الخميس، 28 يناير 2010

قسوة الطبيعة ولا شفقة الطغاة


نصر شمالي
كاتب سوري
27/01/2010
على الرغم من الهول الرهيب والقسوة العشوائية لزلزال هايتي فإنّ الإنسان ينظر إلى ما تفعله كوارث الطبيعة بعين التسليم والإذعان ومحاولة التكيّف. إنّه يدرك أنّ بدايات الحياة الإنسانية على هذا الكوكب ونهاياتها ليست في متناول إرادته، حيث عمر كوكب الأرض حوالي أربعة مليارات سنة، بينما عمر الحياة الإنسانية المجتمعية في حدود حوالي عشرة آلاف سنة فقط. ولأنّ تاريخ الحياة الإنسانية ليس أكثر من جملة في سفر تاريخ حياة الكون فإنّ الإنسان، في مواجهة أفعال الطبيعة الكونية، لا يملك سوى التسليم ومحاولة التكيّف. أمّا ما لا يحتمل ولا يطاق، وما لا يمكن التسليم والإذعان له، فهو شفقة الطغاة المرائية، الكاذبة، وأفعالهم الغادرة، التي تبدو قسوة الطبيعة أرحم منها!
إنّ أوّل ما خطر ببال الطغاة في واشنطن وهم يرون كارثة الزلزال الهائل الذي ضرب هايتي هو اهتبال الفرصة النادرة، والإسراع في وضع اليدّ على البلد المنكوب. وبالفعــــل بدأ آلاف الجنود الأمريكيين يتدفقون ويحتلّون المواقع التاهيتية الاستراتيجية ابتداءً بالمطار الدولي في العاصمة بورت أو برانس، وذلك استعداداً (لإعادة إعمار) دولة هايتي التي تبلغ مساحتها أكثر من 27 ألف كيلو متراً مربّعاً ويبلغ عدد سكانها حوالي عشرة ملايين نسمة، والمحاطة بدول مناضلة لا تكنّ لها واشنطن سوى أفظع المشاعر والنوايا!
لقد أصبح معروفاً ومعلناً، منذ احتلال العراق وإعصار تسونامي، أنّ الدمار الشامل، سواء أكان من فعل الطبيعة أم من فعل الجيوش الأمريكية/ الأطلسية، صار مطلوباً ومرغــــوباً من قبل الشركات الاحتكارية الربوية، الشايلوكية، التي تحوّلت عن العمل بأنظمة الاستعمار إلى العمل بأنظمة إعادة الإعمار. إنّ مفــهوم إعادة الإعمار هو الشكل الحديث لمفهوم الاستعمار القديم. وعندما وقعت كارثة تسونامي وصفتها كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية بأنّها: فرصة مدهشة منحتنا أسهماً مالية عظيمة! كانت رايس تتحدّث بصفتها ممثّلة للشركات قبل أن تكون ممثّلة للحكومة. وينبغي الانتباه إلى الأصل الأفريقي لرايس حتى لا نستغرب أن يغزل الرئيس أوباما على منوالها في تعامله مع كارثة هايتي.
وكانت مجموعة أطلقت على نفسها اسم (الناجون من تسونامي تايلاند) قد أعلنت ما يلي: إنّ كارثة تسونامي هي استجابة لصلوات رجال الأعمال والسياسيين، حيث أزال الإعصار تماماً جميع الإشغالات في المناطق الساحلية التي تقطنها المجتمعات المحلية، والتي كانت تعيق خططهم لإقامة المنتجعات والكازينوهات والفنادق ومزارع الجمبري. إنهم ينظرون اليوم إلى جميع المناطق الساحلية المنكوبة باعتبارها خلاءً في متناول أيديهم! غير أنّ الكارثة في هايتي لم تنظّف السواحل فقط من السكان لصالح الشركات، بل نظّفت الدولة بكاملها من المعوّقات، ابتداء بالقصر الجمهوري ومقرّات الحكومة، بحيث أصبحت هايتي جاهزة لجميع الاستخدامات، بما فيها القواعد العسكرية اللازمة للعدوان على دول أمريكا الوسطى والجنوبية!
وجدير بالذكر أنّ البيت الأبيض في عهد الرئيس جورج بوش الابن (في آب/أغسطس 2004) شكّل مكتباً وظيفته تنسيق عمليات إعادة الإعمار والاستقرار، سواء في البلدان التي ضربتها الأعاصير أو الجيوش، أم في البلدان التي سوف تضربها الجيوش كما هو مقرّر والتي ستضربها الأعاصير كما هو محتمل! وقد أعطي المكتب سلطات تخوّله وضع خطط محكمة للبلد الذي تمّ ضربه وانتهى أمره أم للبلد الذي سوف يضرب وينتهي أمره. وفي حينه صرّح كارلوس باسكيوال رئيس المكتب أنّ دائرته تستطيع التنسيق بين ثلاث عمليات إعادة إعمار كاملة في وقت واحد وفي ثلاثة بلدان مختلفة، مع الأخذ بالاعتبار أنّ كلّ عملية سوف تستمر مدّة تتراوح من خمس إلى سبع سنوات!
غير أنّ مكتب إعادة الإعمار التابع للبيت الأبيض لا يهتمّ فقط بإعادة بناء الهياكل الاستثمارية للدولة المتخلفة المنكوبة، بل يهتم بخلق دول ديمقراطية. دول موجّهة نحو اقتصاد السوق تباع فيها المشاريع المملوكة من قبل الدولة. ويتحقّق هذا بوساطة حكّام محليين أو من أصول محلية. حكّام يعيّنهم المركز الاستعماري العالمي الذي أصبح الآن يحمل اسم مركز إعادة الإعمار. وهكذا فإنّ ما أصاب هايتي من دمار شامل يؤهلها لإعادة إعمارها في جميع الميادين، بلا استثناء ومن الصفر!
لقد وصف أحدهم عملية إعادة الإعمار على النحو التالي: إنها ليست عملية إعادة إعمار بل عملية إعادة تشكيل كلّ شيء! إنّها عملية صعود أشكال مسبقة الصنع لصالح رأسمالية الكوارث العالمية، هذه الرأسمالية التي توظّف الخوف واليأس العام، الناجم عن الكوارث الحربية أو الطبيعية، لصالح إعادة تشكيل جذرية للاقتصاد والمجتمع والدولة بالصورة التي تلائم مصالحها. وهي سرعان ما تتحصّن بالخصخصة من جهة وبالاستيلاء على الأراضي من جهة أخرى قبل أن يستوعب أهل البلاد حقيقة ما أصابهم وما يراد لهم. إنّ هذا يحدث في بلاد البلقان وفي أفغانستان والعراق التي دمّرتها الحرب، ويحدث أيضاً في البلدان الآسيوية والأمريكية التي ضربتها الأعاصير، وسوف يحدث اليوم في هايتي التي ضربها الزلزال!
إنّ طغاة العالم يتظاهرون بالشفقة على الشعب الهاييتي في محنته الكارثية العظيمة، لكنّهم في الواقع يتسابقون إلى دولة هاييتي ويتزاحمون حولها من أجل الاستيلاء عليها أو تقاسمها بقضّها وقضيضها، حتى أنهم اتهموا بعضهم علناً وصراحة بذلك. لقد اجتذبتهم رائحة الدماء والموت مثلما تجتذب الوحوش الضارية نحو الفرائس الجريحة أو المحتضرة. وسرعان ما سوف يكتشف شعب هاييتي المنكوب المذهول أنّ قسوة الطبيعة على هولها أرحم من شفقة الطغاة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق