الثلاثاء، 13 أكتوبر 2009

الشــــوارعيزم‏..‏ وجمال عبد الناصر‏!‏

من نافلة القول الحديث عن عداء قوي الشوارعيزم المهيمنة علي مشهد الحياة في مصر اليوم‏,‏ مع المشروع السياسي والوطني الذي يحمل اسم الزعيم جمال عبد الناصر‏,‏ والذي تواصلت معركتها معه حتي اللحظة الراهنة علي الرغم من رحيله الي رحاب الله قبل تسعة وثلاثين عاما بالتمام والكمال‏.‏

موجات تلو موجات من التهجم والهجوم واصبة محاولاتها لوصم خيارات الرجل السياسية‏,‏ وفكره الاجتماعي‏,‏ مستمدة المدد من بعض القوي الإقليمية والدولية‏,‏ ومتعدية بالقول والإشارة والتشويه والتزييف علي كل منجزه الوطني والعروبي‏,‏ عامدة الي ضرب كل المؤسسات والشخوص الذين قام عليهم نظام عبد الناصر وصولا حتي الي جهاز الأمن القومي‏,‏ متخذة من واقعة محدودة تتعلق بالمرحوم المشير عبد الحكيم عامر تم حساب الضالعين فيها وقتها متكأ لمحاولات إنكار الدور البطولي والوطني الذي اضطلع به ذلك الجهاز لحماية البلد ونظامها‏.‏

ومن نافلة القول ـ كذلك ـ الاشارة الي تناقض المصالح التي يعبر عنها تحالف الشوارعيزم بعناصره المعروفة‏(‏ رجال الأعمال المتمولون ورجال الحكومة المتنفذون وارهابيو الصوت والقلم من الإعلاميين المأجورين‏),‏ في مشهد الحياة اليوم‏,‏ مع تلك التي نذر مشروع ثورة يوليو جل جهده للدفاع عنها وتعظيمها‏,‏ وأعني مصالح المستضعفين‏,‏ والبسطاء‏,‏ ملح الأرض‏,‏ ووقود الحياة‏.‏

ولست في وارد استعراض وقائع الحرب الإجرامية التي شنتها قوي الشوارعيزم‏(‏ سواء في أطوار تكوينها الأولي في السبعينيات‏,‏ أو في لحظة تمكينها الكبري التي بلغت أوج سطوعها اليوم‏)‏ علي كل مايمثله جمال عبد الناصر من منظومة قيم وأفكار‏,‏ ومبادئ تثبت الوقائع كل يوم أنها كانت الأكثر بلورة لمعني الوطنية المصرية‏,‏ والأكثر إقرارا لثوابت الأمن القومي والأكثر انتصارا للانتماءات المصرية الصحيحة عربيا وإفريقيا‏.‏

كما لست في وارد دخول ساحة الاستقطابات بين ثنائيات بلهاء مثل‏(‏ مصر الجمهورية‏)‏ في مواجهة‏(‏ مصر الملكية‏),‏ أو‏(‏ عهد عبد الناصر‏)‏ في مواجهة‏(‏ عهد السادات‏),‏ اذ إن التاريخ ينتصر كل يوم للرئيس عبد الناصر‏,‏ وعلي نحو لاتحتاج ذكري الرجل ـ فيه ـ الي محام يترافع أو الي فارس حارس يدافع‏.‏

ولكنني ـ اليوم ـ في وارد قراءة عمل تليفزيوني أظنه الأكثر موضوعية في تناول سيرة الرجل منذ رحيله‏,‏ وبالذات في سياق وإطار مايسمي الإعلام الرسمي أو الحكومي‏.‏ فقد أذاعت القناة الثانية من تليفزيون الدولة‏,‏ الساعة الثالثة من بعد ظهر يوم الاثنين‏28‏ سبتمبر الفائت فيلما وثائقيا من انتاج قطاع الأخبار التابع لاتحاد الاذاعة والتليفزيون أعده الاستاذان عاطف حسن وعبد الغفار بيومي‏,‏ واخرجه الاستاذ عزت الإمام‏.‏

وبقول واحد كان الفيلم التسجيلي أول خروج عن ذلك النسق الاحتفالي الذي يتم به التعرض لذكري الثورة أو زعيمها في العقود الأربعة التي تلت رحيل جمال‏,‏ والذي كان لايتعدي معني سد الخانة أو أداء الواجب‏,‏ أو التوقيع بالحضور في دفتر التظاهر بالوفاء والتحلي بمكارم الأخلاق‏!‏

إذ للمرة الأولي أجدني أمام نص‏(‏ سياسي‏)..‏ أكرر‏(‏ سياسي‏)‏ يرافق اللقطات التسجيلية المختارة بعناية ودقة‏.‏

وهذا النص السياسي هو المأثرة الكبري للفيلم الوثائقي الذي بثه التليفزيون الحكومي‏,‏ وجعل منه اقترابا مغايرا لكل ما اعتدناه في السنوات السابقة من نصوص احتفالية غلبت عليها ثقافة اللكلكة‏,‏ والرغبة المرتبكة في عبور المناسبة من دون التورط في إعلان موقف أو تسجيل انحياز‏.‏ ووجدتني أدون انطباعات عن عشرات الملفات التي تناولها الفيلم الوثائقي‏,‏ والتي مثلت بالنسبة لي نقاط تحول مفصلية عن النهج الإعلامي الحكومي التقليدي في تناول الثورة وجمال‏.‏

أحدها ـ من دون حصر ـ هو مسألة التعرض لمساندة عبد الناصر ثورة اليمن علي حكم أسرة الإمام حميد الدين‏.‏

إذ للمرة الأول أجد خطاب الإعلام المصري‏,‏ وقد تخلي عن اللهجة الاعتذارية التي أجبر عليها لسنوات‏,‏ وبدا متحررا من‏(‏ عقدة الذنب‏)‏ التي حاولت أبواق إعلامية إقليمية ومصرية‏,‏ أن تخلقها وتعظم تأثيرها ـ عبر عهود وعقود عن ملف الوجود المصري في اليمن‏,‏ وهي مسألة أظن الوقت حان لشرحها وتضويئها في أنظار أجيال من البنات والأولاد يخرجون إلي الحياة اليوم‏,‏ وقد انمحي من أدمغتهم أو وجداناتهم أي ارتباط بمعني الوطنية والانتماء‏,‏ لأن حملات الكراهية التي استهدفت عبد الناصر والثورة أحدثت ذلك القطع أو السكتة التي منعت تواصل الناس مع السياقات التاريخية الطبيعية‏,‏ أو مع عناصر الثقافة الوطنية الصحيحة التي تتيح لهم بناء مواقفهم‏,‏ وهندسة انحيازاتهم وفقا لمعطياتها‏.‏

كان موضوع الوجود المصري في اليمن‏(‏ بداية الستينيات الي أواسطها من ثورة اليمن الي اتفاقية جدة‏)‏ واحدا من المسائل التي تعرضت الي تنميط شديد‏,‏ والي إعادة صياغة عسفية مرة‏,‏ ومرتين‏,‏ وعشرا‏,‏ وكان ضمن ما ألصق به تنسيب هزيمة‏1967‏ إليه‏,‏ أو القول بأنه كان سببا مباشرا لغياب الجيش في قفار وجبال جنوب الجزيرة العربية بما أثر علي القوة القتالية لمصر إبان أزمة‏(‏ مايو ـ يونيو ـ‏1967).‏

وبالقطع لم يك حجم القوات المصرية الموجودة في اليمن بذلك التأثير المبالغ فيه‏,‏ كما أنها لم تكن تلعب أو تلهو في مدخل البحر الأحمر الجنوبي‏,‏ وإنما كانت تحمي مصالح مصرية‏,‏ قبل أن تنتصر لشعب عربي شقيق وحبيب‏.‏

مجال الأمن القومي المصري ينبغي التحقق من حمايته بالنفوذ أو بالوجود‏,‏ وهكذا فعل عبد الناصر حين تواجد في اليمن في وقت احتل فيه الاستعمار البريطاني عدن والمحميات‏,‏ وفي وقت ناصبت فيه بعض الأنظمة العربية ثورة يوليو العداء‏,‏ واشتركت في أحلاف اقليمية لحصارها‏,‏ بداية من حلف بغداد الي الحلف الاسلامي‏,‏ وفي وقت ـ كذلك ـ وجهت فيه الي مصر احدي عشرة اذاعة سرية في محاولة لتقويض نظام الحكم‏.‏

وضمن الترهات التي طرحت في اطار تنميط فكرة الوجود المصري في اليمن ووصمه مسألة الحديث عن أن عبد الناصر أضاع الغطاء الذهبي للعملة المصرية في استمالة القبائل اليمنية‏.‏

والحقيقة أن كل مليم دفعته مصر للتخديم علي وجودها في اليمن‏,‏ ونصرة شعبها في مواجهة قوي التخلف كان استثمارا عالي العائد للمصالح المصرية الوطنية‏.‏ وبحجج مشابهة يمكن الرد علي بنود خطاب الاستعباط السياسي الذي تشيعه وتذيعه قوي الشوارعيزم غامزة في قناة وجود مصر في إفريقيا زمن الرئيس عبد الناصر‏,‏ ووصفه بأنه كان محض محاولة لبناء زعامة أو تأسيس إمبراطورية‏.‏

إذ إن مثل هذا الخطاب هو سخف وتزوير في المطلق‏,‏ لأننا ـ اليوم بالذات ـ يجب أن نفهم أن ذلك الوجود كان بناء وصونا لمصالح بلدنا‏,‏ وأن غيابه هو ما اصطلح علي تسميته في الصحف والأقنية ـ هذه الأيام ـ‏(‏ غياب الدور المصري‏).‏

الدور المصري هو ما كان الرئيس عبد الناصر يفعله عربيا وإفريقيا لحماية محددات الأمن القومي في البحر الأحمر وحوض النيل‏.‏ وصرف فلوس لبناء أواصر علاقة‏,‏ أو تشييد جسور تعاون هنا أو هناك ليس إضاعة لأموال البلد‏,‏ أو بعثرتها في الفضاء هباء منثورا‏,‏ ولكنه انحياز لمصالح مصر‏,‏ وتكريس لها‏,‏ وهو ما اذا انسحبت من مجال دعمه وصونه ستكون تركت مساحات من الخلاء السياسي تتقدم فيها إسرائيل أحيانا‏,‏ وبعض القوي الشرق أوسطية أحيانا أخري‏.‏

نهايته‏..‏

أعود الي الفيلم الوثائقي الذي أذاعته القناة الثانية في التليفزيون الحكومي منذ أسبوعين‏,‏ فأقول إن أهمية مثل تلك الأعمال هو الإسهام ـ بمقدار معتبر من التأثير ـ في تشكيل وعي الشباب والتعليم والتنشئة السياسيين في البلد‏,‏ وإعادة بناء ماتهدم من الشخصية الوطنية‏,‏ تحت وطأة حملات الكراهية ومحاولات اطاحة التأثير الذي خلفه زعيم بحجم جمال عبد الناصر‏,‏ قاد ثورة بحجم ثورة يوليو‏.‏ علي أنني لا أود أن يقتصر عرض أو إنتاج مثل تلك الأفلام علي مناسبة‏,‏ أو ذكري ولكنني أبغي ان يكون حضورا مستمرا متواصلا‏,‏ يستثمر كنوز الأرشيف المصري أو يعيد اكتشافها‏,‏ أو يلحق بها قبل أن تختفي في ظروف غامضة‏,‏ ليبني قاعدة واسعة من التفاهم والتوافق حول قيم وطنية وقومية لاينبغي لنا أن نختلف حولها أو نجعلها ساحة للشجار والنقار‏,‏ والمناورة والمداورة بغية تسجيل الابناط‏,‏ وإحراز الأهداف‏.‏

أريد الشباب ان يعلم ـ من خلال هكذا وثائق ـ شيئا عن الدور المصري مع جوليوس نيريري‏(‏ تنزانيا‏)‏ وجوموكينياتا‏(‏ كينيا‏)‏ وكوامي نكروما‏(‏ غانا‏)‏ وأحمد سيكو توري‏(‏ غينيا‏)‏ والامبراطور هيلاسيلاسي‏(‏ اثيوبيا‏).‏

أريد الشباب أن يعلم أن مساندة الثورة في الجزائر كانت جزءا من صراع بلدنا مع الاستعمار الفرنسي في المنطقة‏,‏ وأن دعمنا لثورة الفاتح لم يك عداء لملكية السنوسية بمقدار ما كان تأمينا لظهر مصر إزاء طعنات وطلعات الطيران المساند لإسرائيل من قاعدتي‏(‏ هويلس‏)‏ و‏(‏العضم‏)‏ فوق الأرض الليبية‏,‏ وأن الدور المصري مع السودان هو الذي مكن مصر أن تنقل بعض كلياتها العسكرية ـ ومنها الكلية الحربية العريقة زمن حرب الاستنزاف الي أراضي السودان‏,‏ حتي لاتكون هدفا لغارات العمق التي تواصلت قبيل بناء حائط الصواريخ الشهير‏.‏ أريد أفلاما وثائقية تشرح الدور المصري في تحقيق استقلال الصومال‏.‏

نبغي خطابا يعلم أبناءنا عدم التهاون أو الاستهانة بانتمائهم العربي أو الافريقي‏,‏ وألا يتصوروا أنفسهم جزءا من أمريكا لمجرد أنهم تآمركوا أو مشوا علي صراط أسلوب حياة‏Styleoflife‏ أمريكي‏.‏

فأولا لن يقبل الأمريكيون ان يكونواجزءا منهم‏,‏ وثانيا‏:‏ لأنهم في الطريق الي توخي الانتماء إلي كل ماهو أمريكي وغربي‏,‏ سوف يفقدون انتماءهم الي أنفسهم كعرب وأفارقة‏.‏

.......................

كان الفيلم التليفزيوني الوثائقي في ذكري رحيل جمال عبد الناصر عملا أعاد الاعتبار الي الاعلام الحكومي بالتزامه الموضوعية في تلك النقطة علي الأقل‏,‏ وكان ـ كذلك ـ مناسبة نستقطر فيها الفكر والعبر‏.‏

وسلام علي جمال عبد الناصر يوم ولد‏..‏ ويوم مات‏..‏ ويوم يبعث حيا‏.‏

الاهرام في 13/10/2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق