الثلاثاء، 24 نوفمبر 2009

من مفارقات الزمن الفلسطيني الرديء


كتب : عريب الرنتاوي

تواجه حماس مع فصائل المقاومة وأذرعتها العسكرية في غزة، ما سبق لفتح أن واجهته مع حماس وكتائب القسام، لكأنه كُتِبَ على الفصيلين الفلسطينيين الكبيرين أن يشربا من الكأس المرة ذاتها.
والمتتبع لـ"حوار الصواريخ" الدائر الآن بين وزير الداخلية في الحكومة المقالة والناطقين باسمها من جهة، والمتحدثين الكثر باسم الفصائل والأذرع والأجنحة والكتائب من جهة ثانية، يستذكر على الفور، حوارا مماثلا جرى في أزمنة أخرى، ومن مواقع مختلفة، يومها كانت حماس تتحدث عن "المقاومة غير المشروطة" فيما فتح والناطقين باسمها يفضلون إخضاع المقاومة لحسابات السياسة، يومها كانت حماس تسخر من فكرة الإجماع حول المقاومة، واليوم تسخر الفصائل (الجهاد على سبيل المثال) من الفكرة ذاتها وإن جرت على ألسنة قادة حماس، يومها أشهرت فتح سيف "المصلحة الوطنية العليا" و"حاجة الشعب لالتقاط الأنفاس" من دون أن تقنع حماس بقبول هذا المنطق أو الرضوخ له، اليوم تستل حماس سيوف فتح القديمة وأوراقها، فيما الفصائل الأخرى تنظر بعين الشك والريبة (والاستهجان) إلى مواقف الحركة وحكومتها المقالة ووزارة داخليتها.
من مفارقات الزمن الفلسطيني وسخرياته، أن فتح عجزت في السابق عن إقناع بعض أجنحتها وأذرعتها العسكرية بقبول جنوحها للتهدئة، خرجت كتائب الأقصى، وبتشجيع من حماس وحلفائها الفلسطينيين والإقليميين، عن الخط العام لحركة فتح، اليوم تخرج كتائب القسام ذاتها، وتعبر على لسان النطاق باسمها (أبو يحي على ما أظن) عن رفضها جمع السلاح وتسليمه أو الالتزام بما قيل ويقال عن هدنات وتجميد إطلاق صواريخ وغيرها.
وليت المفارقات والسخريات تقف عند هذا الحد (نصف المصيبة)، فشر البلية يأبى إلا أن يضحكنا، حتى في هذا المقام، والفصائل التي "تتمول" من صناديق الحكومة ورئيس الوزراء، وتتساوق مع نهج السلطة السياسي القائم على نظرية "المفاوضات حياة"، ولا تبدي ما يتخطى النقد الخجول المتردد (بالمفرق) لمواقف السلطة والحكومة والمنظمة، وتلتزم صمت القبور فيما خص المقاومة في الضفة أو ضد مستوطناتها، ويرتدي قادتها في رام الله أفخر البدلات والقمصات المنشّاة بإحكام،هذه الفصائل بالذات، تتبنى في قطاع غزة، نهجا "سياسيا وكفاحيا" مغايرا، يتخطى حماس و"يزاود" عليها، وقد أعلنت تباعا رفضها "تجميد إطلاق الصواريخ" وخرجت كتائبها وملثميها في استعرضات قوة في الآونة الأخيرة، لكأننا أمام وطنين وشرطين تاريخيين و"شيزوفرينيا" فصائلية، تعصى على التأويل والتفسير والعلاج.
خلاصة الأمر، أن المأزق الذي يعتصر رام الله وخيار "المفاوضات حياة" و"المدرسة العباسية" أو "الفياضية" في العمل السياسي الفلسطيني، يعتصر أيضا "الخيار المقاوم" في قطاع غزة، فالتهدئة التي ستكمل عامها الأول بعد شهر، مرشحة لأن تكون سببا في تشققات وانقسامات فصائلية داخل المعسكر الواحد في قطاع غزة، بدءا بالشرخ الشاقولي بين حماس والجهاد، والذي لم يستطع الناطقون باسم الطرفين إخفاءه، كما أن أسئلة الشارع الفلسطيني حول "ما تبقى من خيار التفاوض وعملية السلام، لا توازيها من حيث حدتها وسخونتها سوى الأسئلة المتعلقة بـ"ما تبقى من خيار المقاومة".
وأسوأ ما في الأمر، أن إحساس الجانبين باشتداد المأزق لا يقربهما – كما هو الاستنتاج المنطقي – من بعضها البعض، بل يدفعها للبحث عن حلول بعيدا عن بعضها البعض، فما زلنا على ما يبدو في مرحلة "عض الأصابع" و"تجميع أوراق القوة" قبل الجنوح لخيار الحوار والمصالحة والوحدة، السلطة قفزت إلى الأمام نحو نيويورك ومجلس الأمن، مصعدة خطابها المناهض لحماس والمصمم على "شيطنتها"، وحماس في المقابل، تغذ الخطى صوب صفقة شاليط، علّها تكسبها زخما شعبيا يمكنها من ولوج عتبات الحوار بصورة أقوى أو يؤهلها لتقديم نفسها للمجتمع الدولي كجزء من الحل، بعد أن ظل ينظر إليها كجزء من المشكلة.
لا ضرر ولا اعتراض على التوجه المدروس والحكيم لمجلس الأمن والأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، الضرر والاعتراض في عدم فعل ذلك، بل ونجدها مناسبة هنا للتشديد على وجوب فتح جبهات عريضة مع الإسرائيليين في جنيف ولاهاي ونيويورك وكل ساحة ومحفل، ولا ضرر أو ضرار في إتمام صفقة شاليط، فالعبء الناجم عن أسر هذا الجندي ناءت به الجبال، وكلفة احتجازه كانت باهظة على الشعب الفلسطيني، كما أن لا ضرر ولا ضرار من التهدئة وترشيد المقاومة وتجميد الصواريخ وإخضاع كل هذا وذاك لمفهوم المصلحة العليا، وتوزين الأرباح والخسائر بميزان من ذهب، لكن الضرر كل الضرر، والاعتراض كل الاعتراض، في أن تصبح هذه التوجهات بديلا عن التوجه للحوار وطرقا التفافية لتخطي استحقاقات المصالحة والوحدة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق