الأحد، 8 نوفمبر 2009

التغيير سمة العراق "الجديد"

عبد الله العنـزي - مركز الأمة للدراسات والتطوير

إن الحرب التي شُنَّت على العراق تحت ذرائع مُختَلقة كاذبة؛ وأسباب مُفتَعلة زائفة؛ كان ورائها – ولابد - جملة من المقاصد والأهداف، القريبة والبعيدة، والتي ترتبط بمصالح الولايات المتحدة الأمريكية ومن ناصرها، وقدم لها العون والدعم، وفي مقدمة ذلك الكيان الصهيوني، وبعض الدول الإقليمية.

وقد شرَعت الإدارة الأمريكية من أول أيام احتلالها للعراق في تحقيق القريب من أهدافها، والممكن - زمنياً – بحسب الواقع الجديد الذي أملته بمنطق الهيمنة والقوة، كما وشرَعت بشكل منهجي ومبرمج في التمهيد لتحقيق البعيد من تلك الأهداف، وغير الممكن – مرحلياً - بسبب المستجدات غير المحسوبة التي فرضتها قوى المقاومة والممانعة.

ومن المعلوم لمن يعايش أحوال العراق "الجديد" اليوم، أو يَرقبها بأدنى تأمل وعناية؛ أن ثمة تغييرًا قد طرأ على جميع مرافق الحياة؛ السياسية، والإدارية، والاقتصادية، ثم الاجتماعية، وهذا ما لا ينكره أحد، بغض النظر عن الاختلاف في تقييم هذا التغيير والموقف منه.

ومن المعلوم أيضاً أن هذا التغيير بمجمله قد فرضه المحتلون على واقع الحياة في العراق، وأقحموه عنوة من غير أن يكون للشعب إرادة مستقلة في اختياره، والمصير إليه.

فلا يختلف اثنان بأن إدارة الاحتلال هي الفاعل المؤثر؛ والعامل المؤسس؛ لكل ما طرأ ويطرأ من تغيير في البلاد، ليس في البناء السياسي وحده، بل والبناء الاقتصادي والإداري والتنظيمي، وكل ما يتبع ذلك أو يرافقه من تفككٍ في البنية الاجتماعية، واختلالٍ في الأمن والسلم الأهلي، وما ينتج عن ذلك من تغيرٍ في التركيبة الديمغرافية للسكان هنا أو هناك.

وابتدأت إدارة الاحتلال بالعمل وفق منهاجها المبرمج في التغيير بحل القوات المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية والإستخبارية، ثم حل وزارة الإعلام والمؤسسات المرتبطة بها، ثم تعطيل الصناعات العسكرية، ومن ثم إحالة جلّ منتسبيها إلى التقاعد، ولم يكن كل هذا مجرد اجتهاد غير محسوب من قبل الحاكم باسم الإدارة الأمريكية في العراق بول بريمر، كما يصوره بعضهم، ويُراد لنا نحن أن نتصوره. وإنما كان ضمن سلسلة من القرارات المدروسة وبعناية من قبل مراكز البحوث والدراسات التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون"، ووكالة الاستخبارات المركزية، والتي تصب في تحقيق المصالح والأهداف الأمريكية "الإستراتيجية" في العراق، بل وفي المنطقة برمتها.

وقد أعقب قرارات الحل هذه؛ تقويضٌ لكل الوزارات والمؤسسات والشركات والدوائر المختصة في العراق، بل وحتى الخدمية منها، وبطريقين مختلفين يُكمِّل أحدهما الآخر:

الأول: التصفية الجسدية للكفاءات الإدارية والعلمية من قبل المخابرات الإقليمية والمليشيات الطائفية التي أطلق الاحتلال لها العنان، وهيئ لها حرية التصرف والحركة والانتقال.

الثاني: اعتماد سياسة الإقصاء الممنهج، وإصدار قوانين الاجتثاث، والذي عملت الحكومات المتتابعة في ظل الاحتلال على تنفيذه بالطريقة الانتقائية المعروفة.

وبعد هذا جرى إعادة الهيكلة الإدارية لتلك الوزارات والمؤسسات والشركات على أسس ((جديدة))! تقوم على استبعاد المتبقي من الكفاءات والكوادر المهنية المدربة - التي لم تطالها التصفية الجسدية - واستبدالهم بكوادر جديدة عديمة الخبرة، يجري انتقاؤهم على الأسس الطائفية والحزبية.

إذاً فالتغيير هنا ليس أمراً عارضاً، أو ردة فعل عفوية، تدفع إليها رغبة المستبد في التغيير وفق عقلية الانتقام، واستشعار الغَلبة، وإنما هو مخطط مُبيَّت مدروس لم يعد من الصعب فهمه بعد قراءة المشروع الانكلوأمريكي في العراق، والذي يهدف أولاً إلى تحقيق مصالحه في الهيمنة على المنطقة، ثم مصالح الكيان الصهيوني، الكامنة في إضعاف العراق وتقويض بنيته التحتية، وتفويت كل الفرص الممكنة له في التطور والنهوض من خلال قتل كفاءاته العلمية، أو إلجائهم إلى الهجرة خارج البلاد وتسهيل توطينهم هناك. ومن ثم تمكين البدلاء من أصحاب الشهادات المزورة، والجنسيات المتعددة، والطائفيين، والنفعيين، والانتهازيين، من الانقضاض على المواقع الشاغرة، والعمل فيها وفق ما أعده ((الأسياد)) من خطط وسياسات وبرامج.

كما إن التغيير الذي شهدته جميع الهياكل الإدارية في الوزارات والدوائر والمؤسسات العراقية، فضلاً عن الهيكل العام للإدارة السياسية طيلة السنوات الست الماضية؛ يُكرِّس لحالة الفرز والتقسيم الطائفي الذي سعى إليه المحتل، وكذلك ما جرى ويجري في تشكيل قوى الجيش والمؤسسات الأمنية وفق الاعتبارات والأسس المذهبية والحزبية. حتى عاد هذا نهجاً عاماً مضطرداً تمارسه القوى والأحزاب الحاكمة والمسلطة من قبل الاحتلال، في جميع سياساتها وسياقات عملها في الوزارات، والدوائر، والمؤسسات الحكومية. بل باتت تحاول وبقوة تصدير هذا النهج الطائفي والحزبي أيضاً إلى ما تطاله من مؤسسات المجتمع المدني غير الحكومية، كالنقابات والجمعيات واللجان، والتأثير عليها بشتى السبل، لصبغها بالصبغة ذاتها التي اصطبغت بها كل الوزارات والدوائر والمؤسسات الحكومية، وذلك مثل ما جرى في نقابة المحامين وغيرها من النقابات، وما جرى ويجري في جمعية الهلال الأحمر العراقية، وكذلك المحاولات المستميتة لبعض الأطراف الحكومية في الهيمنة على اللجنة الأولمبية العراقية، ونزع استقلاليتها، وغير ذلك كثير.

إن الإمعان في سياسة الإقصاء الطائفي في إدارة الدولة يهدف أولاً إلى إحياء وتأجيج الشعور المذهبي، من خلال تغليب الانتماء للمذهب على الانتماء للبلد، وبالتالي قتل روح المواطنة والولاء، وفي الجانب الثاني؛ إشعار أصحاب المذهب الآخر بالذل والهوان من خلال سلب حقوقهم وغمطهم وتهميش دورهم في البناء والعمل والحياة الكريمة، الأمر الذي يُمهِّد لحالة الانقسام والتفكك المجتمعي، وهو ما يسعى إليه المحتلون كمقدمةٍ لتحقيق هدفهم الأساس؛ وهو: تفتيت العراق وتقسيمه إلى دويلات تقوم على الأسس المذهبية والطائفية.

لقد آن الأوان ليُدرك أبناء العراق بكل طوائفهم حجم المكر والتآمر الذي يحاطون به، والذي يهدف أول ما يهدف إلى تمزيق وحدتهم وتفكيك مجتمعهم باسم الطائفة والدين، وإضعاف دولتهم وتفتيتها باسم القوة والتمكين، قال تعالى: )وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا( [فاطر: 43].