية ..
لقد اعتبرت(مجمل) الحركات القومية أن فلسطين هي القضية المركزية للنضال العربي(والأمة العربية)، (أحياناً كان يتمّ استخدام مصطلح : القضية المركزية الأولى)، وقد انتشر الشعار، وركب الأكتاف والخطابات والاحتفالات، وبدا كالبديهية التي لا تقبل الفحص والتدقيق(كثير من الشعارات اتصفت بالعمومية)، حتى أنّ أيّة محاولة لإعادة النظر بصياغة الشعار ووضعه في موقعه العملي ـ العلمي ظهرت وكأنها تراجع عن القضية(بمستوى الخيانة)، أو قبول بالتسوية، وبالتخلي عن الجوهر، فكان يصار إلى المزيد من التشدد على السائد كردّ فعل خائف من الاتهام، ومن المزاودة اللفظية التي انتشرت كالفطر في دنيا السياسة العربية ..
الحركات القومية، خاصة البعث(أقدمها وأشملها) اعتبر، ولسنوات طويلة، أن الوحدة العربية هي المركز، والمحور في النضال العربي، بما يُفهم على أنه لا يدانيها، أو ينافسها أية قضية أخرى،وأنها البيت الذي يحتوي بقية المهام، والطريق إلى تحقيقها، ثم جرى رفع شعارات قريبة من ذلك تنادي بالوحدة طريقاً إلى تحرير فلسطين، ثم انقلبت الآية في بعض المراحل والأحايين، حين صعدت فلسطين إلى أوج التصدير، والاهتمام، فكثرت المناداة بشعار "تحرير فلسطين طريق الوحدة العربية"، وغير ذلك من الشعارات المُربكة، المرتبكة التي تخفي إبهاماً في الذهن السائد، وبلبلة في وعي تحديد المهام، ومضمون المصطلحات والشعارات .
عندما حصلت بعض التطورات اليسارية، وعبر وصول بعض الحركات القومية إلى السلطة وبدء امتحان الأفكار مع الواقع، والسير فيما يسمى ب"التحول الاشتراكي"و" بناء القاعدة المادية لها".. ارتفعت الاشتراكية إلى مصاف المهام المركزية، ونافست(واقعياً) رفيقاتها، بل بدت هي الغالبة والطاغية في الميدان، خصوصاً وأن تلك عرفت تعثراً، وتراجعاً، وغيبوبة( الوحدة ـ التحريرـ ناهيك عن الحريّة المُغتالة) .
    لاشكّ أن الفرق كبير وهام بين قضية، والقضية المركزية في وعي القوى القومية، وفي مهام وواقعية البرامج والشعارات وعمل الحركات المعنية. ولا شكّ أيضاً أن القضية الفلسطينية من أهم القضايا المركزية للأمة العربية( كانت ترتقي إلى مصاف الخطر الماحق في حالات العدوان والتحضير للحرب)، لكنها ليست القضية المركزية الوحيدة، فقبلها، وعبرها، وبعدها مهام مركزية لا تقلّ شأواً، وأثراً . فالوحدة العربية حاضنة التحرير(بالتأكيد)، والاستقلال الاقتصادي الحقيقي قاعدة التحرير والمواجهة الطويلة، بل إن القضاء على الجهل والأمية والتخلف مهمة مركزية لا غنى عنها في المواجهة الحضارية ـ المفتوحة مع الصهيونية( هي الضمان والأساس)، ومثل ذلك الحداثة وتقدّم البنى والمجتمعات، وإطلاق الحريات الديمقراطية : الطريق المجرّب لمشاركة الشعب في الدفاع عن الأوطان، وحماية الأرض والأهداف، وبالتالي : هناك مجموعة من القضايا المركزية المتداخلة، المترابطة بعلاقات جدلية تؤمّن التوازن والانسجام، وتمنع الخلل والجنوح نحو هذا الهدف المركزي أو ذاك (على حسابه في الأغلب) .
ـ ولعل أخطر الإشكاليات التي وقعت فيها الحركات القومية تلك المنادية بالتحرير الفوري لفلسطين، أي وضع الشعار على جدول أعمال التطبيق في الزمن المنظور ..
    الأكيد أن الفرق كبير بين الأماني والوقائع، وأن الشعب العربي الذي يحلم على الدوام بهزيمة ودحر الكيان والمشروع الصهيوني، كان يركض لاهثاً خلف الشعار، يحمل طويلاً رافعيه على الأكتاف، ويعلن استعداده لنسيان حقوقه الطبيعية، ويضحي بكل ما يملك خدمة لتحقيق الهدف، وبعيش على وقع طبول التحرير التي ما انفكّت تُقرع بقوة على مدار السنوات ..
والأكيد أيضاً أن الحركات القومية لم تكن كاذبة، أو مخادعة في رفع شعار التحرير الفوري(خصوصاً في بداياتها)، لكن "جهنم مبلطة بالنوايا الحسنة"، إذ أن وضع الهدف على جدول التطبيق، أو إشعار الجماهير بأن التحرير قادم، وأنه الأولوية التي لا تدانيها أولوية، وعدم وعي ما يعنيه ميزان القوى في كل طرف، والقوى في الجانبين، وطبيعة التحالفات والعلاقات العربية مع العالم، والإسرائيلية مع الإمبريالية، وحتى مع (الحليف الاستراتيجي للعرب)، والافتقار إلى الإعداد الميداني الواجب، وأوله في الجانب العسكري(إعداداً جديّاً وليس لفظياً)..بما في ذلك الخطط الواقعية، والسلاح، والتدريب، والاحترافية العسكرية التي لا تزجّ الجيش في السياسة(وحتى اليومية منها) ..أدى إلى نتائج سلبية وخيمة .
    فعدا عمّا يُظهره هذا المنطق من ذهنية حماسية، اندفاعية لا تليق بحركات قائدة لجماهير واسعة، أو بنظم مسؤولة عن مقدرات الشعب والأمة، فإنه يعكس بجلاء مستوى الوعي، ومستوى إدراك الإقدام على خطوات، وأفعال غير مدروسة، أو محسوبة، ومستوى النتائج الكارثية التي تفعلها الهزائم في القوى، والشعب، والقضية بالذات .
    لقد جرت تعبئة الشعوب العربية طويلاً بأماني التحرير القريب، فجيّشت العواطف والنفوس، وحضّرت القابليات انتظاراً لليوم الموعود.. حتى إذا ما حلّت هزيمة حزيران الفاجعة.. كانت اللطمة الكبرى، والمنعرج الخطير، والمحطة التي انطلقت منها مرحلة أخرى تمّ فيها عملياً مغادرة تلك الشعارات والمقولات، والتسليم بفلسطين التاريخية للكيان الصهيوني، وما هو أكثر وأخطر : ترنّح المشروع القومي النهضوي، وهزال وتراجع الحركات القومية، والمزيد من التفريط والتنازلات .
    ومن المفيد ذكره في هذا الجانب أن عبد الناصر تعرّض لحملات كبيرة مركزة اتهمته بشتى الاتهامات حين أعلن في لقاء له مع وفد من غزة(1964) " أنه لا يملك خطة لتحرير فلسطين" حيث قامت الدنيا عليه ولم تقعد، وأصيب الكثير بالإحباط والخيبة، ولعل العديد لم يفهم المقصود بالضبط، وأن ما يعنيه عبد الناصر هو وجوب معرفة، وحساب موازين القوى جيداً قبل التفكير بوضع أي خطة للتحرير.. يمكن أن تكون فاجعية، وفي أحسن الأحوال تبقى حبراً على ورق، وهو ما كان مصير خطة الرئيس السوري الراحل أمين الحافظ الذي طرح على قمة الدار البيضاء(1965) ما اعتبره خطة جاهزة لتحرير فلسطين، والتي قوبلت بالاستهزاء، والسخرية، والتمييع، وعدم الجدّية من الموجودين، وقد حاول عبد الناصر تناول مقتضيات التحرير الواقعية، وأنها غير متوفرة في الوضع العربي، وأنه لا يعارض التفكير بخطة للتحرير ...
    عبد الناصر بالذات، وبفعل مجموعة من الضغوط والاعتبارات، اندفع مطلع عام1967 في طلب سحب القوات الدولية، وإغلاق مضائق تيران، ونشر الجيش المصري في سيناء.. وتبيّن للجميع في عدوان الخامس من حزيران أن النظامين القوميين في مصر وسورية لا يملكان أية خطة للتحرير والمجابهة الفعلية، وأن أكوام الأخطاء والتجاوزات والإهمال لم تكن السبب الأهم في تلك الهزيمة النكراء وحسب، وإنما فتحت المصاريع لشتى أنواع الاتهام(من العيار الثقيل)، ولتفاعلات داخلية مثّلت جنين الارتداد الذي سيلد بعدها (طبيعياً) في نحو ثلاثة أعوام ويزيد قليلاً عن تاريخ الهزيمة .
                                                       ****
ـ كان رفض الحركات القومية لقرارات الأمم المتحدة القاضية بتقسيم فلسطين(وما تلا ذلك من قرارات) موقفاً سليماً ينسجم والمبادئ، والثوابت، ورفض التسليم بالأرض(خاصة عندما تكون تلك الأرض فلسطين).. لكن ذلك لم يك كافياً في الواقع .
    إن طبيعة الأمم المتحدة(تشكيلاً وقوى نافذة)، وما يُعرف بالشرعية الدولية، تعكس موازين القوى العالمي الذي لا مكان، ولا تأثير فيه للضعفاء، ناهيك عن النوايا المبيّتة لأطراف رئيسة في مجلس الأمن لاغتصاب فلسطين بشكل مسبق، مبيّت ومرتّب، ومنحها وطناً قومياً لليهود(الأدلة كثيرة وسابقة، وبعضها يعود لأكثر من قرن، وما تلا ذلك) ..
    لكن الرفض الذي لا يقترن بقابليته على التجسيد(الذي لا يملك قوة الرفض) يترك آثاراً عكسية على أصحابه، والجماهير المؤمنة به، خاصة وأن الوضع العربي بدا مستكيناً ـ واقعياً ـ لما جرى على الأرض، وغير قادر على تغييره إلا في الأحلام وحقن الوعود، والأماني الكبيرة .
ونعرف أن قوى واتجاهات عديدة كانت تطالب بقبول التقسيم، وتحمّل القوى التي رفضته مسؤولية التداعيات اللاحقة، ومسؤولية الدخول في مراهنات مغامرة لم تؤدِ إلا إلى توتير الأجواء، وإعطاء الكيان الصهيوني الذرائع التي ينشدها لتوطيد أركانه، وشنّ اعتداءاته المرتّبة، وتمتين علاقاته الدولية وهو يُصور نفسه حملاً وديعاً مُستهدفاً من(22) دولة عربية سيلقون اليهود في البحر ..!! .
سيكون الرفض اللفظي مقابلاً للاستسلام، ويؤدّيان إلى النتائج ذاتها : تكرييس الكيان كأمر واقع، وانزلاق الوضع العربي إلى مزيد التنازلات، و(اللوات) فيما يشبه المتوالية الخائبة .
ـ كانت هزيمة حزيران1967 المنعرج والمفصل والمحطة ..فقد كشفت وعرّت الخطاب القومي حتى العظم، وأبانت تلك الهشاشة في الإعداد والمواجهة والصمود والمقاومة، وفي الفجوة الخارقة بين الشعارات والتجسيد، والخطاب الحماسي وما جرى على الأرض، وما شملته يوميات ومجريات الحرب من كوارث وفضائح وقرارات ملتبسة تثير، وما زالت، الكثير من الأسئلة الاتهامية ـ التشكيكية.
وبعيداً عمّا حققته"إسرائيل" من (إنجازات تاريخية) في الاستحواز على كامل فلسطين التاريخية، بالإضافة إلى سيناء والجولان وأراض أخرى لبنانية وأردنية . وبعيداً عن كونها الهزيمة الأشمل للعرب عموماً، وللحركة القومية على وجه الخصوص، وعمّا أوضحته وفضحته . وبعيداً عن طريقة التعامل معها(بدءاً من الاختلاف في تسميتها : نكسة ـ وكسة ـ هزيمة...)، وغلو البعض في الخلط بين الأرض وبقاء النظام(فشل العدوان في تحقيق أهدافه).. وبعيداً عن آثار كثيرة أوجدتها، وراكمتها، وانتسبت إليها ...
فإن الحقيقة الأساس التي يمكن تسجيلها(فيما يهم بحثنا هذا) يتمثّل في التخلي الرسمي، والواقعي عن فلسطين التاريخية، والتعمشق فيما يسمى فلسطين الضفة وقطاع غزة، لتصبح هي فلسطين، وهي الحلم والأمل، وهدف النضال !!!! . أي : تبخّر حقبة بكاملها كانت تجد مبرر وجودها ونضالها في استعادة فلسطين التاريخية(من البحر إلى النهر)، وعدم الاعتراف بشرعية الكيان الغاصب .
ـ لقد جنحت أغلبية الدول العربية إلى القبول بالأمر الواقع، وأصبح شعار المرحلة(أمنية الأماني) : استعادة ما احتلّ في الحرب. أي إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل العدوان، مع فارق جوهري عمّا سبق، وهو : واقعياً بالقبول بمشروعية الكيان فيما عدا الضفة والقطاع ..وقد عبّر(مؤتمر الخرطوم ـ المنعقد أواخر عام 1967) عن ذلك بصراحة، رغم الفصاحة التي استخدمها في اللاءات الثلاث .
ـ إضافة إلى ذلك أحدث العدوان انقساماً رئيساً في الصف القومي . فعبد الناصر الجريح، المفجوع بما جرى.. يرى أن هدف المرحلة القادمة ـ المركزي : استعادة ما احتل من أرض، وفقاً للقرار الأممي رقم/242/ البريطاني الصياغة، الملتبس والخبيث في التفريق بين أرض والأرض، وفي فقرات عديدة تمنح المعتدي مشروعية الفرض، وتملي على المهزوم جملة من الاشتراطات السياسية والأمنية . والنظام الوطني في سورية، ومعه فصائل الثورة الفلسطينية، وعدد من الأنظمة العربية(الجزائر ـ العراق ـ ليبيا)، وحركات التحرر العربي يرفضون ذلك القرار وكل ما يسمى تسوية سياسية، باعتبارها تكريس لشرعية الاغتصاب، وتفريط بحق العرب الثابت في فلسطين التاريخية، ويطرحون بديلاً لذلك(الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية) ..
ـ لقد قام الزعيم عبد الناصر بجهود خارقة لإعادة بنماء الجيش المصري المنهار، وإعادة تسليحه، وخوض حرب الاستنزاف، والتخطيط لحرب قادمة تستعيد سيناء وبقية الأرض المحتلة في عدوان حزيران.. لكن (الموت المفاجئ) عاجله، وهو يحاول إطفاء جريمة (أيلول الأسود) ضد الثورة الفلسطينية.. لتدشين عصر الردة من داخل النظام، وعبر ذلك الجنين النامي فيها .
ـ بالوقت نفسه بدت شعارات الرافضين، خاصة النظام الوطني السوري، تسبح في دنيا الأحلام والأمنيات، ليس لأنها غير صحيحة، بل لكونها تفتقر إلى دينامية وواقعية التجسيد، وإلى مقوماتها ومناخاتها وأدواتها الطبيعية، خصوصاً وأن الصراع الداخلي في القيادة السورية(بين القيادة السياسية ووزير الدفاع المتمترس مع تكتل عسكري يتسع ويمتد سياسياً وطائفياً..) كان يجعل من تلك الشعارات أمنيات، تشبه جميع شعارات العرب النارية ـ الحماسية ـ الاندفاعية ـ العاطفية .. والتي قُبرت مع الانقلاب الفاضح الذي قاده وزير الدفاع (وقلة حزبية قليلة معه) ضد الحزب ممثلاً بأعلى مؤسسة فيه، واعتقال تلك القيادة لما يقرب الربع قرن، واغتيال بعض رموزها بطرق خبيثة .
                                                     ****
ـ مع اكتمال عوامل الارتداد الشامل، بدءاً من القضية العربية(المركزية)، وتدشينها رسمياً في مصر وسورية، ثم تسرّبها وتسريبها، بأشكال كثيرة، إلى بقية الأوضاع العربية.. فإن مرحلة جديدة تماماً تمّ ولوجها من قبل النظام الرسمي العربي(بكل تلاوينه)، عنوانها(في مجالنا هذا) : القبول بالتسوية السياسية علناً، وتلخيصها القرار/242/ . أي : التخلي رسمياً عن فلسطين التاريخية، وتركيز كل الجهود، والتحالفات، والتحركات(بما فيها حرب أكتوبر) على هدف استعادة ما احتلّ العام 1967، ولا مانع من التطبيع والتمييع، ولا مانع من التفريط بأجزاء مما يسمى فلسطين الدولة التي يُفترض أن تقوم في الضفة والقطاع .
انهيار الوضع العربي، ومعه تراجع موقع وفعالية الحركات القومية(آخذين بالاعتبار كل ما وجّه للثورة الفلسطينية وفصائلها من حروب الضغط والاحتواء والتصفية والتركيع والتكييف والتليين..وصولاً  لأوسلو) إلى درجة أن أصبحت المناداة بتحرير فلسطين نوعاً من الشعر والأماني الرومنسية السابحة في الذكريات، أو في طيّات مستقبل لا بدّ من الإصرار على بقائه مفتوحاً أمام الأجيال القادمة وما تحمله الأعوام من متغيّرات وتطورات . وهذا ما شكّل واحداً من إشكالياتها المتولدة التي تختلف فيه وحوله حتى داخل الفصيل، والشخص الواحد، والذي كثيراً ما يتجلى بازدواجية في الخطاب المعلن والداخلي . خطاب القوى الرسمية، وأحاديث المجالس الخاصة، وأحاديث الذكريات .
ـ الواقع الذي يفقأ العيون، والذي يشير إلى ابتعاد مهمة التحرير إلى أجل غير منظور.. تفرض على مجمل القوى القومية التعاطي الخجل مع بدائل مربكة، مرتبكة تقع بين حبل الأمنيات بالعودة إلى الشعارات السابقة(حتى لو تعلّقت بقشّة خطابات أحمدي نجاد ووعوده الغريبة عن المحق والسحق والمحو والإزالة ـ أو تجليات بعض الأحلام عند هذا وذاك)، وبين المعروض .
ـ المعروض بحد ذاته، والذي بات عرضة للانقسام والتأويلات، يقع تحت شعار عام تردده الألسن ووسائل الإعلام، والمهتمين به ملايين المرات : دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع(وتتماتها في القدس عاصمة لها ـ عودة اللاجئين المصابة بزكام الاختلاف والتمييع)، تكون هي فلسطين التعويض، وفلسطين (نهاية الصراع) ..
ـ بعض القوميين العرب (الذين يوافقون على مضض ـ من منطلقات واقعية) يحاولون التأكيد على أن دولة فلسطين العتيدة.. هي محطة على طريق طويل . طريق الصراع المفتوح(بكل السبل والأشكال) مع الصهيونية وكيانها.. وصولاً إلى نهاياته الحاسمة : دحر المشروع الصهيوني عبر إيجاد حلول جذرية لوجود وطبيعة هذا الكيان ..
ـ وبعض القوميين العرب يرفضون التسليم بالأمر الواقع، فنراهم متمسكين بالقديم، حتى لو كانوا قلة، وبلا تأثير في مجريات الأحداث.. وبأمل أن يحمل الأفق(أفقاً ما) معطيات جديدة تخلّ بميزان القوى الراهن، وتزلزل أرض العرب بانتفاضات جديدة تشتلع نظم الارتهان، والتنازل، والاستسلام، وتفتح الطريق كي يأخذ هذا الصراع التاريخي مداه الطبيعي.. على طريق الحسم الجدي ..
ـ الأكيد، ورغم أكوام الأخطاء، والهزائم.. وما نتج عن ذلك من بوار وفوات وتراجعات، وتنازلات.. فإن صراعاً مصيرياً من مستوى الصراع العربي ـ الصهيوني.. سيبقى مفتوحاً حتى حسمه بطريقة طبيعية، لأنه من المستحيل أن يغلق قسرياً، ورغماً عن إرادة الشعوب، ومعاني الحق، والعدل . ناهيك على أن المشروع الصهيوني عدواني بأصله، سرطاني بتكوينه ولا يمكنه أن يستمر إلا في بيئة تناسبه . بيئة إخضاع العرب وتقسيمهم، وسرقة أراضيهم وثرواتهم ..
                                                                                       جلال / عقاب يحيى 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق