الخميس، 11 مارس 2010

إلى كلّ أحرار الحركة الطلاّبيّة،



بسم الله الرحمان الرحيم


أوراق الزنزانة (2)

(ورقة رابعة)*


سوسة/القطر التّونسي في:

16 ربيع الأوّل 1432
المُوافق لـ: 2 مارس 2010   
 إلى كلّ أحرار الحركة الطلاّبيّة،
إلى السّجناء، وعلى رأسهم طلبة منّوبة
إلى المُلاحَقِن قضائيًّا، وعلى رأسهم طلبة سوسة
إلى المطرودين والمحرومين من الترسيم
على خلفيّة نشاطهم السّياسي والنّقابي
 "سُبْحَانَكَ كُلّ الأشياءِ رَضِيتُ سِوَى الذلِّ
وأن يُوضَعَ قَلْبِي في قَفَصٍ في بَيْتِ السُّلْطانْ
وقَنَعتُ يَكُونُ نَصِيِبي في الدُّنيا كَنَصِيبِ الطّيْرِ
ولَكِن سُبْحَانَكَ حَتّى الطّيرُ لها أوطانْ
وتَعُودُ إليها، وأنا مازِلتُ أطيرُ
فهذا الوَطنُ المُمتَدُّ من البحرِ إلى البَحرِ
سُجُونٌ مُتلاصِقَةٌ، سَجّانٌ يُمسِكُ سَجّانْ"
مظفّر النّواب                                             

أُغمِضُ عينَيَّ.. فأرَى بيتًا صغيرًا دافِئًا.. فيهِ أمّي تجهَرُ بالفَرحَةِ في أغنية هادئةٍ من زمن الطفولة.. فيه أبي تختلط دموع الشكر على شفتيْهِ بآياتِ دُعائِهِ.. فيه إشراقة ابتسامةٍ أعْشَقُهَا لحبيبةٍ ستُنجِبُ لي يومًا ما طفلاً.. سأُلقِّنُهُ القُرآن وأسماء الشُّهداء مع أوّل حرفٍ سيَحْبُو على لِسَانِهِ الصّغِير؛
أرَى بيتًا صغيرًا دافِئًا.. يَتَوسّطُ حديقةً، هي جَنَّتِي الصّغِيرة، سأغرسُ فيها بيدَيَّ من كلّ فاكهةٍ شجرة وسأُطلِقُ فيها من كلّ حيوانٍ أليفٍ دابّةً وسأترُكُها مُطلقَةً دون أسْوَارٍ؛ فما نفعُ جَنَّتي بثِمَارِها وظِلالِها إن لم أُشارك فِيها جِيرانِي الطّيّبِينَ.. َلن أسْمَح للقُطريَّةِ أن تتسَلّّلَ إلى حُلْمي البريء..

أفتحُ عينَيَّ.. فتصْعَقُنِي الظّلمةُ.. ليْسَ بيْتي الصّغير الدّافِئ سوى زنزانةٍ ضيِّقَةٍ يُفَتِّتُني فيها الصّقِيعُ، يَلُوحُ من وراء قُضبانِها وجْهُ أمِّي المرصُوص وسْطَ آلافِ الوُجُوهِ الحَزِينَةِ لأمّهاتِ الرّفاق.. وأبِي المُتَوَاري خَلْفَ آلافِ الآباء، تَخْتَلِطُ دُمُوعُ القَهرِ على شَفتيْهِ بالصّمْتِ الحارقِ.. وغُروبُ الفَرحَةِ في قلْبِ حَبيبةٍ كُتِبَ عليْها الإنتِظارُ كما كُتِبَ على حبيباتِ آلافِ الرِّفَاقِ من قَبْلِها ومِن بَعْدِها.. وابني المَنشُودُ يجري بقَدميْهِ الحَافِيَتَيْنِ على جَمْر اليُتْم مع آلافِ الأطفال المنشُودينَ لآلافِ الرّفاق، لا صَوتَ له كي يَجهَرَ بالقُرْآن أو بأسماء الشُّهداء، فقد أخْرَسَهُ الخَوفُ من المجهول..
ليسَتْ جَنَّتِي الصّغِيرةُ  سِوى جحيمًا قُطْرِيًّا، لا تجْنِي يدي من ثِمارٍ فيهِ غير زقُّوم القمع الذي زرعَتْهُ أيادي مُغتصبي الأرض العربيّةِ، ولا يَرتَعُ فيه إلاّ ما أطْلَقَتْ من كلاب أنظمتِها المَسعُورة؛
جحيمٌ قُطْريٌّ حولهُ أسوارٌ وحُدُودٌ وجُدرانٌ عازلةٌ..
ربّاه ماذا فعلت هذه الأنظمة السجّانةُ بحُلْمي البريء؟!!
ربّاه ماذا أفعل الآن وهو يتبخّرُ أمامي بَسْمَةً بَسْمَة؟
هل أُغمِضُ عينيَّ كي أستَرْجِعَهُ؟
أُغمِضُ عينيَّ عن المُجرمينَ وما يَقتَرِفُونَ؟ أُغمِضُ عينيَّ عن "تعطيلهم لحُريّةِ عمَل" شَعْبِي من أجْلِ وحدَتِهِ ورخائِه؟ أُغمِضُ عينيَّ عن "افتِكَاكِهم لأرضي بالقوّة"؟ أُغمِضُ عينيَّ عن "السّلب والنّهب الواقع من طرَف عصَابة" من الأنظمة الرّجعيّة لثرواتِ الأمّةِ؟ أُغمِضُ عينيَّ عن مصّهم لدماء الأحياء، وسَمْسَرتِهم بدِماء الشّهداء؟
آسف.. لقد وُلِدتُ مُصابًا بالبَصَرِ المُزمنِ في زمن ذرّ الرّماد على العيون.. وقدري أن أُواجهِ ظُلمةَ ظُلمهم بِعَينَينِ مفتوحتيْنِ.. كيف لي أن أحترف غضّ الطّرف والتّغاضي وأنا ابن أمّةٍ أنجبت عمر المختار و جمال عبد النّاصر وصدّام حسين وصالح بن يوسف، أنا واحدٌ من هؤلاء الأبناء البَرَرَة للحركة الطلاّبيّة في القُطر التونسي، الذين قَبَعوا ويقْبعونَ وعلى استعدادٍ لأن يَقبَعوا في غَيَابَاتِ السُّجُونِ ثَبَاتًا على المبادِئ.
فإذا كان النّظام/السجّان التُونسي يَعْتَقِدُ أنَّهُ بالمُحاكمات الجائرة ومجالس التأديب التّعسّفيّة وتحريك القضايَا الرّاكِدة، سَيُرهِبُنَا ويُركِّعُنَا ليُثْنِينَا عن المُطَالبةِ بحُقُوق هَذا الشّعب وفضح المُتَآمِرينَ على تارِيخِهِ ومُستَقبَلِهِ، فهُو واهِمٌ. وإن كان بِذلِكَ يَعْتَقِدُ أنَّهُ سَيَسملُ أعيُننَا فلا نَتَفطَّنُ إلى محاولتهِ بهذا الأسلوب الغبيّ (وهو أقصى مظاهر ذكائهِ) استِدراج الحركة الطلاّبيّة إلى التحرّك وِفْقَ برنامج يكونُ هو من وضَعَ سيناريوهاتِه مُسبقًا فتَنصرفَ الحَرَكةُ عن  قضياها القِطَاعيّة والقُطرِيّة والقَوميّة والأُمَمِيّة،
لِتَنْحَصِرَ كلّ جُهُودها في المُطَالبةِ بإطلاق سراح أو إعادة ترسيم نشطائِها فإنّا لَهُ بِالمِرصَادْ.
ولِيُوَفّر هذا النِّظَام/السجَّان على نَفسِهِ عَنَاءَ التَّهدِيد والوَعِيد، فهُو لم يَترُك لنَا شَيْئًا نَخسَرُهُ أو نَخافُ عليهِ، ولِيُهَيّئ لنا مُُتَّكَئًا في أركَانِ سُجونِهِ و حَدِيثًا في ألْسِنَةِ سِيَاطِهِ..
ولِيَنْظُرْ بَعْدَ ذلِكَ ماذا صَنَعَ بِجِيلٍ أجْبَرَهُ على خزن النّقمةِ وكَتْم الحِقدِ، جِيلٍ مَحْشُوٍّ بالقَهْرِ ومَغْلُولٌ بالصّمتِ.. جِيلٌ تحْتَ الضّغطِ "سيَتَكَلّم"..
ولِيتناثر بَيتِي الصّغِير الدّافِئ بِمَن فِيهِ أشْلاءً، لكن سَتُنْسَفُ مَعَهُ حِينَها كُلّ السُّجُونِ والقُضبَانِ والحَواجِزِ والجُدرانِ العَازِلَةِ التّي تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ.
ولسَوْفَ يُشادُ على الأنقَاضِ يومًا مَا بَيْتٌ، ستُغَنِّي فيهِ أُمٌّ، ويُشْفَى صَدْرُ أبٍ، وتُشْرِقَ ابتِسَامَةُ حبِيبَةٍ، ويَحْفَظَ طِفْلٌ آيَاتَ القُرْآنِ وأسْمَاءَ الشُّهَدَاءِ.
أحمد شاكر بن ضية
عربي من تونس
(يتبع إن شاء الله)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق