الثلاثاء، 24 نوفمبر 2009

ألم يأن للسفينة التونسية أن تبحر؟!



وجهان من الحياة التونسية متضادان و لا يلتقيان.
الوجه الأول :
1 ـ تونس الأولى عربيا في نسبة التدخين على إمتداد السنوات الأخيرة كلها بالرغم من الثقافة الصحية التي حولها الهدير الإعلامي إلى كل شعوب الأرض في شتى أصقاعها إلى معلوم من الحياة بالضرورة ..
بل بالرغم من تأكيد البحوث الطبية الحديثة الموثقة إلى أن سرطان الحنجرة واللثة وغيرهما ـ عافاكم الله جميعا ـ يعزى قطعا إلى التدخين .. لا بل بالرغم من أن الإنسان ـ المسلم والمسلمة ـ مسؤول عن ماله يوم القيامة مرتين : مرة من أين جاء به ومرة أين أنفقه .. هل لك في محاولة في الفهم تسعفنا بها..
2 ــ ظاهرة الأمهات العزباوات : ظاهرة تونسية قحة لحما ودما ليس لها نظير في أي دولة عربية ولا إسلامية بل ليس لها أدنى وجود فضلا عن نظير.. ظاهرة لم تزدها الأيام إلا إمتدادا. أنظر هذه الإحصائيات الرسمية من جمعية أمل للعائلة والطفل (جمعية تونسية ).
أنظر إلى الإحصائيات التي تحملها الجريدة اليومية الحكومية (الصباح في بحر هذا الأسبوع ) .. 1500 ولادة خارج عش الزوجية سنويا أي : 4 ولادات خارج دائرة الزوجية مع مطلع كل شمس .. لاتظنن أن تونس بحجم مصر أو تركيا فضلا عن الهند أو الصين ..
تونس عشرة ملايين بالكاد.. مليون كامل منهم خارج البلاد ( 85 بالمائة منهم في أوروبا ) .. واصل معنا في تفحص هذه الأرقام المخيفة حقا : 63 بالمائة من الأمهات العزباوات بين 19 و25 سنة و 29 بالمائة منهن بين 20 و 40 أي : أن الكارثة تضرب فلذات أكبادنا حيث أن 92 بالمائة منهن تحت سن الأربعين وهو بالضبط سن الزواج الجديدة بعد إرتفاع نسبة العزوبة ( وهو كذلك أرفع معدل عربي وإسلامي )..
واصل معنا نخل هذه الظاهرة المؤسفة جدا بكل المقاييس : 72بالمائة منهن في حالة بطالة كاملة أو بطالة جزئية بسبب العمل الموسمي وحالات الطرد التعسفي .. 83 بالمائة منهن مستواهن لا يتجاوز المدرسة الأساسية أي بالكاد يقرأن ويكتبن نظرا لإنحطاط المستوى التعليمي بعد رحيل رجله الذي ظل طول حياته يرصد أكبر ميزانية في الدولة لوزارة التربية القومية
فلما إنقلب عليه وزيره الأول قلب للشباب والتربية والمستقبل ظهرالمجن فظل طول حياته ( من 1987 حتى اليوم 2009 ) يرصد أكبر ميزانية في الدولة لوزارة الداخلية والفرق الأمنية المتنافسة بعضها مع بعض والضحية دوما هو المواطن المتهم بمزاولة المعارضة أو الإنتماء إلى النهضة ..
واصل رصد هذه الكارثة التي لم تعرفها تونس من قبل أبدا .. 33 بالمائة من الأمهات العزباوات أميات بالكامل ..
3 ــ إنفلونزا الخنازير .. أنظر إلى إحصائيات صحيفة الصباح شبه الرسمية: 338حالة في تونس .. 60 بالمائة منها في الوسط المدرسي من معاهد وكليات .. وفاة شابين أحدهما في المهدية والآخر في تونس العاصمة ..
إنتقل المرض من الإصابة الفردية إلى حالة الإصابات الجماعية .. وقع غلق مؤسستين تابعتين للبعثة الفرنسية حيث تكتظ العدوى .. تؤكد بعض المصادر أن إنتشار إنفلونزا الخنازير في تونس بدأت من هذا الوكر للبعثة الفرنسية التعليمية في تونس!!!
4 ــ تواصل الهجمة الأمنية القاسية ضد الصحافة والإعلاميين وأبرز الأمثلة : توفيق بن بريك مباشرة بعد الفراغ من الإنتخابات.. وزر الرجل الوحيد وذنبه الذي لا يغتفر هو نقده للرئيس ( نقد وصف بأنه حاد ).. وما الغريب في أن ينقد مثقف رئيس دولته بقلمه!!
هل ضبط زعيما لعصابة مفسدين أو إرهابيين أومتآمرا على أمن الدولة أو متخابرا مع دولة أجنبية!! ماذا يصنع المثقف التونسي بثقافته!! هل يدفن شهائده الجامعية وخبراته الفكرية الطويلة لأجل إرضاء رئيس الدولة!! أليس ذلك هو عمل المثقفين والسياسيين والإعلاميين في الدول التي لا نريد منها أن تلقننا دروسا في الديمقراطية!!
الوجه الثاني :
1 ــ أحد المعارضين البارزين وسجين سياسي سابق هو المهندس علي لعريض في حوار معجريدة العرب القطرية ( 19 نوفمبر 09).. قضى الرجل زهرة شبابه في السجن الإنفرادي ( 13 عاما كاملة ) إنتقاما وتنكيلا وتشفيا..
دخل السجن وهو ينادي بالديمقراطية والحريات والعدالة الإجتماعية ثم خرج بعد محاولة فاشلة ويائسة لوأد أشواق الحرية فيه .. خرج من السجن بما دخل به أي إصرار على أن الديمقراطية حق للتونسيين والحرية واجب الدولة .. أنظر معنا رؤية هذاالمعارض البارز :
أ ــ " الأهم هو النظر إلى المستقبل .. مستقبل البلاد مرتبط من جهة بجهود كل القوى الوطنية وحسن ترتيبها للأولويات وهو مرتبط من جهة أخرى بالخيار الذي ستتبعه السلطة ..".
ب ـ " أركان المشروع الوطني هو ثالوث : الحرية والتنمية العادلة والهوية الحضارية ..".
ج ــ " المهم هو أن الشأن السياسي يحتكم فيه إلى الرأي ولا عصمة فيه لأي وجهة نظر بحجة العقلانية أو العلمانية أو أي فهم أحادي للدين الإسلامي .. فكرالنهضة إدماجي لا يتنكر لأي حقبة من تاريخ البلاد ..".
وجهان في الحياة التونسية لكنهما لا يلتقيان فمن المسؤول.؟
* وجه يجرالبلاد يوما بعد يوم ( ليس من باب المبالغة القول بأنه يجرها يوما بعد يوم ولكنه يفعل ذلك حقيقة لا مجازا ويكفي في ذلك ما أنف ذكره أي وجه يجرالبلاد يوما بعد يوم إلى الهاوية السحيقة حقا دون أدنى مبالغة وأي هاوية أشد سحقا من مجتمع كان قبل سنوات قليلات مثالا عربيا وإسلاميا في بنيته العمرانية الشبابية ثم هو اليوم يشيخ ويهرم ويؤول أمام أعيننا جميعا إلى الإنقراض الإجتماعي؟
لا نعتقد أن الذي يغري الأمهات العزباوات إلى ذلك هي الشهوة ولكن عندما تعلم أن الذي يرغمهن على ذلك حتى شكلن ظاهرة إجتماعية إنما هو الحاجة والفاقة ورحم الله عربا قالت في قديم الزمان : تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها .. وجه يقرض البلاد يوما بعد يوم فمن لم يمت جراء التدخين إبتلعته قوارب الموت ومن نجا من كل ذلك عاش ذليلا مهينا بين مطارق السلطة وسندانات البطالة وضغوطاتها المزرية وما تخلفه من ديون وهموم..
وجه لا مكان فيه للمثقف الحر إلا أن يكون ذيلا من ذيول السلطة يسبح بحمدها أو يلزم صومعته الفكرية وبرجه العاجي كأن لم تطأ قدماه مدرسة يوما ولا كان القلم خليله.. ذلك سجن لا يشعر به سوى المثقف الحر.. ويكفيك مثالا هذه الهجمة التي كلفت الدبلوماسية التونسية في الأسابيع الأخيرة كثيرا من لدن بعض حلفائها الأروبيين ..
* وجه آخر يعرضه علينا المهندس علي لعريض الناطق الرسمي السابق بالنيابة لحركة النهضة..
وجه يرسم مستقبلا لتونس مشرقا غير جاهز كما قال هو بحق ولكنه جاهز للتفكير فيه والتخطيط له .. وجه يجعل الحرية والديمقراطية معبرا إلى العدالة الإجتماعية التي تنقذ الأمهات العزباوات من الحزن والكآبة..
وجه ينظر إلى المستقبل لا كما تفعل السلطة التي لم تشبع بعد عقدين كاملين من الإنتقام والتشفي والتنكيل من الأحرار والإعلاميين حتى بعد أن تجردهم من أقلامهم وتحصي حركاتهم و سكناتهم.. وجه يرهن مستقبل المعارضة عامة والنهضة خاصة بمستقبل البلاد.. وجه يلتقط الرصيد الثابت من حركته وتجربتها بحلوها ومرها ..
يلتقط من ذلك فكرها الذي صمد فما أغرته حركات العنف وهي تملأ المسرح العربي والإسلامي شرقا وغربا ولو كانت حركات الثأر نافعة مجدية لماحق لغير حركة النهضة التونسية الإنخراط فيها بسبب ما نالها من حرب ضروس ضارية كادت تعصف بالتدين ذاته لولا أن الله سبحانه سلم.. إن حركة تورث فكرها للأجيال القادمة حركة يصدق عليها ما يصدق على الأفراد بعد ذهابها وذهاب رجالها أي : حي الأموات..
هذه عبرة يلتقطها أحد مؤسسي الحركة ومن صاغوها ذات يوم صياغة .. عبرة عنوانها : يسير عليك أن تضرب التنظيم وتقتل أفراده وتشرد وترجئ المشروع .. ولكن العسير عليك حقا هو : قتل الفكرة ومن قتل الفكرة التي عجزت عنها السلطة : إنحدارها نحو هاوية العنف من جهة وإحتماؤها بالعلمانية حلا من جهة أخرى أو إستبدالها لحتمية التجدد إنتقالا إلى خيار التقليد من جهة ثالثة ..
وجه يجمع بين التواضع والإلتزام.. : لعل أروع ما صرح به المهندس لعريض هو قوله : " مستقبل النهضة ومستقبل الحرية والديمقراطية ليس شيئا جاهزا سنكتشفه وإنما هو شيء نصنعه أو نبنيه".
هو رد كاف شاف ـ لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد أو تخلص من أدوائه الحزبية القاتلة ـ على من يتهم الحركة وغيرها من المعارضات بغياب البديل كأنما البديل قماطير من الوثائق والأوراق والبحوث والدراسات تصنعها مراكز متخصصة ثم تخرج بها على الناس..
ذاك تصور طفولي للبديل .. البديل في تفاصيله إنما تصنعه التجربة والمؤسسات عندما يكون كل ذلك في مناخات حرية وتنافس متكافئ.. وما هو بديل السلطة إذن؟
حملات قمع متواصلة لا أول لها ولا آخر..
أما المعارضة كل معارضة فإنما يكفيها من البديل ـ سيما معارضاتنا التي تعيش حياة الرعب والخوف ـ أسسه العامة ومرجعياته الجامعة وهو في كل الأحوال متناقض مع خيار السلطة حتى فيما يخص المعارضة العلمانية التي تتفق مع السلطة في بعض التوجهات الثقافية فما بالك بالمعارضة الإسلامية التي تختلف معها ثقافة وسياسة.
وجه يجمع بين الدين والمصلحة ضمن مرجعية إسلامية لا علمانية. : لكم أصاب المهندس لعريض كبد الحقيقة عندما سئل عن العلمانية والحاجة إليها متراسا يقي الناس شر الأصوليات الدينية..
ولكم يحتدم اللغط هنا في هذه الزاوية المهمة في تلبس الأمر عند أكثر العوام ومنهم من الحركة الإسلامية ذاتها عندما يغيب الإجتهاد والتجديد ويتمكن التقليد أو تهيمن الأمية الفكرية.. أليس ذلك هو الذي مكن لحركات الثورة والغضب والإنتقام فكان الذي كان في مشرق العرب ومغربهم..
هذه الكوة من الفكر يستخدمها العلمانيون للصد عن المشروع الإسلامي بحجة أنه كلياني شمولي ( طوطاليتاري ) يدعي العصمة وينبذ الحرية والإجتهاد والتجديد والعقلانية والإقتباس من الغير أي : دغمائية إسلامية جديدة تضاف إلى دغمائيات أصولية غربية معروفة هي التي ولدت العلمانية من رحمها كما هو معلوم في التجربة الأوروبية المعاصرة..
هذه الكوة ذاتها من الفكر يتنكب عن صراطها عبيد الماضي أصحاب شعار : ليسفي الإمكان أحسن مما كان ولم يترك الأولون للآخرين شيئا.. وذلك لتأبيد التقليد وتصديق قالة العلمانيين فينا ويقول القائل بحق : وشهد شاهد من أهلها.. عندما يغيب صوت الوسطية الإسلامية المتوازنة المعتدلة ـ سيما في تونس ـ عندها تصول للعلمانية صولات ولعبيد الماضي صولات أخرى.. والمستفيد الوحيد هو السلطة والخاسر الوحيد هو تونس والمجتمع..
فكر النهضة إدماجي.. : تعبيرة أخرى ثاقبة من تعبيرات المهندس لعريض.. فكر حركة النهضة إدماجي أي وفاقي حواري إجماعي وسطي.. ليس هناك أمامه جدار في التاريخ أو الجغرافيا يند عن الإختراق وليس هناك أمامه إما شيطان أخرس لا مجال للحوار معه أو ملك مقرب لا مجال لمنافسته ..
تلك نظرة منوية غربية الأصل.. هذا إله للنور وذاك إله للظلام.. فكر النهضة إدماجي يستضيء في القريب برواد النهضة الأوائل ممن جمعوا بين السلفية الإسلامية القحة الصحيحة ( سلفية الإتباع والإجتهادمعا) وبين الإقتباس من الغير خيره.. من مثل الأئمة عبده والأفغاني ورضا والبنا ومالك بن نبي والغزالي والقرضاوي والغنوشي ومحمد عماره وغيرهم ..
سؤال هذه الكلمة الحرة هو..
1 ــ أما آن لتونس أن يأذن أولو الأمر فيها لهذه السفينة المؤجلة المعطلة أن تنطلق لتمخر عباب التقدم متسلحة بسلاحين لا يغني أحدهما عن الآخر : سلاح الإسلام من جانب وسلاح الإجتهاد و الإقتباس من جانب آخر..؟؟
2 ــ من المسؤول عن حبس الفكر النهضوي التقدمي المستنير بمثل ما عبر عنه المهندس لعريض أن يساهم من جانبه على قدم المساواة وتكافئ الفرص في نحت صورة جديدة لتونس الجديدة.. لعلها تكون الجمهورية الثانية أو الثالثة وإن كان المنقلب على بورقيبة لم يبن جمهورية ولكن إستنسخ جمهورية بورقيبة العلمانية وسلحها بعصا غليظة أخرس بها الجريء ومن دونه سواء بسواء..؟؟
3 ــ من المسؤول عن تهرم المجتمع التونسي وشيخوخته وأطلق العنان بسياساته الإجتماعية العوراء الرعناء لظواهر مخيفة جدا تنهشه..؟؟ ليس هذا حسابا سياسيا ولكنه حساب تونسي قح .. من المسؤول عن فرجتنا الباردة .. نتفرج على بناتنا ينخرطن في الأمهات العزباوات .. ما هو المنظور من تونسي يولد من سفاح بسبب أن أمه همشتها سياسات الحكومة وعضها الجوع بنابه الغليظ..؟؟
ألسنا نؤسس لتونس مخيفة موحشة لا مكان فيها للرحمة .. ؟؟لا بل نؤسس لتونس يقطنها الأشباح بعد أن ينقرض التونسي..
أما آن لأولي الألباب أن يعوا هذه الحقيقة المرة : تونس إذا ما تواصلت فيها السياسية العمرانية الحالية فإنها تستحيل بعد عقود قصيرة مقبرة جرداء تعوي فيها الذئاب .. ؟؟
إذا كان ذلك كذلك فإنه لامجال للتنصل من المسؤولية من أي تونسي أو تونسية وليكن بعد ذلك إسلاميا أوشيوعيا أو وفاقيا أو صداميا .. (المصدر: موقع الحوار.نت (ألمانيا) بتاريخ 23 نوفمبر 2009) www.alhiwar.net

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق