الأربعاء، 14 أكتوبر 2009

رفض التوطين وحق العودة.. حق يراد به باطل

زياد منى

«لا لا، في المفاوضات مع إسرائيل نحن نستعمل موضوع حق العودة ورقة مساومة مهمة للحصول على تنازلات منها في القدس.. نحن نعلم أننا لن نتمكن من تحصيل حق عودة لأكثر من بضعة آلاف ليس غير.. قلنا لهم هذا أكثر من مرة وبأننا لن نقدم أي

تنازلات في مسألة حق العودة من دون الحصول على تنازلات في القدس. المشكلة إذًا ليست هنا، وإنما في العثور على صيغة مناسبة لتوطين الفلسطينيين في لبنان لأننا أنهينا إعدادات وترتيبات التوطين في بلاد عربية وغير عربية. لكن ثمة مشكلة في لبنان وهي أن معظم القوى السياسية هناك تنظر إلى المسألة من منظور أن الأمر يتعلق "بتوطين أكثر من ربع مليون سني، ولذا تركنا الأمر للقوى الدولية لترتيب الموضوع"، هذا ما قاله لي عضو لجنة تنفيذية في منتصف تسعينيات القرن الماضي عندما سألته عن موقف لجنته العتيدة من المسألة.

لكن ماذا يعني حق العودة؟! المادة 11 من قرار الأمم المتحدة (A/RES/194 (III) 11 December 1948)* وغيره، تقول بصريح العبارة -والترجمة لنا عن النص الإنجليزي- (1) "(الجمعية العمومية) تقرر أن يسمح للاجئين الراغبين في العودة إلى بيوتهم والعيش بسلام أن يفعلوا ذلك في أقرب وقت ممكن وأكثره عمليًا، وكذلك بدفع تعويضات للذين يختارون عدم العودة والتعويض عن الممتلكات المفقودة أو التي أصابها العطب والتي وجب على الحكومات أو السلطات المسؤولة توفيرها، وذلك وفق القانون الدولي ووفق القانون الطبيعي. ويرشد لجنة التوفيق (الولايات المتحدة، فرنسا، تركيا) بتسهيل عملية العودة وإعادة الإسكان وإعادة تأهيل اللاجئين اقتصاديًا واجتماعيًا ودفع التعويضات والحفاظ على علاقات متينة مع مدير مساعدات الأمم المتحدة للاجئي فلسطين(2)، وعبره مع الوكالات والمؤسسات ذات العلاقة".

الطرف العربي انتهى إلى قبول اغتصاب فلسطين عبر قرارات مؤتمرات القمة المختلفة وما يسمى المبادرات العربية، مع أنه يملك خزانًا لا ينضب من العوامل التي تمكنه من تحقيق كل طموحات أمتنا وليس في فلسطين فقط

الآن، لنترك تصريح عضو اللجنة التنفيذية الآنف الذكر جانبًا ولنلتفت إلى كيفية تطبيق مبدأ رفض التوطين وحق العودة، آخذين في الاعتبار علو أصوات كثيرة في كل من الأردن ولبنان تطالب بالتمسك بهما، وماذا يعني في نظر تلك القوى.

في ظننا يمكن تطبيق مبدأ رفض التوطين وحق العودة ضمن ظرفين محددين: أولهما أن تكون المفاوضات الجارية مع إسرائيل تتم ضمن ظروف مواتية للطرف الفلسطيني أو العربي، أي أن إسرائيل هزمت عسكريًا وأجبرت على الدخول في مفاوضات وعليها بالتالي تقديم "تنازلات" ومن ضمنها القبول بعودة أهل فلسطين إلى ديارهم. لكن الواقع عكس ذلك لأن من يقدم التنازلات -بالقطعة وبالجملة- هو الطرف العربي الفلسطيني بدءًا من مؤتمر القمة الذي عقد في الخرطوم عقب هزيمة عام 1967 الذي أطلق اللاءات الثلاث الشهيرة "لا اعتراف، لا صلح، لا تفاوض".

وحتى لو وضعنا قرارات هذا المؤتمر جانبًا، والذي هاجمه رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وقتها الراحل أحمد الشقيري، فإن الطرف الفلسطيني هو من يقدم التنازلات، واحدًا تلو الآخر، عندما قبل باغتصاب فلسطين بتبنيه مشروع النقاط العشر "تأسيس سلطة وطنية فلسطينية مقاتلة (ونفاثة!) على أي جزء من فلسطين يتم تحريره أو ينسحب منه العدو". هذا القبول المبدئي باغتصاب فلسطين والرضوخ لمبدأ التفاوض على حدود الدولة الصهيونية فقط، يعني أن الطرف الأضعف هو العربي/الفلسطيني، ومن يقبل التنازل عن حبة تراب من وطنه على استعداد للتنازل عن الوطن كله.

والطرف العربي نفسه انتهى إلى قبول اغتصاب فلسطين عبر قرارات مؤتمرات القمة المختلفة وما يسمى المبادرات العربية..إلخ، مع أنه يملك خزانًا لا ينضب من العوامل التي تمكنه من تحقيق كل طموحات أمتنا العربية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية..إلخ، وليس في فلسطين فقط.

إذاً.. الطرف العربي بحاله الراهن وحتى في المستقبل المنظور غير قادر على فرض أي شروط على إسرائيل، ناهيك عن الرغبة في ذلك أو حتى التفكير في الأمر.

الظرف الثاني الذي يمكن تحقيق مبدأ منع التوطين وحق العودة في ظله هو تحرير فلسطين.. فقط عندما يتم تحرير فلسطين وتفكيك الدولة الصهيونية العنصرية وتأسيس دولة فلسطينية ديمقراطية علمانية في مكانها، تتوافر الظروف الموضوعية لتطبيق المبدأ حيث سيكون بإمكان كل فلسطيني العودة إلى وطنه.

رغم هذه الحقائق البدهية التي يعرفها كل إنسان، يلاحظ المرء تعالي أصوات عديدة في كل من الأردن ولبنان تطالب بمنع التوطين وحق عودة "اللاجئين" الفلسطينيين إلى بلادهم، ومع اتفاقنا الكامل مع هذه الدعوات فإنه من غير الممكن إطلاقًا أخذها بمعناها الظاهري والاطمئنان إلى البراءة التي تزعمها.

من غير الممكن فهم مطالب رموز النظام الأردني بتطبيق مبدأ رفض التوطين والتمسك بحق العودة للفلسطينيين إلا كونها جزءًا من حملة تحريض عنصرية ضد الفلسطينيين ودعوة لترحيلهم من الأردن

لنأخذ الأردن حيث تعلو فيه أصوات قوى يسارية ويسارية تائبة ويسارية مرتدة ويسارية "عقلانية" ويسارية متعقلنة، ومتهبلنة.. جنبًا إلى جنب مع النظام الأردني نفسه تطالب بالتمسك بمبدأ رفض التوطين وحق العودة، وهو أمر يدعو إلى العجب. فكيف يطالب رموز النظام الأردني بتطبيق مبدأ رفض التوطين والتمسك بحق العودة للفلسطينيين في الوقت الذي اعترف فيه بالدولة الصهيونية ويقيم معها أوثق العلاقات على مختلف الأصعدة، السياسية والثقافية والاستخباراتية والعسكرية والاقتصادية!!

وفي غياب شرح تلك القوى كيفية تطبيق المبدأ وموقفها من الصراع العربي الصهيوني، من غير الممكن فهم تلك الدعوات إلا كونها جزءًا من حملة تحريض عنصرية ضد الفلسطينيين ودعوة لترحيلهم من الأردن، ولن تؤدي إلا إلى إشعال نيران حرب أهلية هناك!

كيف يمكن فهم الدعوة إلى "رفض التوطين وحق العودة" لمواطني ذلك البلد حيث يشكل الفلسطينيين معظم سكانه والقسم الأعظم من كوادره الاقتصادية والسياسية والثقافية..إلخ؟

نحن مع تحرير فلسطين واستبدال الدولة الفلسطينية الديمقراطية العلمانية لكل مواطنيها بالكيان الإسرائيلي العنصري، ولا ندعو إطلاقًا إلى تأسيس وطن بديل في "عبر الأردن" ولا في غيره، وإن نؤمن إيمانًا تامًا بأن "بلاد العُربِ أوطاني.." وبأن فلسطين أرض عربية وشعبها جزء من الأمة العربية، ومهمة تحريرها واسترداد حقوقنا فيها تقع على عاتق كل العرب، وبأن حصتي في بلادي العربية ليست أكبر من حصة أي عربي في فلسطين، وحتى في مدينتي القدس.

لنلتفت قليلاً إلى الوراء لنبحث الأسس التي تشكل عليها "النظام العربي" الحالي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ولنفهم سبب خلق النظام الأردني من الأساس.

من المعروف لأي باحث في التاريخ -والوثائق ذات الصلة متوافرة- أنه عندما قرر الغرب تأسيس دولة يهودية في فلسطين وأناط ببريطانيا مهمة التنفيذ وفق صك الانتداب (وعد بلفور)، قسم ونستون تشرتشل فلسطين التاريخية إلى "فلسطين-دولة يهودية" و"عبر الأردن" التي هي الوطن الفلسطيني البديل، ولكن تحت مسمى آخر، ولذلك ترك أمر إدارة الدولة "للقرشيين" الوافدين من الحجاز ولا علاقة لهم بـ"عبر الأردن" ولا بفلسطين ولا بسوريا ولا بأي شبر من بلاد الشام.

النظام الأردني هو من قبل ممارسة دور الوطن البديل، وعمل على تكريس التوطين ومنع حق العودة من خلال كونه قلعة حماية إسرائيل ومنع أي عمل معادٍ لها. لقد مارس النظام الأردني دوره الذي أقيم من أجله أصلاً في هذه المؤامرة على فلسطين وعمل على طمس الشخصية الفلسطينية وحتى اسم فلسطين وحاول مسحه من التاريخ والجغرافيا عبر الحديث عن "العائلة الأردنية الواحدة" و"الأردن بضفتيه الشرقية والغربية" ومارس ما أمكنه من عنصرية ضد الفلسطينيين عبر ممارسات خبيثة لا نهاية لها ومنها التمييز في التابعية من خلال منح جوازات سفر "وفق المادة الأولى" لساكني "الضفة الشرقية" ووفق المادة التاسعة لساكني "الضفة الغربية".

لكن مع ذلك، ومع أن "فلسطينيي الأردن" تحولوا إلى رعايا أردنيين وحاملي جواز سفر تلك الدولة، فإنهم رفضوا التوطين وتمسكوا بحقوقهم في وطنهم الأم من خلال الانخراط الكامل والوفي في حركة التحرر عندما توافرت الإمكانيات العملية.

إذًا، ما دام النظام الأردني قد وقع اتفاق سلام مع إسرائيل واعترف بها من دون شروط، وتنازل حتى عن قسم من أراضيه وأجرها لها، ويقيم معها أوثق "العلاقات الأخوية الحميمة"، فماذا يمكن أن يعني رفع تلك القوى الشريرة شعار رفض التوطين وحق العودة غير التحريض على الفلسطينيين والدعوة إلى تجريدهم من حقوقهم مقدمة لارتكاب المجازر بحقهم.

وعندما نلتفت إلى لبنان علينا طرح السؤال ذاته على القوى اللبنانية التي تتحدث عن "رفض التوطين وحق العودة" لفلسطينيي لبنان، هل هي حقًا مع تحرير فلسطين؟! أي، هل هي مع حق عودة اللاجئين الفلسطينيين في سوريا و"قطاع غزة" و"الضفة الغربية" ومخيمات الأردن "البقعة، شنللر، الوحدات، الأشرفية.. إلخ، وكل فلسطينيي الشتات إلى بلادهم بعد التحرير، أم أنها لا تمانع في توطين الفلسطينيين، لكن ليس في لبنان.. بكلمات أخرى، هل تطالب تلك القوى بتهجير "فلسطينيي لبنان؟

هل القوى اللبنانية الرافضة للتوطين مع تحرير فلسطين حقا!! ومع حق عودة اللاجئين الفلسطينيين من الشتات إلى بلادهم بعد التحرير، أم أنها لا تمانع في توطين الفلسطينيين، لكن ليس في لبنان؟!

كيف يمكن الجمع بين رفض التوطين وحق العودة من جهة، والاعتراف باغتصاب فلسطين والتحالف العلني والخفي مع إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية؟! ما مفهوم رفض التوطين وحق العودة؟ هذه أسئلة مهمة وجب طرحها حتى نعرف أبعاد تلك الدعوات، وما إذا كانت بريئة أو غير ذلك.

لكننا في الوقت نفسه من غير الممكن تجاهل طرح السؤال ذاته على القوى التي تقول إنها ترفض التوطين وتتمسك بحق العودة: ما سياستها بالخصوص؟ هل هي مع تحرير فلسطين؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل الطريق إلى منع التوطين يمر عبر التحالف الوثيق مع الولايات المتحدة والغرب، أم عبر المقاومة وخوض حرب تحرير!!

لا بد لنا من الإعراب عن قناعتنا بأن مطالبة البعض في لبنان برفض التوطين لا تعني سوى تهجير الفلسطينيين وتوطينهم في خارجه، أي أن بعض تلك القوى -المذهبية المتخلفة والسياسية المتواطئة معها على نحو أو آخر- لا تمانع في توطين الفلسطينيين في كندا أو أستراليا أو حتى في الجحيم، لأن الدافع ليس حب فلسطين والهيام بحقوق شعبها وإنما نظرة طائفية مذهبية ضيقة لن تؤدي إلا إلى المزيد من التحريض على أهلنا هناك.

ولا بد من ملاحظة أن بعض القوى اللبنانية المذهبية والطائفية تحاول جعل "فلسطينيي لبنان" ورقة ضغط طائفية ومذهبية في صراعاتها الداخلية والتلويح بقدرة مزعومة على تغيير التوازن الطائفي الحالي.

رفض التوطين والتمسك بحق العودة يبدأ من منح الفلسطينيين في كل أمكنة تواجدهم كافة حقوقهم كبشر مما يحررهم على نحو كامل من كل الضغوط المادية والمعنوية، ويفتح المجال أمامهم للانخراط في عملية التحرر والتحرير، وهذا ما أثبتته التجربة التاريخية المعاصرة. أما التضييق على الفلسطينيين فهدفه واضح وهو إجبارهم على الهجرة والاستزلام لقوى طائفية متخلفة أو التقوقع في فكر انعزالي.

القول برفض التوطين والتمسك بحق العودة من دون شرح السياسة ذات العلاقة، نفاق وتضليل واضح وكلام حق يراد به باطل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق