الثلاثاء، 13 أكتوبر 2009

الصحافة‮ ‬بين‮ ‬حرّية‮ ‬التعبير‮ ‬وتناقضات‮ ‬المعايير‮...‬

محمد‮ ‬فارس

كان ªتوماس كارلايل´ [1795 ــ 1851] هو أول من أطلق عبارة ªالسلطة الرابعة´ على رجال الصحافة، وكان ذلك في كتابين شهيرين ªالثورة الفرنسية´ وªالأبطال وعبادة البطولة´.. وªكارلايل´ لم يكن يقصد بهذه العبارة معنى ªالسلطة´ كما نعرفها وهي ªالغلبة والاقتدار´، ولكنه كان يقصد بكل بساطة، جماعة رابعة في المجتمع، مقرها دور الصحف، كما للجماعات الثلاث الأخرى في المجتمع مقرّ، وهي جماعة النبلاء واللوردات ورجال الدين، والبرلمان مقرُّها.. والأمر هنا ليس أمر سلطة، وإنما هو أمر تأثير يسري فعله في الناس، لتحويل وجهات نظرهم، مع تكوينهم، والرفع من مستوى وعيهم الفكري والسياسي والاجتماعي؛ وهذا أمر موكول للصحافة ذات الرأي الناضج، والفكر المستنير، وليس صحافة التسلية والإثارة والمتاجرة بِحَيَواتِ الناس الخاصة، وأفراحهم، واختياراتهم، وبقية شؤونهم في خلوتهم؛ ولكن الفهم الخاطئ للفظة ªالسلطة الرابعة´، هو الذي يؤدي إلى الممارسات الخاطئة، تماما كما تخطئ (سلطة) الجَوْر والظلم والطغيان والمسّ بكرامة الإنسان، والصحافة نفسها يصيبها من هذا الظلم ما يصيب بقية أفراد المجتمع؛ ولكن هذه الصحافة قد تصبح هي نفسها ظالمة، ومخطئة، رغم أنها ليست (سلطة) كما رأينا؛ وسبب ذلك، راجع إلى عدم تبيّن حدود الحرية، وتحديد مجال الحركة والنشاط، وهنا تقع الصحافة في ما أسماه ªجيدْ´: [الفعل المجّاني]... لقد صارت بعض الصحف في بلادنا، تعتبر نفسها سلطة، فأوقعها ذلك في ما تقع فيه السلطة عادة، من ظلم وشطط وقس على ذلك؛ حيث صارت تَنْفُذ إلى بيوت الناس، وتشاركهم أفراحهم، وأسرارهم من دون استئذان، وتحوّل ذلك إلى مواد تسلية، وسخرية تباع في الأسواق بثلاثة دراهم، للأنفس التي تطربها أسرار الناس؛ تلك الأنفس التي تريد للغير ما لا تريده لنفسها، وتفترش شرف الناس وكرامتهم، وتغتاظ عندما يمسّ شرفها ويعبث بقدسية حياتها الخاصة.. هكذا عرفناهم.. هكذا ألفناهم.. التاريخ يؤكد ذلك.. كيف ذلك؟ فيوم كتب طبيب ªفرانسوا ميتران´ كتابا تحدث فيه عن مرض الرئيس، حذف الكتاب، ومنع من النشر، وكان هؤلاء في بلدنا قد أيّدوا قرار المنع، وتحدثوا في صحافتهم ونواديهم عن قدسية الحياة الخاصة، وعن حفظ أسرار فخامة الرئيس، وأنا معهم في ذلك.. ولكن لما تحدّثت صحف في بلادنا عن قصد، وبغير عِلم، عن مرض جلالة الملك، وأبدعت الترهات والنميمة من دون موجب حقّ، هنا فقط، صاروا يتذرعون بحرية التعبير، وحرية الصحافة.. فما الفرق بين حياة ªميتران´ وحياة ªمحمد السادس´ نصره الله؟ ويوم نشر كتاب يمسّ حياة سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوجاته الطاهرات، قال هؤلاء عندنا إن ذلك يدخل في إطار حرية النشر والتعبير، بل منهم من ذهب إلى باريس ليوقع على قائمة المساندين لهذا المنكر، وأعفي نفسي من ذكر اسمه، وصحيفته، وحوزته... ولكن يوم مست كرامة وزير، ومسؤول معروف، واتّهم ظلما بما اتّهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندها فقط انمحت لديهم حرية النشر، وحرية التعبير، وطفت على السطح مسألة الكرامة، والشرف، وقدسية الحياة الخاصة، وكانوا كلّهم متفقين على المبدإ، تماما كما كانوا متفقين حول حرية التعبير عندما تعلق الأمر بالرسول عليه السلام؛ وأقفل مقرّ الجريدة التي نشرت المنكر، ودخل مديرها السجن.. ومرّة أخرى، هل حياة هذا المسؤول الحكومي الكبير، والحزبي الشهير، كانت أهم وأقدس من حياة سيدي المرسلين صلّى الله عليه وسلم؟ والآن تأتي قضية الكاريكاتير، والنجمة السداسية، والتحية النازية، مع إفساد فرحة الغير، ولعب دور الوصي من دون استئذان، وإبداء الرأي في عقد القران، وتطفو مرة أخرى مسألة حرية التعبير، ما دام الأمر لا يتعلق بحياتهم الخاصة.. لكن لو تعلق الأمر بهم في ما هو أقل من هذا، لرأيتهم رفعوا الدعاوى إلى القضاء، ولطالبوا بالملايين كتعويض شرف، والقصة معروفة، وقد حولها المغاربة إلى نكات، وهي قضايا لا ترقى إلى جرم الكاريكاتور، والمس بحياة الناس الخاصة.. ولكن دعني أسأل : ما الذي سيستفيده المغاربة من مقالات وكاريكاتورات كهذه؟ ما قيمة ذلك إعلاميًا وفكريًا وسياسيًا واجتماعيًا؟ ثم ماذا؟ كم هم الذين لهم أزواج أجانب، وكم هم الذين لهم جنسيات أجنبية إلى جانب جنسيتهم المغربية؟ كم هم الذين تزوجوا مثنى، وثلاث، ورباع، في مجال المسؤولية، حيث لهم مناصب، ومآرب عدة إلى جانب الوزارة أو الإدارة؟ كم هي المناكر الموجودة في البلاد كإفطار رمضان، وظاهرة الشواذ التي قالوا عنها صراحة إنها غير مهمة، وأنها حرّية شخصية، كما قالت شخصية معروفة بصريح العبارة.. من هنا يظهر أن الأزمة هي أزمة قيَم، وليست أزمة علاقة بين سلطة وصحافة..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق