الخميس، 11 مارس 2010

أقسم أن أمي كانت أكثر حرية وتحررا من نساء اليوم


كلمات في "العيد" العالمي للمرأة..
جلال / عقاب يحيى
   وُلدت أمي في الربع الأخير من القرن الماضي(1924)، كانت شبه أميّة(تحفظ جزءاً من القرآن الكريم وبعض السيّر). تزوجت والدي وهي لم تبلغ الرابعة عشرة من عمرها، وأنجبت ما يقرب من دستة أولاد (صبيان وبنات).. وكانت عشق والدي حتى وفاته المبكرة، المفاجئة ..
    ربما زعل منها، ربما غضب، والموضوعات كثيرة في عالم المزارعين، وسنوات الخير والقحط، والبيت المفتوح، والمتطلبات الكثيرة لعائلة كبيرة تسيطر فيها طبيعة الفلاح الطيّب، الكريم ، وتصرفاته الأريحية التي لا مكان للحسابات واللدغ فيها تفتح المجال لعديد المشاحنات والتفاعلات المألوفة بين الزوجين . لكنني لا أذكر مرة واحدة أنه ضربها(أدّبها)، أو أهانها أمامنا، أو منعها من ممارسة دورها، أو حجبها وحجّبها عن ممارسة ذاتها في تلك المساحة المفتوحة التي لا تعرف إلا حدود القيّم، والشرف، والكرامة، رغم حجم المناقرات والتنقيرات التي كانت تشكّل ملح أيامنا، وليالينا الطويلة الفارغة من وسائل الترفيه، ورغم ثقل المتطلبات، والإنهاك ..
    ورغم أن أمي كانت مُستنزفة تماماً في عمل بيتي لا يرحم، إضافة إلى حياة المزارعين القاسية، المليئة بالأشغال التي لا تتوقف أو تنتهي، والتي يصعب حصرها، وهي تواصل عملها من الفجر حتى العشاء، وأكثر.. إلا أنها كانت سيدة البيت، سيدة قراراتها، صاحبة شخصية واضحة تمارسها دون كلفة، أو غضاضة، لها حيّز مستقل لا يستطيع أحد أن يزاحمها فيه، أو يضطهدها(كان شأن الأغلبية هكذا) في مجتمع فلاحي متنوّر، مفتوح، حرّ، وطيّب، ومعطاء، ووسط استعداد للتغيير نحو الأفضل، واستقبال بوارق الشعارات الكبيرة عن (العالم الجديد) القادم على أكفّ، ومن أفواه شباب متعلم ..
    ورغم كمّ الحزن(التارخي) المُتوارث، واستجلاب البكاء بالاستماع إلى الأغاني العراقية(خاصة حضيري أبو عزيز).. حين كانت نسوة الحي تجتمع في موعد محدد أمام مذياع (عمي أبورزق) في نوبة بكاء لا تنقطع، والتي يصعب على أحد أن يفسر عواملها المباشرة، وأسبابها عند كل واحدة من تلك الأمهات والنسوة .. رغم ذلك .. كانت السماء إذا ما جادت مطراً تفتح طاقاتها للفرح والأمل، فتنام العيون على أحلام كبيرة في موسم جيّد يملأ البيت وفرة ويفيض..ولم تكن مجتمعات الاستهلاك المستوردة ـ المتوحشة المفتوحة الأشداق قد غزتنا واستلبتنا، وشقلبتنا.. فعرفنا معاني" القناعة كنز لا يفنى" ولو بالإرغام، واعتدنا الكفاية بالموجود، والتعويض بتلك العلاقات الأسرية الحميمية التي يظللها الحب والتضامن، رغم كمّ التنوّع، والشجار الصبياني، والأحلام المستقلة ..
عندما انخرطنا في السياسة مُيكراً، وعملت في اتحاد الطلاب منذ بدايات(انقلاب ـ" ثورة" آذار التي يصادف قيامها نفس يوم عيد المرأة) كنا مهمومين كثيراً بثقل المهام والشعارات الكبيرة التي تملأ فمنا، وعقولنا، وسماءنا، وترزح على صدورنا عبئاً ثقيلاً يصل النهارات المليئة بالاجتماعات بليالي النقاش الطويلة، والأحلام المرهقة عن صورة الغد العربي الذي نحمل (قدره)، ونتشرّف بصناعته (المجتمع العربي الاشتراكي الموحّد)، وقد تصورنا أننا (بجرّة قلم) سنمحو التخلف، والعادات القديمة،  وصورة المجتمع (المرفوض من قبل الثوريين ـ دعاة التغيير الشامل) لاستبداله بالجديد، اللامع، الحديث، التقدمي، المتحرر من رواسب القيود والركود ..
وكانت المرأة، وشعار تحررها، و"مساواتها بالرجل" تنتصب طوداً بارزاً في خطابنا، وندواتنا، وشعاراتنا، وحتى صراخنا المُعاد، واجتماعاتنا الكثيرة .. كانت الشعارات كبيرة، كثيرة، حفظناها غيباً، ورددناها آلاف المرات دون أن تكون لدينا تصورات تفصيلية عن المضامين، وعن كيفية هبوط تلك التصورات إلى الأرض لتصبح واقعاً مُعاشاً، حين تتساوى المرأة بالرجل، وإذ بها صنوه، وقد تتقدّمه. وعندما أخذنا بالقراءة المعمّقة، خاصة دراسة وقراءة الفكر الماركسي، أمسكنا، أو اعتقدنا أننا أمسكنا بتلابيب المشكل والحل(فلا حرية وتحرر للمرأة دون تحررها الاقتصادي)، فأكثرنا المناداة والتركيز على هذا البعد الجوهري، واندفعنا في رسم تصوراتنا، وتقدمنا عبر خط سيرورة العمل النقابي واتساعه، ودخول المرأة ميدانه بشكل متزايد.. فاستبشرنا غداً آخر نقبر فيه الجهل والتخلف، ونحطم القيود، والسدود، ثم أدركنا أن المشكل أكبر، وأعمق، وأشمل : إنه مشكل كلي يرتبط بتغيير كامل . تغيير منهّج قائم على أسس واعية، وعبر دراسات وافية، واستشراف واضح، وَمَرْحلة الأهداف والمهام  بحيث تأتي حرية المرأة تحصيل حاصل، وليس كعملية قيصرية، أو جبرية، اغتصابية، مفروضة بقوة السلطة وأجهزتها الأمنية والإدارية، أو من خلال أكوام الشعارات والخطابات والاجتماعات المكررة ..
لن أتناول هنا الفجوات، والسلبيات، والمزاودات والاستعراضات، ولا الاستغلال، وخيانة الهدف، وبدء عملية التقلص، فالتملّص، فالتخلص من جوهر المبادئ والالتزام، والانتماء.. إلى مواقع أخرى تصبح فيها القضية مجرد مركوب تماوجي للوصول إلى المصالح الخاصة، حتى وإن كانت فجوراً صُراحاً، وخيانة شاملة للمبادئ، ونحراً لها في (سوق المتعة) والنهب، والاكتناز، والفجور ..لأننا اكتشفنا، بالوعي والتجربة، أن حرية المرأة ليست أقوالاً وشعارات للتصدير والتصدّر، بل هي كينونة متسقة ترتبط بسيرورة وصيرورة التقدّم، والمجتمع ككل . إذ يستحيل في ظلّ قوانين ذكورية، وسيطرة أبوية مشرشة منذ قرون وقرون، وتشريعات متخلفة، وثقافة مفوّتة، ماضوية، ظالمة مظلومة، وبنية عقلية يشرش فيها الاستبداد، والأنا الذكر، والملكية الخاصة(بمعنى التملك للمرأة)، ومفهوم الحُرمة (التركي ) .. أن تجد تلك الشعارات اللاهبة مكانها، أو أن نتمكّن من دحرجتها بكل الطرق المتاحة .. ولعل ضحك أمي(المنتمية إلينا عاطفياً، والمدفوعة مع اندفاعاتنا الشابّة) من كلامنا الكبير عن حرية المرأة يعكس حالنا أيامذاك(قبل عصر الفوات والنكوص والشقلبة) ..وما زالت تردد المثل الفلاحي ((عيش يا كديش تا يجيك الحشيش )) كأنها كانت تقرأ سفر الأيام القادمة، وانقلاب(الرفاق) إلى كومة نفاق، وإخفاق .
ولأن يوم المرأة العالمي يقترن ب"ثورة آذار".. كانت الاحتفالية التقليدية الرسمية تطغى، فيضطر "الاتحاد النسائي" للتعويض في (عيد الأم)، وبعض الاحتفائيات المحدودة التي يغلب فيها التمجيد لليوم(العظيم) الذي(أوصل البعث) للحكم، فينسى كثيرنا ذلك المعنى الرمزي الذي كرسته الحركة الثورية يوماً للمرأة للوقفة والتذكير، وشحذ الهمم والمراجعة، فانحشر واختنق في الاحتفالات الصاخبة ب"ثورة البعث" ..
فشلنا في تحرير المجتمع، وبالتالي : تحرير المرأة من قيود راسفة، وكانت ذروة الفشل أننا لم نقترب من الأساس، والأساس يبدأ بالممكن، والممكن : إقامة منظومة قانونية، وتشريعية تحمي المرأة، وتفتح الطريق إلى الهدف، حتى لو كانت وسيطة، وسطية، انتقالية(رغم بعض القوانين والتقدمات هنا وهناك)، وبالتالي ظلت الشعارات عالية، مرتجفة، بعيدة عن التجسيد .
                                                      ***
عندما تمّ تدشين عصر الارتداد، كان ذلك يعني أن القوى الحاكمة(صاحبة الشعارات والمشاريع التقدمية) وصلت سقفها وهي تحاول نطاح الواقع بتلك الأسلحة التجريبية، المترددة، الوجلة، والمتصدّعة، وبتطورات عديد شرائحها النافذة ـ الحاكمة فعلياً نحو مواقع أخرى تغادر فيها أصولها ومبررات انتمائها، ومضامين المبادئ والشعارات( الحفاظ على الصدى والأشكال ضروري للتمرير والتغرير والاستمرار)، حتى إذا ما كان عدوان حزيران المبيّت كاشفاً، وهزيمة شاملة.. نكصت، وتكوّرت في جحورها الجديدة لبدء عملية التراجع النهشي، وقضم ما تحقق واستبداله بمزيد الصراخ والتبرير، والتغرير، وإطلاق العنان لمهادنة(أعداء الأمس : التخلف وقواه وتجسيداته وثقافته ومنظوماته) لتكون بديلاً، وارتكازاً للديمومة : طالما أن الهدف الأوحد : استمرار الحكم، واستمرار التحكم، والنهب، والإفساد.. وتجويف كل شيء، وصباغته بألوان مناسبة والتكويع، والتغليف، وطالما أن الكلام الجميل يسيل لعاب المغشي عليهم، بينما وتيرة التجسيد في ميادين أخرى مناقضة .
الأكيد أن تقدّماً حصل في عدد المتعلمات، والموظفات، وأن عديد النساء انخرطن بالشأن العام(المعلب والمرتب)، وعضوية مجالس الشعب الصورية، وبعض مواقع المسؤولية (وزارة وسفارة، وحتى عاملات في الشرطة والجيش.. وغير ذلك).. لكن الأكيد أكثر أن أمي التي لم تكن سياسية محترفة، والتي انشدّت إلى السياسة تعاطفاً معنا، وعرفت دروب السجن إلى تدمر والمزة وصيدنايا، وإلى الاجتجاج أمام القصر الجمهوري، وتولي ما يشبه محطة الإذاعة لنساء ورجال الحي.. أكيد أنها كانت أكثر حرية وتحرراً من نساء هذه الأيام، وأقلّ هموماً (رغم ما حمّلناها من أثقال خارقة) . فقد طحنت مجتمعات الاستهلاك الطبقة الوسطى، والشخصية المستقلة، وتلك الفسحة من الأمل والفرج والفرح.. حين زجّت قسراً بالمواطن في أتون حاجات مفتوحة الأشداق لا ترحم وقتاً، ولا جسداً، فتعددت عمليات الاستلاب والتشييء والتشيؤ، وتنوّعت أشكال تهميش واضطهاد واستغلال المرأة وتكويرها، والمرأة تدفع ثمناً باهظاً، خصوصاً المرأة العاملة التي صار عليها أن تُستنزف في البيت والعمل، والبحث عن مصادر أخرى لتلبية الحاجات، وتأمين الحد الأدنى لنمط حياتي لا يرحم، ويرغم الجميع على دخول السباق فيه . ناهيك عن الفساد المنظم، وهتك الكرامة، والحقوق في العمل، والمجتمع، وناهيك عن كمّ التحرّش، والمظالم، والاحتقار، وصدى الواقع في كثرة الطلاق، والنساء العازبات، والفتيات الأمهات، والفتيات العوانس، وصعود الأمية الحقيقية في الريف والمدينة .
    من جهة أخرى فإن انتعاش، وهيصة علاقات ما قبل قومي، ونخصّ منها : ما يعرف ب"الصحوة الإسلامية"، وبعودة علاقات القبيلة، والطائفة، والمنطقة، والحارة، والعائلة، والتحليل والتحريم، والمنع والزجر(لا نتحدث هنا عن آفات التحرش الجنسي، والاغتصاب، والإدمان على المخدرات والدعارة، والعهر متعدد الأشكال) في إطار اختناق المشروع النهضوي، وإعلان انتحاره على الملأ.. أدى إلى تراجع محسوس في حرية وتحرر المرأة، وإلى بروز ذكورية مجلببة بنوع من قدسية دينية، وأمنية، واستبدادية تدفع بالمجتمع نحو الخلف، وذكورية ردّ فعل على واقع مفوّت، منخور، كثير التفاوت والظلم والفرض والقسر لتصبح المرأة أول دريئة للرجل يصوّب إليها بعض احتقانه المنفجر.
إن عودة علاقات ما قبل قومي، وانتعاش السلفية الفكرية، والدينية، والماضوية، وإن كانت تجد تفسيرها، وعناوينها في فشل المشروع القومي ـ النهضوي، وفي ردّ فعل مفهوم على موبقات، وآثام من حكموا باسم ذلك المشروع، ومن مرّغوا الشعارات في وحول قذاراتهم، ومستنقع ممارساتهم، وكهوف خزائنهم وثرواتهم المنهوبة، وكنوع من حماية ضد التغوّل الأمني، والفتك بإنسانية الإنسان.. فإن هذه العودة حملت معها إرثها التخلفي(كأنه صنوها)، والكثير من ردود الفعل المتشنجة، المتعصبة ، وكأن الدين والطوائف ونظام الملل والنحل مقترن بالذكورية، وبعودة المرأة إلى سجن الحُرمة، ومقترن أكثر بالجهل والتخلف، ونكران تطور البشر، وما وصلت إليه الحضارة من مستويات .
ثم كيف لرجل مقيّد، مسلوب الإرادة، والحرية، والقرار، والكرامة، والدور.. أن يكون في موقع المانح، أو القادر على العمل لتحرر المرأة، والتنازل عن جزء من مملكته الاستبدادية، وما يعتبره ملكية خاصة (مشروعة) وهو بحاجة إلى من يعتقه ويحرره ؟؟..
كيف لمجتمع أن ينصف المرأة، ويرتقي بها إلى مصاف الحقوق المتساوية وهو يرسف بأغلال الاستبداد، والظلم، والتخلف، والماضوية المفوّتة، القشرية، وهو مقطّع الأوصال، مهمّش، مفكك، محروم من أبسط الحقوق ؟؟ ..
حرية المرأة صيرورة، وصيرورة مجتمعية متكاملة، متسقة في إطار مشروع نهضوي شامل، وهذا لن يتوفّر في ظل الظروف، والشروط، والقوانين، والنظم، والمعرفيات السائدة.. ولا بدّ من نهوض، بل إنهاض مشروع حداثي متكامل ينقل مجتمعاتنا إلى  مواقع أخرى تغادر فيها سراديب التغوّل، والخوف، والرجعة.. لتستقبل العصر حركة فاعلة فيه، وليس في طيّاته، وظلاله .
وإذا كان التقليد توجيه التحية للمرأة العربية في العيد العالمي للمرأة.. فإن التحية الحقيقية تكون عندما تستطيع القوى الحيوية في الأمة النهوض من عثارها، وغيبوبتها، وأسر ماضويتها وذكرياتها وعصبوياتها لإنجاز مشروع قابل للحياة . مشروع رافعة تضع شعبنا في موقع الحركة والفعل، وتدفع نساءنا للعمل من أجل تحسين واقعهن، وانتزاع حقوقهن، كجزء من ترسانة حقوق الشعب في حياة ديمقراطية لا قيود فيها على الرأي والاعتقاد والعمل إلا ما تحدده قوانين وضعية تساوي بين الرجل والمرأة في جميع المجالات، كما تساوي بين جميع مكوّنات الأمة ومفرداتها المتنوعة ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق