الأحد، 11 أكتوبر 2009

البصرة والأبعاد الإستراتيجية للإحتلالين الأمريكي والإيراني

بقلم الاستاذ كامل العبيدي

البصرة أول حاضرة عربية بناها المسلمون، بنيت على يد القائد العربي المسلم عتبة بن غزوان بأمر من الخليفة العادل الفاروق (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه، فكانت من أهم مدن المسلمين وثغورهم، وأغزر منابع العلم والفقه واللغة، حتى أن أختها بغداد التي بنيت في صدر العصر العباسي على يد الخليفة (أبي جعفر المنصور) وأصبحت عاصمة للخلافة العباسية التي حكمت أكبر إمبراطورية الإسلامية على وجه الأرض، لم تستطع أن تأخذ من البصرة مكانها وبريقها ودورها في رفد الحضارة العربية الإسلامية، حتى أن كبار القوم وأمراءهم كانوا يرسلون أبناءهم لتعلم العلوم واللغة في مدارس البصرة ليعدوهم لتبوء المناصب المهمة في الدولة العربية الإسلامية ويكفي البصرة فخراً أنها أول مدرسة للغة العربية وضعت فيها قواعدها وأصولها والتي منها نشأت وتفرعت وتوسعت باقي مدارس اللغة، فلا عجب أن يأتي أئمة اللغة العربية من البصريين في أعلى مراتب اللغويين، وهل يمكن لناطق بالعربية أن ينسى (أبا الأسود الدؤلي) وهو أول من رسم للناس النحو واللغة وكان من أعلم الناس بكلام العرب، وهل ينسى (سيبويه والخليل بن احمد الفراهيدي وابن جنيّ ويحيى الحضرمي والأخفش الكبير والأصمعي) ولا نريد أن نزيد لنحرف الموضوع من السياسة إلى الأدب، إلا أن موضوع البصرة من الأهمية ما يستوجب أن نضعها في مكانتها التاريخية لأنها احد أهم أسباب استهدافها فبالإضافة إلى موقعها العلمي والحضاري فإن البصرة ثغر وميناء من أهم موانئ العرب والمسلمين تطل على الخليج العربي وهي ملتقى رافدي العراق الخالدين دجلة والفرات حيث يشكلان في توحدهما في مصب واحد شط العرب، والبصرة مدينة البساتين والنخيل فهي اكبر واحة للنخيل في العالم وحاضنة أجود أنواع التمر على الإطلاق، والبصرة مدينة المساجد فهي تضم بين جنباتها أكثر من مائتي مسجد وجامع تعبر عن تمسك أهلها الأصلاء بالدين الحنيف، كما تضم البصرة تحت ثراها وبين ظهرانيها رفات عدد من كبار الصحابة والقرابة والتابعين وأئمة الفقه وقادة المسلمين وفي مقدمتهم (الزبير بن العوام وطلحة بين عبيد الله وأنس بن مالك والحسن البصري وابن سيرين وغيرهم).

وبعد كل هذا فلا غرابة أن يفتح الغزو الأمريكي البريطاني باكورة عملياتها العدوانية بالبصرة ليتخذها مضربا إلى باقي الأهداف داخل الساحة العراقية. لكن البصرة شهدت باعتراف الكثير من الخبراء العسكريين على قلة الحشد العسكري العراقي الذي توفر لها، شهدت أشرس مقاومة لقوات الغزو على أمد عشرين يوماً قبل سقوطها، وقبل الاستغراق في مناقشة جوانب الموضوع المختلفة لابد من تثبيت حقيقة مهمة نسيها أو تناساها أو أغفلها بقصد أو دون قصد الكثير من الذين يتحدثون عن الشأن العراقي وعن الجنوب العراقي بالتحديد والذين اعتادوا تحت وطأة طوفان الطائفية التي فرضتها أجندة الاحتلال الأمريكي والإيراني، اعتادوا على تسميته بالجنوب الشيعي، بينما الحقيقة أن البصرة إن لم نقل أنها مدينة ذات غالبية سنية أصلاً فعلى الأقل هي مدينة متوازنة في مكوناتها من السنة والشيعة مع اقلية من النصارى والصابئة وهذا ما جعل رياح التطهير الطائفي الهادفة إلى تغيير ديموغرافية المدينة تضرب البصرة قبل غيرها من مدن العراق.

لقد تعرض أبناء البصرة الأصليين في هذه المدينة التي تعد أكبر مدينة عراقية بعد بغداد والتي تمتلك أكبر مورود حضاري وتاريخي عربي وإسلامي وتتربع على أكبر خزين للنفط في العالم إضافة لثروات الزراعة والمياه وهي ميناء العراق وقاعدته البحرية الوحيدة، تعرض أبناؤها قبل غيرهم من أبناء العراق لمخطط تصفية العناصر والقوى الوطنية الرافضة للاحتلال تحت شعار اجتثاث البعث ومحاربة الصداميين والتكفيريين، وقد نال السنة العرب فيها النصيب الأكبر من عمليات التصفية الجسدية والاعتقال والتهجير التي طالت ما لا يقل عن نصف مليون مواطن كان من بينهم عدد غير قليل من الشيعة العرب الأصلاء، لقد استهدف مخطط التطهير الطائفي الذي فرضته الاجندة الإيرانية وعصاباتها بموافقة الاحتلال البريطاني الأمريكي وتشجيعه وفق خطة منسقة اشتركت فيها قوات الاحتلال وعصابات والنظام الإيراني ولملوم القوات الطائفية التي سميت حكومية، استهدف تغيير التركيبة الطائفية للمدينة التي لم يكن عدد سكانها من السنة يقل عن مليون مواطن تربطهم أقوى أواصر القرابة والمصاهرة والدم والتاريخ المشترك مع إخوانهم وأبناء عمومتهم من الشيعة العرب، ولا غرابة في أن يكون حجم الاستهداف لهذه المدينة كبيرا ومبكراً فإن كل الأطراف التي ضلعت في مخطط التطهير العرقي والطائفي في العراق تدرك أن أهدافها في الجنوب لا يمكن أن تلقى أي نجاح دون أن تضمن سلخ البصرة من هويتها العربية وتاريخها الناصع وتغيير ديموغرافيتها.

إن عدداً قليلاً من الناس وعلى وجه الخصوص من المحللين السياسيين والعسكريين المهتمين بالشأن العراقي يعلمون أن المقاومة المسلحة للاحتلال في البصرة بدأت قبل أن تبدأ في باقي محافظات ومناطق العراق، فماذا حل بها وإلى أين انتهت هذه المقاومة؟.. سؤال جدير بالاهتمام والتحليل. وللإجابة على هذا السؤال لابد من الإشارة إلى أن محافظة البصرة التي يقرب عدد سكانها من الثلاثة ملايين تقع في أقصى الجنوب من العراق وتشترك في الحدود مع ثلاث دول هي السعودية والكويت وإيران وتشكل الجزء الوحيد من العراق المطل على مياه الخليج العربي، تعتبر منطقة مطوقة من ثلاثة اتجاهات من قوى لا تؤيد المقاومة، بل إن اثنين منها تدخل في خندق العداء للمقاومة العراقية وهي دونما مواربة (إيران والكويت) وإذا أخذنا بنظر الاعتبار التركيبة السكانية المحاذية لشمال البصرة والتي كانت بفعل عوامل كثيرة فرضت عليها، أقرب إلى الانسياق مع الأجندة الإيرانية الأمريكية البريطانية المعادية للمقاومة العراقية، فسوف نتوصل إلى حقيقة جلية تتلخص في كون العناصر والقوى الوطنية التي كانت تتمتع بروحية عالية وإرادة على مقاومة الاحتلال والتي كانت ونقولها كحقيقة تاريخية نتوخى فيها الأمانة لا تقتصر على أبناء المدينة من السنة وحدهم وإنما انخرط فيها من الشيعة وربما شاركهم هذا التوجه الصابئة والمسيحيون، نقول إن هذه القوى أصبحت بحكم هذا الجوار منقطعة عن أي امتداد لها مع شقيقتها المقاومة التي نشأت في مدن وسط وشمال وشرق وغرب العراق، الأمر الذي مكن الأجندة الإيرانية التي تسربت إلى الداخل العراقي بسرعة قياسية مع تسرب عملائها القادمين مع الاحتلال الأمريكي البريطاني والذين أطلقت عليهم صفة العراقيين زوراً، ومعظمهم ممن تم تأهيلهم عسكرياً وأيديولوجياً لفترة طويلة داخل إيران من تعبئة كل القوى المعادية للمقاومة العراقية وزجها لإسناد قوات الاحتلال الأمريكي البريطاني في البصرة في عمليات تدمير المقاومة، وسرعان ما اشترك الجميع دونما اتفاق مسبق على الإجهاض عليها بسرعة قياسية أيضاً، وذلك من خلال استهداف رموزها كأسبقية أولى تحت شعارات كثيرة ملأت الشارع العراقي فور احتلال العراق ومنها (اجتثاث البعثيين والصداميين) ثم مطاردة المواطنين العرب والمسلمين الذين دخلوا العراق قبل الاحتلال وخلاله بهدف مقاتلة قوى العدوان، هذه المطاردة التي توسعت وتحولت فيما بعد إلى مفهوم محاربة القاعدة ومحاربة الإرهاب أو كما أطلق عليها دون خجل في الجنوب محاربة الوهابية، وقد جرت كل هذه العمليات بعد سلسلة من الفبركات والأعمال الإجرامية المنظمة التي قام بها الاحتلال والمخابرات الإيرانية بهدف التشويش على حقيقة المقاومة وتشويه صورتها في عيون المواطن العراقي ووسمها بالإرهاب أو التمرد أو الخروج على القانون، وبالمناسبة فإن هذا الأمر ليس غريباً ولا يحتاج إلى الإطالة في شرح أدلته وإثباتاته فهذا هو ديدن الاحتلال في كل زمان ومكان، فلكل احتلال عملاؤه وأعوانه ومريدوه، ولكل احتلال مقاومون وطنيون ورافضون، ولابد لماكنة إعلام الاحتلال وأبواق أعوانه أن تحول الاحتلال ومن هم في صفه إلى حالة مشروعة وأن تقلب المقاومة المشروعة قانوناً وأخلاقاً وأعرافاً إلى إرهاب وخروج على القانون وتمرد على السلطة.

وسط هذه الأجواء وعمليات التضليل وخلط الأوراق، استمرت جرائم تصفية الكثير من الشخصيات والقيادات والرموز الوطنية ممن اختيرت أسماؤهم بدقة من قبل المخابرات الإيرانية وفيلق القدس وكان الدور الكبير في تنفيذها مناطاً بالمليشيات والعصابات المسلحة وفرق الموت التابعة لما سمي أحزاباً وحركات سياسية، كان في مقدمة من نفذ عمليات الاغتيال والخطف والتعذيب والقتل والتهجير في عموم العراق وفي البصرة على وجه الخصوص (عصابات ما سمي بفيلق بدر وثار الله وحركة سيد الشهداء ومسلحو الحزب الذي تولى حكم المحافظة حتى تولي ما سمي بقائمة دولة القانون السلطة فيها). ولقد ارتكبت هذه الجرائم تحت سمع وبصر قوات الاحتلال البريطاني والقوات التي بدأ تشكيلها وسُميت حكومية، بل انه من المؤكد والموثق أن الكثير من هذه الجرائم نفذت من قبل القوات الحكومية التي لم تكن سوى مجموعة من المليشيات والمجرمين وأعضاء المخابرات الإيرانية وخدمها.. ولم تتدخل القوات البريطانية المسؤولة باعتبارها قوة احتلال ملزمة قانونياً وأخلاقياً وإنسانياً لحماية السكان المدنيين من بطش هذه العصابات، بل يمكن القول أنها شجعتها وقدمت لها الإسناد في كثير من المواقع التي رجحت كفة وشجاعة الوطنيين في الدفاع عن مناطقهم المستباحة.

وبالمناسبة مرة أخرى فإن التاريخ يعيد نفسه دائماً فكما سمحت القوات البريطانية التي كانت تحتل فلسطين عام 1947م و1948م للصهاينة بارتكاب الجرائم ضد الفلسطينيين وساعدتهم على هذا الفعل بل وأمدتهم بالسلاح ونزعت سلاح الفلسطينيين، فعلت ذلك في العراق وبسكان البصرة على وجه التحديد.

لم يكن ما سمي بالتيار الصدري الذي كان في بداية تشكله قد شارك في هذه الجرائم وهذه العمليات، فقد بدأ نشاطه برفع الشعارات الوطنية ومناهضة الاحتلال وشعارات الوحدة الوطنية، حتى كان العام 2005م عندما انفجر الصراع بين أتباع هذا التيار وبين ميليشياته التي عرفت بجيش المهدي من جهة وبين أتباع وميليشيا ما سمي بالمجلس الأعلى وعصابات منظمة بدر التابعة للمخابرات الإيرانية، حيث انقضت عناصر ميليشيا جيش المهدي على العديد من مقرات المجلس ومقرات بدر ومعسكراتها في الكثير من مدن وسط وجنوب العراق وأحرقتها وقتلت عدداً من أعضائها، عندها أدرك قادة المجلس الأعلى ومجرمو بدر أنهم لا قبل لهم بمنازلة أتباع التيار الصدري فاستخدموا أسلوب المكر والتقية التي يتقنونها والتي يبدو أن قيادتهم الإيرانية قد نصحتهم بها وهي الانحناء للعاصفة والتظاهر بالود والتصالح مع هذا التيار وإقناعه بضرورة التوحد لمواجهة الخطر المحدق (بالمذهب) – هذه النغمة التي يعزفون عليها باستمرار كلما سحبت الجماهير الشيعية تأييدها لهم – هذا الخطر المتمثل كما صوروه في أعدائهم من الصداميين والتكفيريين والقاعدة وربما أضافوا إليهم في كثير من الأحيان ودونما خجل واستحياء خطر الطائفة من المذهب الآخر.

وتحت شعار نصرة المذهب، ولكون قيادة التيار الصدري لم تكن تمتلك القاعدة الفكرية والسياسية التي تمكنها من التحليل العميق والتوصل إلى الاستنتاجات الصحيحة ولم تكن تمتلك الخبرة العملية في ممارسة العمل السياسي على الأرض، وبفعل تأثير المرجعية الدينية السياسية في إيران، استدرج التيار الصدري بسهولة وتم زجه في مخطط التصدي للمقاومة العراقية والاشتراك في جرائم التطهير العرقي، وعمل جنباً إلى جنب مع عصابات بدر وغيرها من المنظمات التابعة لفيلق قدس الإيراني في تنفيذ مخطط التصفية والتطهير الطائفي. حتى إذا جاء مطلع العام 2006م وفَّرت الجهات المشبوهة ذاتها بتفجير المرقدين في سامراء المبرر الكافي لانزلاق التيار الصدري في المخطط الذي رسمه له المجلس الأعلى بتوجيه من المخابرات الإيرانية، ومع وجود التطرف الطائفي والمراهقة لدى الكثير ممن انضموا إليه والاستعداد النفسي لارتكاب الجريمة شرب جيش المهدي من كأس دماء العراقيين الأبرياء من الطائفة المستهدفة حتى الثمالة.

إن ما جرى حينها وما ارتكب من جرائم يقدم الإجابة على التساؤل المشروع حول من له مصلحة في تفجيرات سامراء وبالتالي من يقف وراء الأيدي المنفذة لهذه التفجيرات ومن هو المخطط الحصيف لمثل هذه الجريمة المركبة؛ ثم ما لبثت القوى المخططة أن ألقت وعلى الفور مسؤولية هذا العمل على تنظيم القاعدة رجماً بالغيب واستثماراً للحالة إلى أقصاها ودون انتظار نتائج التحقيق التي لاشك أن المساس بالمسئولين عن هذا العمل خطاً أحمر منع ظهورها حتى هذه الساعة، مع وجود الكثير من المؤشرات والحقائق التي تدلل على عكس ما أشيع وقتها.

ووسط الدعوة إلى الانتقام والثأر للمرقدين، ودعوة مبطنة من بعض المراجع الدينية للتعبير عن الاحتجاج السلمي وشجب التفجير عن طريق المظاهرات المليونية (هذا المصطلح الخرافي) وتحت حجة ردود الفعل العفوية، والتي أثبتت الحقائق والحوادث أنها قد خطط لها بعناية وقد هيئت أدواتها قبل وقوع التفجير، اندفعت مليشيا جيش المهدي أينما وجدت في العراق وفي بغداد والبصرة على وجه الخصوص حيث الكثافة المطلوبة للطائفة المستهدفة، اندفعت وقد اختلط واختفى في صفوفها مجرموا بدر والعصابات الأخرى التابعة لباقي الأحزاب ذات المنشأ الإيراني لتحرق الأخضر واليابس وتقضي بأبشع أساليب وأدوات الجريمة على عشرات الألوف من الأبرياء دونما تمييز بين كبير وصغير وامرأة ورجل وكانت الهوية المذهبية للطرف الآخر كافية للحكم بالموت، وهكذا تم تدمير المساجد والجوامع وقتل الأئمة والمؤذنين والمصلين بالجملة واستهدف العلماء والأساتذة وضباط الجيش العراقي الأصيل (السابق) وشيوخ العشائر الشرفاء والأطباء والمهندسون وكان مجرموا بدر يتقدمون جيش المهدي مشكلين البوصلة التي توجهه نحو الهدف.. ولقد استثمر إعلام المجلس الأعلى والأطراف المتعاونة معه والموجودة في السلطة وحزب الدعوة كل ما جرى في الساحة العراقية في إعطاء تصور كامل بأن كل ما يجري من جرائم هو من فعل جيش المهدي واعتقد قادة جيش المهدي أن ذلك يعد إشادة بهم ومفخرة لهم، ثم بدأ مسلسل الجثث مجهولة الهوية وبدأ الطب العدلي وغير العدلي يستلم معدلات عالية منها يومياً وصل في بعض الأيام إلى (ألف جثة)، وبدأت أوسع حملة للتطهير الطائفي شهدها العراق خلال تأريخه الطويل اشتملت على القتل والخطف والاعتقال والتعذيب والتمثيل بالجثث والتهجير داخل العراق وخارجه، وكان (الدريل) المثقب الكهربائي والمناشير المختلفة وكانت قوات الاحتلال وقوات الحكومة تقف موقف المتفرج عندما تكون الغلبةُ لأجندة عملاء إيران على المواطنين في مناطقهم، لكنها كانت تتدخل بقوة وبقسوة عندما يبدي المواطنون بطولة وثباتاً في الدفاع عن أنفسهم وأعراضهم والدفاع عن مناطقهم فتسارع لإسناد عصابات الإجرام باستخدام القوات البرية والطائرات، وعملت على تجريد الكثير من المناطق من الأسلحة الشخصية المستخدمة للدفاع عن النفس، لتسهل لهذه العصابات مهاجمة السكان، كما قامت باعتقال عشرات الألوف من الشباب وتصفية القسم الأكبر منهم الذين أصبحوا ضمن واقع الجثث مجهولة الهوية، وما يزال القسم الآخر يرزح حتى الآن تحت الظلم والتعذيب والانتهاك في معتقلات الحكومة ومعتقلات قوات الاحتلال.

وهنا يبرز التساؤل المهم، لماذا لم تقم قوات الاحتلال الأمريكي والبريطاني خاصة في بغداد والبصرة وما جاورهما بواجبها وفق القوانين والمعاهدات الدولية وواجبها الأخلاقي كقوات محتلة في توفير الأمن والحماية للسكان المدنيين؟!. ربما يقول قائل إن هذه القوات لم يكن بمقدورها ولا ضمن إمكاناتها توفير هذه الحماية.

ثم نتساءل أيضاً لماذا لم تقم هذه القوات بمنع التدخل والتغلغل الإيراني الرسمي وغير الرسمي في الجسد والشأن العراقي؟! ومرة أخرى ربما يقول قائل إن ذلك لم يكن بمقدورها كذلك.

لكن الإجابة الدقيقة والموضوعية والواقعية على هذين التساؤلين تتلخص في أن القوة رقم (1) في العالم تساندها القوات البريطانية ودعم عدد من دول حلف الناتو ودول أخرى من مخلفات الاتحاد السوفيتي وأستراليا تمتلك من الإمكانات البشرية والتسليحية والتكنولوجية ما يمكنها من الوفاء بتلك الواجبات والالتزامات القانونية والأخلاقية فيما لو أرادت. غير أن الجرائم التي قامت بها عصابات الأجندة الإيرانية في العراق وعصابات الأحزاب والحركات الموالية لإيران كانت جميعها تصب في نفس الاتجاه والهدف الذي عملت عليه إدارة العدوان الأمريكي والبريطاني وهو بكل دقة وتحديد، إضعاف العراق وتحطيم دولته وتفتيت شعبه وإلغاء هويته العربية، وخلق البيئة والظروف الموضوعية التي يصبح فيها أمر تقسيم العراق إلى دويلات طائفية وعرقية ليس أمراً مقبولاً وحسب وإنما أمراً مطلوباً وحلاً لابد منه للخروج من كارثة العراق في ظل الاحتلال وسعياً وراء أمن دمره الاحتلال وأعوانه.

وهكذا عملت الأجندة الإيرانية وعملاؤها داخل العراق بموازاة قوات الاحتلال الأمريكي والبريطاني على تحقيق هذا الهدف رغم الخلاف الأيديولوجي الظاهري بين الطرفين.

ولقد اكتشفت إدارة العدوان الأمريكي هذه الحقيقة بوقت مبكر وعملت على تكريسها خاصة بعد أن أيقنت أنها بكل قواتها لن تتمكن من قهر المقاومة العراقية وأن خسائرها ستكون أكبر لو أنها واجهت هذه المقاومة منفردة، وعلى هذا الأساس لم يكن لديها أي مانع من دخول الأخطبوط الإيراني وأذرعه في العراق معها في خندق واحد ضد المقاومة وضد الصوت العربي الوطني في العراق الرافض للاحتلال، وكان الجانبان الأمريكي والإيراني يدركان جيداً أن هذا المنهج سوف يحقق لهما أهدافاً عدة حتى وإن اتفقت بعض الأهداف واختلفت الأخرى في طبيعتها، وهنا يكمن التساؤل الكبير حول التناقض في الشعارات بين الإدارة الأمريكية بشكل عام وإدارة بوش خصوصاً وبين النظام الإيراني، فبينما تصنف الولايات المتحدة نظام إيران على أنه أحد أركان محور الشر وتصنفه بالإرهاب، يصنف النظام الإيراني الإدارة الأمريكية وخاصة إدارة بوش والولايات المتحدة عموماً على أنها دولة الاستكبار العالمي والشيطان الأكبر، ويشن كل طرف حملة إعلامية شعواء ضد الآخر بالإضافة إلى الأدوار التي تبدو في ظاهرها متقاطعة لكل من الطرفين فيما يتعلق بالموقف في فلسطين ولبنان وأماكن أخرى في الوطن العربي وأواسط آسيا وحتى في أفريقيا، وإن كان كل هذا يسهل للبعض التشكيك في نظرية أن هناك تلاقٍ في الأهداف بين النظام الإيراني وإدارة العدوان الأمريكي في معظم المراحل قبل وبعد احتلال العراق واحتمالية التنسيق بينهما على مستوى معين، ويبدو للوهلة الأولى أن هذا التساؤل وهذا التشكيك منطقي ومشروع مع ما يحيط الموضوع برمته من الغموض، ولكن بالإمكان القول ولغرض إزالة الالتباس.. إن التناقض في الشعارات والتصادم الإعلامي بين طرف وآخر في معترك السياسة الدولية اليوم لا يمكن الاحتكام إليه على أنه المؤشر على مبدئية توجهات ونوايا هذا الطرف أو ذاك، فالجميع يعلم أن سياسة العصر الراهن وكل القرارات التي تتعلق بها غالباً ما تتخذ في السر داخل الدهاليز والغرف المظلمة، بل إن معظم ما يعلن من حملات إعلامية يكون في الغالب تغطية للأهداف الحقيقية والتي تكون خفية لأن افتضاحها قد يشكل عوائق وعقبات كبيرة أمام إمكانية تحقيقها بالإضافة إلى أنه قد يشكل فضيحة وانكشافاً للأنظمة التي تطرح شعارات لا تتماشى مع هذه الأهداف وإنما تتعارض وتتقاطع معها بشكل كامل، كما أنه يعطي الفرصة للقوى المستهدفة لتحشيد إمكاناتها وترتيب دفاعاتها وربما هجومها المقابل على هذا الاستهداف.

وهذا ما يلاحظ على طبيعة العلاقة الحقيقية بين الإدارات الأمريكية المتعاقبة وبين النظم السياسية الإيرانية والتي تتضح أكثر مع النظام الحالي في طهران. فهل هناك من يستطيع أن يجادل في تنسيق النظام الإيراني رأس مثلث محور الشر كما تسميه الإدارة الأمريكية مع الاستكبار العالمي والشيطان الأكبر (الولايات المتحدة) كما تسميها إيران التنسيق والتعاون في غزو أفغانستان والعراق، وهل ثمة من يجادل حول الأهداف المشتركة لهذا العدوان ومدى الاستفادة من نتائجه لكلا الطرفين. ولسنا هنا بحاجة إلى تصريحات المسؤولين الأمريكيين والمسؤولين الإيرانيين حول مدى المساعدة التي قدمها كل طرف للآخر ومدى الفائدة التي قدمها كل طرف للآخر من خلال العدوان على العراق واحتلاله، غير أن من المهم القول إن تدمير العراق كان هدفاً مشتركاً للجانبين الأمريكي والإيراني وإن إخراج بغداد من دائرة القيادة والريادة في الأمة العربية والإسلامية كان هدفاً مشتركاً وإذا ما علمنا أن بغداد كانت على الدوام حامية وحاضنة لأختها البصرة، وإن البصرة كانت حصناً وسنداً لبغداد ومفتاحاً من مفاتيح سورها، فسوف نلمس بسهولة كيف أن البصرة تضيع كلما سبيت بغداد وأن بغداد تضعف عندما تسلب البصرة من حضنها.

إن ما جرى ويجري في البصرة منذ اليوم الأول لاحتلال العراق وحتى اليوم يتناغم مع ما يجري في شمال العراق وجنوبه وجنوبه الأوسط، لا بهدف إنشاء كيانات شبه مستقلة تحت شعارات الفدرالية أو اللامركزية وحسب والتي لا يشك أحدٌ في كونها مشاريع على طريق تقسيم العراق وتحويله إلى دويلات تلحق مستقبلاً بمنطقة التأثير خارج العراق، وإنما الهدف الرئيس لها هو إلغاء بغداد، نعم إلغاء بغداد عاصمةً وإلغاء بغداد مركزاً للحكم يحفظ وحدة العراق شعباً وأرضاً وإلغاء بغداد رمزاً من رموز الحضارة العربية الإٍسلامية وبؤرة من بؤر الإشعاع الفكري العربي والإسلامي، لأن أعداء العراق والأمة العربية يعلمون جيداً أن بغداد التي سحقت مؤامرة الخراسانيين والبرامكة وغيرهم إذا بقيت في موقعها فإنها قادرة على سحق مخططات الفرس ومن شاكلهم ودفنها في وحل عقولهم المريضة والمعبأة بالحقد على كل ما هو عربي ومسلم صحيح.

وإذا كان ما يجري من خطوات شمال العراق على طريق التقسيم أصبحت واقعاً بحيث أصبح كل من يتناولها يصفها بأنها حالة خاصة ولا يجرؤ على انتقادها. إلا أنها لن تكون قابلة للاكتمال والإعلان إلا بعد أن يضموا كركوك لإقليمهم الموعود وإلا بعد إعلان إقليم البصرة وانفصالها، وإذا كانت محاولات ضم كركوك إلى ما يسمى بإقليم كردستان تعتبر المقدمة لانفصال شمال العراق فإن إعلان أي إقليم في البصرة أو في الجنوب عموماً تكون عاصمته البصرة يُعد المفتاح لانفصال الشمال وتقسيم العراق.

فماذا تعني بغداد إذا خطفت رئتها البصرة وماذا تعني بغداد إذا سلبت سلة جواهرها وثرواتها البصرة، وماذا تعني بغداد إذا انشقت عنها شقيقتها في العلم والفكر والحضارة والأدب والشعر البصرة.

إن ما يجري في البصرة وإن اتخذ في كثير من الأحيان شكل صراع بين عصابات أطلقت على نفسها أحزاباً لغرض الهيمنة على البصرة بشكل خاص والجنوب بشكل عام وإخضاعه لإرادة الأجندة الإيرانية، إلا أنه صراع متعدد الاتجاهات، فمراقبة الوضع والتحركات بدقة يمكننا من تحديد عدد من التوجهات التقسيمية بدأ أولها بعد الاحتلال مباشرة ولازالت قائمة تتزعمها شخصيات من أرباب السوابق الجنائية تريد البصرة لوحدها ولكن بكل خزينها ومواردها وتطلق التصريح تلو التصريح حول إقامة إقليم البصرة وقد مدَّت خيوطها مع دولة خليجية مجاورة للبصرة لها دور أساسي في تدمير العراق وقتل بغداد، لقد بدأ عَّراب التقسيم هذا محاولته الأولى في العام الماضي بشكل رسمي وطرحها على الاستفتاء. لكن عشائر البصرة العربية الأصيلة بشيعتها وسنتها ألقمته ومشروعه حجراً ووأدته في مهده حين صوتت ضده وبهذا التصويت بكون قد صوتت لوحدة العراق ووجهت لطمة إلى مدعي السياسة شمال الوطن.

غير أن هذا المتاجر بتراب العراق قد يكرر المحاولة كما وعد أسياده الذين يدفعون الدولار أو الدينار الخليجي، وهنا يبقى الأمل معقوداً بعد الله تعالى على عشائر البصرة الأصيلة من بني تميم أو مالك والسعدون والكطران والغانم والدواسر والخوالد وبني أسد وغيرهم في إفشال أي مشروع يستهدف وحدة العراق، أما التوجه الآخر المطلوب إفشاله فهو مشابه للأول من حيث مساحة الإقليم إلا أن يوائم بين التبعية للدولة الخليجية وإيران، ثم توجه ثالث وضع في حسابه تشكيل إقليم في جنوب العراق تكون عاصمته البصرة ليضمن لها مقومات أكبر على الصمود كدولة. وتوجه آخر يريد مقومات أكبر ومساحة أكبر فقد وضع في حساباته أن يضم في دولته كل ما حاذى إيران من الوسط والجنوب فهو مستعد لأن يتنازل عن بغداد والأنبار ويتنازل عن كل ما هو شمالها ليتناوش منه ما يعجبهم دعاة إقليم الشمال.

إنه لا يريد أية علاقة مع العرب ولا حتى جواراً ويبدو أن لغته الرسمية مستقبلاً إذا نجح في مشروعه لن تكون العربية.

إن تهديد البصرة والذي هو المدخل لتهديد العراق وتقسيمه ينبعث من اتفاق الزعامات الكردية المتسلطة على رقاب الشعب العراقي في الشمال مع زعامات الأحزاب الطائفية التابعة للأجندة الإيرانية..

أخيراً فإن مشروع المقاومة العراقية والقوى المناهضة والرافضة للاحتلال بكل صوره واشكاله هو الرد على كل تحديات تدمير العراق وهو الضامن الأكيد لوحدة العراق وضمان الحفاظ على جوهرته البصرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق