الأحد، 8 نوفمبر 2009

في الانتخابات (2) الطريق الصعب نحو التوافق الوطني

بقلم : عبد السلام بوعائشة

منذ التوقيع على وثيقة الميثاق الوطني سنة 1988 باعتبارها المدخل نحو العبور بالبلاد من زمن الحكم الآحادي إلى أزمنة التعددية والاعتراف بالآخر الوطني مرت تونس بعدة محطات سياسية و انتخابية وسط ظروف عربية وعالمية بالغة الدقة والتعقيد.تلك المحطات ساهمت في بلورة جميع الرؤى حول قضايا البلاد وانتظارات شعبها ومواقف جميع الأطراف السياسية من حدود التوافق الوطني الممكن و القادر على حمل البلاد نحو فضاءات التقدم والنجاح. ومما لا شك فيه أن تقييم المراحل المنجزة في مسار التوافق والتحول نحو النظام التعددي الديمقراطي تختلف من حزب إلى آخر ومن عائلة سياسية أو إيديولوجية إلى أخرى بحسب الموقع من السلطة أو المعارضة وبحسب انتظارات كل طرف وتقديره للممكن الديمقراطي الذي تستدعيه مصلحة البلاد وتقتضيه الأوضاع العربية والإقليمية والدولية المحيطة بالمشروع الوطني.

ما يهمّنا التركيز عليه في هذا المقام و البلاد قد مرت منذ أيام بمحطتها الخامسة للانتخابات الرئاسية والتشريعية هو الوقوف عند حجم التقدم على مسار التوافق الوطني وتحديد محطاته القادمة محتكمين في ذلك إلى حصيلة ما تحقق فعلا للشعب باعتباره جوهر الاستهداف في المشروع الوطني آخذين بعين الاعتبار الانتظارات الحزبية والسياسية لمجمل الأطراف المكونة للمشهد الوطني ٬الأطراف التي يفترض بها أن تكون رافعة لآمال وطموحات الشعب في كل ما يتوق إليه .

نتجاوز تقييمات العوام التي لا ترتقي إلى مستوى المقاربة الشمولية للموضوع

ونتجاوز بعض التقييمات التي تنطلق من حدود المصلحة القطاعية لبعض الفئات أو المصلحة الشخصية لبعض الأفراد أو المصلحة السياسية لبعض الأحزاب.

و نتجاوز التقييمات المبنية على القراءة الآنية الجامدة للشأن الوطني فنهمل مبدا المراكمة التاريخية ونغرق في جزئيات المشهد .

ونتجاوز ضغط المفاهيم الغربية للديمقراطية والتقدم والتنمية وهي مفاهيم تأسر عديد النخب وقادة الرأي العام الوطني.

ونتجاوز انتظارات قوى الهيمنة والإلحاق الاستعماري التي تنهى عن الشيء وتأتي بمثل أضعافه.

نتجاوز كل تلك المنطلقات ونلتزم في تقييمنا لمسار التوافق والتقدم نحو النظام الديمقراطي التعددي بمقاييس وطنية تستند على إدراك عاقل لتاريخ البلاد ومجمل عقود التجربة الوطنية المعاصرة وحصيلة ما أنجز على قاعدة الميثاق الوطني ومحطات العمل السياسي الانتخابي والحراك السياسي والاجتماعي الذي صاحبها ٬هذا الالتزام يقودنا إلى التأكيد على أن تونس و في ظل مبدأ الوفاق الوطني حققت استقرارا وتنمية ليست في حاجة لشهائد دولية للوقوف عند مظاهرها وتمكنت من مواجهة عواصف العولمة وبرامج التفكيك والتفتيت التي ما تزال تهدد مجمل نظام الجامعة العربية . تونس توفقت إلى مقاربة اقتصادية واجتماعية ضمنت استمرار التنمية الاقتصادية بنسب مرتفعة وحرصت على معالجة نتائجها في الأوساط الفقيرة والمعدمة كما توفقت في الاستفادة مما يوفره نظام العولمة من عناصر ومقاربات إنتاج جديدة. كل ذلك يجد صداه الموضوعي في الحياة اليومية لعامة الناس وفي التحسن الواضح لمجمل ما يتمتعون به من خدمات . هذا النجاح في المقاربة الاقتصادية والاجتماعية و ما ضمنته من مكاسب وطنية في سياق عالمي غير مناسب يحسب لسياسة الوفاق وأطرافها المختلفة بالرغم من وجود عديد الملاحظات والقراءات النقدية لمنوال التنمية المعتمد على قواعد اقتصاد السوق والانفتاح القوي على تيارات الفعل العولمي بمضامينه المختلفة والرهانات المبالغ فيها على دور القطاع الخاص خصوصا في معالجة أزمة البطالة والنهوض بقضايا الإنتاج و التشغيل كما يشار إلى النقد الموجه لسياسة التخلي التدريجي للدولة عن قيادة مجمل الأداء العام للاقتصاد والثقافة والتربية والتعليم مما فتح ثغرات في جبهة التماسك الاجتماعي وخصوصا ما يتعلق بقضايا الهوية والانتماء ومنظومات القيم والأخلاق مكنت أصحاب المصالح الخاصة والنزعات المنبتة من استغلال الفراغات لأجل التمكين لمشاريعهم وأهدافهم .

هذا المنجز المتحقق ونقائصه يذهب بعض المستفيدين منه إلى أنه منجز نموذجي لا يمكن الإتيان بأفضل منه في ظل الواقع المحيط واعتبارا لإمكانات البلاد وينفون عن التجربة كل ما تأتيه المعارضة من نقد. ويذهب البعض الآخر إلى اعتماد مقاربة تقييمية يفصلونها على مقاس طموحاتهم الحزبية أو الشخصية في المشاركة في السلطة والتداول عليها بعيدا عن الإرادة الشعبية وبعيدا عن توفير العناصر التاريخية للتحول الديمقراطي الراشد والفاعل ٬ التحول الذي يحتاج لشروط حضارية وثقافية واقتصادية واجتماعية ما تزال الشعوب طامحة لتوفيرها. هذا البعض ينفي عن التجربة أي فضيلة ويزايد عليها من مواقع الفشل أو الاستقالة أو الارتهان أو التبعية. بين هذا البعض وذاك تتبخر فرص ثمينة لتمكين الحراك المجتمعي والسياسي من مقاربة أهداف التحول الديمقراطي والنهوض الوطني في كل المجالات. بل لعل محطة الانتخابات الأخيرة مثلت في سلوك هؤلاء مناسبة أخرى للمزايدة المتبادلة والتي لا ينتج عنها سوى تعطيل مسار التحول وإرباك المشاركة الشعبية الناهضة من محطة إلى أخرى٬مشاركة نراها نحن ناهضة باعتماد مبدأ التراكم التاريخي ويعيقونها هم باعتماد المصالح الحزبية والشخصية .

الانتخابات الأخيرة بقطع النظر عن كل التقييمات التي طالت إجراءاتها الشكلية إيجابا وسلبا حققت تقدما لافتا من حيث دورها في تفعيل فكر المواطنة واستنهاض الجهد الشعبي ووضع مسألة الحكم والإصلاح والديمقراطية والتعدد السياسي على قاعدة تنافس البرامج والبدائل ضمن إطار السيادة و استقلالية القرار الوطني والاحتكام إلى مجمل ما تحقق من تراكم سياسي داخلي بعيدا عن انتظارات الخارج ومراهنات اللاهثين وراء السلطة . ونحن على يقين يتحدى أي قوة تعطيل من أن هذه الانتخابات قد وضعت أساسا لتحفيز الأحزاب السياسية على مزيد العمل الإيجابي وتحريض الشباب على مغادرة زوايا السلبية ومن ثم دعوته للعب دوره الإيجابي في النهوض بقضايا الوطن .من جهة أخرى فتحت المجال أمام إرادة الإصلاح للتقدم نحو معالجات جديدة تحصن المكاسب التي اشرنا إليها وتعطي للمشهد الوطني دفعا جديدا ينهض بدور الأحزاب والمجتمع المدني ويحرر الإعلام من عناصر القيد والجمود ويرتقي بمجمل الأداء الوطني إلى حدود رغبة التاريخ وانتظارات المستقبل.

هذه الانتخابات وضعت حجرا متينا على طريق التوافق الأمثل بين سلطة المجتمع وسلطة الحكم وسلطة الأحزاب وهو طريق قلنا في مقالنا السابق عن التوافق أنه صعب ولا يقوى عليه إلا القادرون ممن كان ولاؤهم للوطن و للشعب وللتاريخ .