الخميس، 15 أكتوبر 2009

نحو فهم للدور التركي الجديد في المنطقة..رؤية مغايرة

د.عبدالقادر محمد

تثير السياسة الخارجية الجديدة لتركيا تساؤلات الكثيرين في الأوساط العربية المختلفة عن التوجهات الجديدة للسياسة التركية على الصعيدين الداخلي والخارجي وخصوصًا مع وجود حزب العدالة والتنمية على رأس السلطة وعن أبعاد هذه التحولات وأثرها على المنطقة العربية خاصة.

يعلل وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو بأن السياسة الخارجية التركية كانت تفتقر إلى التوازن بسبب تركيزها الفائق على العلاقات مع أوروبا الغربية والولايات المتحدة إلى حد إهمال مصالح تركيا مع الدول الأخرى سيما دول الشرق الأوسط، ويرى بعض المهتمين بالشأن التركي أن قادة حزب العدالة والتنمية يحاولون التواصل مع الشرق لاستكمال علاقتهم مع الغرب وليس لاستبدالها، وأن العثمانية الجديدة تتسم بازدواجية -الوجه- هدفها الانفتاح على الغرب كما على العالم الإسلامي وبالمقدار نفسه؛ لأن للإرث الأوروبي أهمية كبيرة للعثمانيين الجدد.

أما أهداف السياسة الخارجية لتركيا وفقًا لرؤية أحمد أوغلو حسب نظريته (العمق الاستراتيجي) فتتلخص بالآتي:

1. السعي لخلق دور إقليمي أكبر لتركيا يرسي النظام في منطقة الشرق الأوسط والبلقان بأن تتحول إلى قوة عظمى إقليمية.

2. تحقيق درجة عالية من الاعتماد الاقتصادي المتبادل مع دول الجوار.

3. ضمان أمن تركيا القومي واستقرارها عبر تطوير دور أكثر فاعلية وبناء لتوفير النظام والأمن والاستقرار في النظم المحيطة بها.

4. جذب انتباه شركاء تركيا في الشمال وتحديدًا في بروكسل إلى أهمية الدور التركي وإمكانية استفادة الاتحاد الأوروبي من إمكانيات أنقرة المتعاظمة لتعزيز دور الاتحاد الأوروبي عالميًا ومن ثم فلا بد من تحول تركيا لقوة عظمى إقليمية تثير اهتمام الأوروبيين لضمها للاتحاد الأوروبي بدلاً من تركها تستجدي الانضمام للنادي الأوروبي منذ عام 1960 حتى الآن.

ولذا فإن الحراك السياسي التركي النشط يعد بنظر بعض المراقبين رسالة إلى الأوروبيين أن تركيا ضرورة لهم في الشرق الأوسط وأن أي استقرار تنشده أوروبا في المنطقة غير ممكن من دون مساعدة تركيا القادرة على التواصل مع جميع الأطراف في المنطقة وتسوية الكثير من الملفات الشائكة.

أما الوجه الآخر لهذه الرسالة فهو استفزاز أوروبا وأمريكا وابتزازهما في حال رفض المسعى التركي في الانضمام للاتحاد الأوروبي فإن ذلك سيعيد تركيا إلى ماضيها الإسلامي بما ينطوي عليه ذلك من تغذية (الأصولية) والتطرف، فهي إذن محاولة لكسب أوراق اللعبة وشكل من أشكال المناورة والضغط من أجل تحقيق المصالح التركية.

الوسائل التي تتبعها تركيا لتحقيق أهدافها:

1. اعتماد القوة الناعمة لا الخشنة في السياسة الخارجية وهي تعني علمانية أقل تشددًا في الداخل ودبلوماسية نشطة في الخارج وخاصة في المجال الحيوي لتركيا.

2. ترى تركيا أهمية التعاون الدولي وضرورة التمسك بالعامل الاقتصادي وإعطائه الأولوية في التصدي للخلافات والصراعات السياسية بمعنى تغليب المصالح الاقتصادية على الخلافات السياسية وهذا يتطلب بالضرورة تغليب الحوار في حل المشاكل.

3. تتبنى السياسة التركية إقامة علاقات متعددة الأبعاد متوازنة وجيدة مع جميع الأطراف وفي أكثر من منطقة جغرافية ومثل ذلك حسب رأي أحمد داود أوغلو "يقتضي عدم رفض أحد وعدم الطلب من أحد أن يتغير وألا نملي على أحد ما يجب فعله".

4. ضرورة تصفية الخلافات مع دول الجوار وتنمية التعاون معها.

5. أن تكون تركيا على مسافة واحدة من جميع الأطراف الإقليمية، وأن تفكك عزلتها والعداوة التأريخية بينها وبين جيرانها وصولاً إلى المشاركة في السياسة الإقليمية من موقع الفاعل المؤثر.

6. أن تتولى تركيا تسوية العديد من المشاكل في منطقة الشرق الأوسط وجنوب البحر المتوسط وصولاً إلى البلقان ومنطقة بحر قزوين.

أهداف الولايات المتحدة الأمريكية من إسناد دور إقليمي لتركيا في المنطقة هي الآتي:

بات من المعلوم أن واشنطن تسعى إلى إظهار تركيا كأنموذج لـ(الإسلام المعتدل) في الشرق الأوسط، يؤكد ذلك تصريحات بعض المسؤولين الأمريكيين، وهو ما جعل الرئيس أوباما يلقي خطابه للعالم الإسلامي من تركيا أول بلد إسلامي يزوره بعد توليه الرئاسة وهذا في حقيقته يعود ذلك إلى الاستقطاب الذي حصل بعد أحداث 11 أيلول 2001 بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي حين اكتسبت تركيا رمزية سعي بلدٍ مسلم إلى الانتساب إلى منظمة غربية ذات غالبية سكانية مسيحية أهمية على المستوى الدولي واتجهت بعدها واشنطن إلى تقديم تركيا بوصفها أنموذجًا للعالم الإسلامي، ثم من شأن استقرار تركيا وتوجهها الغربي أن يجعل منها أنموذجاً ديمقراطيًا للعالم الإسلامي كافة إلى جانب كونها عامل استقرار مؤثر في العراق وشريكًا في أفغانستان.

إن الولايات المتحدة تسعى إلى أن تؤدي تركيا دورًا مهمًا في ملفات شديدة التعقيد ومنها الملف العراقي إذ تمتلك أنقرة قدراتٍ على الحديث مع الأطراف العراقية المختلفة وخصوصًا المناهضة للاحتلال وعلى رأسها بعض فصائل المقاومة.

ثم إن واشنطن سبق وأن أعطت الضوء الأخضر لتركيا للعب مثل هذا الدور في المنطقة، ولذا فإن ثقة واشنطن بأنقرة بدأت تتزايد من خلال الصورة التي قدمتها عبر الأدوار التي اضطلعت ولا زالت تضطلع بها وخصوصًا فيما يتعلق بالقضية العراقية، فهي اليوم تحتاج إلى تركيا أكثر من أي وقت مضى لكي تؤدي دورًا في سلسلة من الأدوار وهو دور الوكيل الأمريكي في الشرق الأوسط الجديد وهذا ما يفسر كما قلنا سبب جعل أوباما تركيا محطته الأولى في زياراته الخارجية لأول بلد إسلامي وقد سبق الزيارة بأول اتصال هاتفي أجراه مع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، إذ أكد دور تركيا الواسع في العراق وأقر له بدور تركيا الإقليمي المتعاظم، لكن هذا كله مع ضبط هذا الدور بما لا يتعارض مع الثوابت الأمريكية الشرق الأوسطية.

رؤية حزب العدالة والتنمية للقضية العراقية

تأخذ دبلوماسية حزب العدالة والتنمية بعدين أساسيين في التعاطي مع الشأن العراقي وهما:

أولاً: البعد السياسي: فسياسة تركيا الخارجية تعد ناشطة جدًا مع بعض القوى العراقية(السنية) التي شجعتها على المشاركة في الانتخابات عام 2005 والانغماس في العملية السياسية الجارية في العراق، بالرغم من أن هذه الدبلوماسية لا تحظى بتأييد الكماليين الذين لا يرون أي مصلحة تركية في الانفتاح على العراق من منطلقات طائفية أو عرقية خشية أن تؤدي هذه التدخلات إلى مردودات عكسية على المصالح التركية إذا ما استغلتها الأطراف الأخرى في استخدام الورقة الكردية ودعم حزب العمال الكردستاني ضدها.

هذا ويذهب بعض المراقبين للشأن التركي إلى حد القول إن حزب العدالة والتنمية ربما يسعى لتأسيس وحدة (سنية) لمواجهة بروز (الهلال الشيعي) في المنطقة-حسب سياسته-، لذا فهو يبذل جهودًا حثيثة في تشجيع (سنة العراق) على المشاركة في العملية السياسية الحالية في الوقت الذي تعد الخلفية الإسلامية (السنية) لحزب العدالة والتنمية عاملاً مشجعًا لكثير من القوى العراقية (السنية) للتقارب والتواصل مع تركيا والقبول بتبنيها دور الوسيط في القضية العراقية والنظر إلى تركيا على أنها بمثابة (الأخ الأكبر) والناصح الذي يبدو بمظهر (الوصي) الطبيعي على مستقبل (السنة) في العراق، وهذا يشكل هاجسًا يقلق إلى حدٍ بعيد بعض أطراف القوى الوطنية المناهضة للاحتلال على خلفية الدوافع الحقيقة للدور التركي ومشروعها الإقليمي الذي تسعى إلى تسويقه في إطار الضوء الأخضر الأمريكي.

تركيا على ما يبدو، اختارت طريقا ينسجم مع نظرتها لنفسها وصورتها ودورها، واستتباعا مع مصالحها كدولة إقليمية عظمى: رأت أن تدخل المنطقة من بوابة "القيم والمبادئ والمثل" من نوع نصرة الحق والضعيف وعدم السكوت على الظلم، وعدم الخضوع للابتزاز، ورأت أن تدخل إلى المنطقة من بوابة زعامتها التاريخية لها، كيف ولا وقد ذكرت مرارا عبارات من نوع: "تركيا الكبرى" و"أحفاد بني عثمان".

من هنا تنظر بعض الأوساط العربية بإعجاب كبير إلى قرار البرلمان التركي في الأول من آذار 2003 في رفض المشاركة في الحرب على العراق وعدم الموافقة على المذكرة التي قدمتها حكومة (حزب العدالة والتنمية) برئاسة عبد الله غول تحت ضغوط أمريكية كبيرة في حينها، وعدت هذه الخطوة موقفًا يسجل لتركيا وخاصة حزب العدالة والتنمية، وحظيت بتقدير الموقف العربي لعدم المشاركة في غزو بلد مسلم عربي.

أردوغان نادم على عدم المشاركة بغزو العراق

ربما لا يعلم الكثيرون أن رئيس الوزراء التركي الحالي رجب طيب أردوغان كان من المؤيدين لمذكرة مشاركة تركيا في غزو العراق مع الولايات المتحدة الأمريكية، والرجل كان في وقتها رئيسًا للحزب خارج الحكومة، وقد أعرب عن ندمه بعدم المشاركة في أكثر من مناسبة، ففي حوار معه في محطة (( سي أن أن تورك)) في نهاية شباط 2007 قال أردوغان حرفيًا: (لقد بقينا خارج المعادلة، كنت أود أن تتم المصادقة على مذكرة الأول من آذار، أرى أن النتيجة التي انتهت إليها المذكرة ليست صائبة، يجب أن نأخذ العبرة من هذا وألا نقع في الخطأ نفسه).

إذن على ماذا يعول بعض العراقيين وماذا يرتجون من أحد النادمين على عدم المشاركة في غزو العراق؟! ينبغي أن لا ننسى أن المصالح الدولية هي التي تحكم السياسة الخارجية لأي بلد وأن تقاطع المصالح مبني بالأساس على منطق الأقوى والأضعف ومعايير الربح والخسارة.

ثانيًا: البعد الاقتصادي: يبدو الواقع الاقتصادي على الأرض حيث توجد استثمارات تركية بمليارات الدولارات في إقليم كردستان العراق يدعم الحاجة إلى تبني العثمانية الجديدة موقفًا لينًا بعد أن أصبحت تركيا الشريك التجاري الأساسي لشمال العراق.

وقد جاء الإعلان السياسي المشترك بين البلدين لتأسيس (المجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي) وتوقيع الاتفاقية خلال زيارة اردوغان الى بغداد بتأريخ 10-7-2008 في هذا السياق، هذا المجلس يتناول قضايا العلاقات الثنائية في المجالات السياسية والدبلوماسية والثقافية ومصادر المياه والأمنية والعسكرية ومجالات أخرى متعلقة بالاقتصاد والطاقة..

تركيا وإيران

يمكن النظر إلى ثنائية العلاقة بين تركيا وإيران من زاوية المشتركات بين البلدين، فالمصالح المشتركة والتهديدات الداخلية المشتركة هما من يحدد قدرًا كبيرًا من طبيعة هذه العلاقة، فعلى صعيد المصالح الاقتصادية والعلاقات التجارية بين البلدين وخاصة في مجال الغاز الطبيعي والطاقة، ومنذ تسلم حزب العدالة والتنمية مقاليد السلطة في تشرين الثاني 2002 شهدت علاقة تركيا الاقتصادية بإيران توسعًا حتى خارج إطار الاتفاقيات الكبرى في مجالي الغاز وخطوط الأنابيب وفي سنة 2006 بلغت قيمة التبادل التجاري الثنائي بين البلدين 6.7 مليار دولار أي بزيادة نسبتها 52.5% عن سنة 2005 حسب الخبراء، وتخطى التبادل التجاري المسجل سنة 2002 بواقع خمس مرات ليبلغ آنذاك 1.2 مليار دولار.

أما على صعيد التهديدات الداخلية المشتركة فكلاهما يواجه بشدة النزعة الانفصالية الكردية ولديهما الاهتمام المشترك في احتواء الحركة القومية الكردية والحؤول دون قيام دولة قومية كردية مستقلة على حدودهما.

لكن يبقى طموح إيران النووي مصدر قلق كبير لتركيا التي لا تعتبر إيران تهديدًا لكنها تدرك أن حيازة إيران للسلاح النووي قد يشكل عامل زعزعة لمنطقة الخليج والشرق الأوسط ما قد يجبر تركيا على اتخاذ تدابير مضادة لضمان أمنها، ولذلك فملف إيران النووي قد يضر بالتقارب بين البلدين ومع ذلك وحسب مراقبين فإن المسألة الكردية أكثر إلحاحًا بنظر أنقرة من المسألة النووية لأن هذا التهديد لا يزال افتراضيًا مقابل واقع النزعة الانفصالية الكردية.

لكن في النهاية فإن تركيا وإيران قطبان مؤثران في المنطقة، وهما يتجهان إلى طريق تنافس قوي يقود إلى تصادم بين المصالح، وكلما تحقق هذا الاحتمال ازدادت تركيا اقترابا من العرب، كما إن تركيا هي الدولة (السنية) التي عُقدت عليها رهانات كثيرة لخلق معادل موضوعي للثقل الإيراني وللدور المتزايد لطهران، وللهلال الشيعي الذي أطل في سماء المنطقة بعد احتلال العراق.

[1] رئيس قسم الدراسات في مركز الأمة للدراسات والتطوير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق