السبت، 28 نوفمبر 2009

المسكوت عنه في تاريخ الحركة الوطنية التونسية (2من3)



الدكتور سالم لبيض

 لقد كان لتجربة "العابد بوحافة" النضالية عدة مستويات وقد شهدت تطورا ملحوظا . بدأت تلك التجربة بإنشاء أو المساهمة الفاعلة  في إنشاء الحركة  المنصفية التي كانت تطالب بإرجاع "المنصف باي" إلى العرش  الحسيني بتونس بعد أن خلعه قائد القوات الفرنسية بشمال إفريقيا الجنرال "بيرو" بتهمة التعاون مع قوات المحور . وتمكّن "العابد بوحافة" من تنظيم وقيادة مظاهرة سلمية في شهر أفريل من سنة 1945 للمطالبة بإعادة "المنصف باي" . وواصل دفاعه على نفس القضية بفرنسا  بعد تحوله إليها سنة 1946 وقد تمكن من زيارته في منفاه بمدينة "بو" الفرنسية. لينشر بعد ذلك تحقيقا مصورا حول وضع الباي المخلوع في مجلة فرنسية تسمى 3 على 4 وذلك باسم مستعار . و باسم مستعار آخر قام "العابد بوحافة" بنشر الكتاب الأبيض المتعلق بقضية "المنصف باي" صحبة صديقه "محمد بدرة" ليقوم بتوزيعه على مختلف السفارات الأجنبية بباريس وعلى مختلف الأوساط الحكومية والبرلمانية . وقد لقي ذلك  العمل نجاحا كبيرا خاصة وأنه كان مدعوما من قبل العائلة الحسينية ومن شخصيات سياسية هامة. وبعد ذلك انتقل "العابد بوحافة" إلى الولايات المتحدة وتحديدا إلى مدينة نيويورك  التي ستعرف الفعل السياسي الأقوى والأكثر نجاعة في الدفاع عن مختلف القضايا التي آمن بها الرجل مستغلا معرفته بالعمل الصحفي وممارسته له ومعرفته باللغة الانقليزية وآدابها .
 بدأت أولى تجاربه هناك  في الدفاع عن المسألة التونسية مع زيارة "بورقيبة" الأولى إلى الولايات المتحدة في سنة 1947 ليمهد له السبيل حتى يلتقي بالمجتمع السياسي والإعلامي الأمريكي وبالفاعلين في الأمم المتحدة ليشرح وجهة نظره حول القضية التي قدم من أجلها. ونظرا لذلك الدور الذي بدأ يتميز به "العابد بوحافة" في الدفاع عن القضية التونسية آنذاك وكذلك مختلف  قضايا المغرب العربي الذي بات الناطق الرسمي باسم لجنة تحريره التي تشكلت في القاهرة سنة 1947 ممثلا فيها كافة الأحزاب المغاربية رغم إنسحاب بورقيبة لاحقا وإعادة تشكيلها مع بداية الخمسينات ، نظرا لكل ذلك كتب إليه  "الحبيب شلبي" مدير الحزب الحر الدستوري التونسي القديم رسالة   مؤرخة في 2 أفريل 1948 جاء فيها : "...فإني رأيت من واجبي أن أكاتبكم وربط الصلة معكم لأقدم لك الشكر الجزيل والثناء الذي أنت به جدير على أعمالك المجيدة المبرورة التي تقوم بها في أمريكا لفائدة القضية التونسية وقضية المغرب العربي باسم اللجنة التنفيذية للحزب الدستوري أقدم لك خالص الشكر والممنونية على أعمالكم تلك . وإني بصفتي الآن المدير لأعمال الحزب أرغب منكم أن تراسلوني باستمرار وتعرفوني بنشاطكم ونشاط لجنة تحرير شمال إفريقيا التي ترأسونها وبأسماء أعضائها وتقرير مفصل عن الأعمال  التي قامت بها لننشر كل ذلك في جريدة الحزب "الارادة" ونشيد بفضلكم الذي يحاول الخصوم طمسه وكفرانه ونعرف الجمهور التونسي بأعمالكم وأعمال لجنتكم التي أشاد بذكرها "عزام باشا"  وكان لها  صدى طيبا في أوساط الجامعة العربية. ولعل تلك الرسالة تعكس العلاقة الطيبة التي كانت تربط "العابد بوحافة" بجماعة الحزب القديم واستعدادهم للتعاون معه والصورة الايجابية التي بقي يحملها عن حزبهم حتى أنه طلب في إحدى رسائله إلى "بورقيبة" مؤرخة  في 22 جوان 1950 ، طلب منه النظر في امكانية التعاون مع الحزب القديم ولكن "بورقيبة" في رسالته الشهيرة المؤرخة في 5 جويلية 1950 إلى "العابد بوحافة" أطلق تسمية القدامى على الحزب القديم وأشار إلى "أنك  تعتقد أنهم يشكلون حزبا مكافحا  لتحقيق الهدف نفسه وهو الاستقلال وأنهم أكثر تصلبا من حزبنا . وفي الحقيقة إن الأمر ليس كذلك فمنذ أمد انحصر هذا الحزب في كمشة من ذوي الحسد والبغضاء فقدوا إكبار الجماهير الشعبية وتأييدها واقتصر نشاطهم على اتخاذ مواقف  يتبجحون بها أمام الناس وذلك لغاية واحدة يسعون إليها وهي عرقلة مساعينا والعمل على إحباطها ولذلك  فإن الدعوة إلى وحدة العمل معهم سواء جهرا أو سرا هي بمثابة تشييد  على فراغ". وأعدّ "العابد بوحافة" زيارة بورقيبة الثانية إلى الولايات المتحدة سنة 1951 والتي من المفترض أن يلقي فيها كلمة في مؤتمر اتحاد النقابات الأمريكية في سان فرنسيسكو والتي نشب على أثرها خلاف عميق بينه وبين "بورقيبة" الذي استغل تلك الحادثة لتهميش "العابد" وإخراجه من دائرة الفعل السياسي خاصة بعد عودته إلى تونس سنة 1958. ورغم ذلك الخلاف الذي سنتعرض له لاحقا فإن  "بوحافة" لم يبخل في تقديم الخدمات الضرورية لقادة  حزب الدستور الجديد أثناء انعقاد مؤتمر الجمعية العامة للأمم المتحدة في باريس سنة 1951 والتي حضرها بوصفه صحفيا معتمدا لدى المنظمة الأممية. كما سهل مهمة الوفد الوزاري  التونسي المكلف بعرض الشكوى التونسية على مجلس الأمن على اثر الرسالة  التي وجهها وزير خارجية فرنسا دوبار شومان في 15 ديسمبر 1951 إلى رئيس الحكومة محمد شفيق. وساهم "العابد" في التنديد بالموقف الفرنسي على اثر اندلاع  الأحداث الناتجة عن تلك المذكرة وإقالة حكومة شنيق وهروب بعض أعضائها مثل "صالح بن يوسف" إلى خارج البلاد وخاصة على إثر الأحداث التي اندلعت في مختلف مناطق البلاد بعد 18 جانفي 1952 . وتشير الرسالة التي وجهها إليه "بورقيبة" في 5 جويلية 1950 إلى أنه من دعاة العمل المسلح ضد الإدارة العسكرية الاستعمارية حتى أن  بورقيبة دعاه إلى المساعدة على توفير الأموال اللازمة  لشراء الأسلحة على ما في ذلك الموقف من التباس. ونظرا لأهمية الجانب السياسي باعتبار أن حركة المقاومة عديمة الجدوى في ظل غياب ذلك المستوى فقد طلب "بورقيبة" من   "بو حافة" أن يتصل  بالمسؤولين في وزارة الخارجية الأمريكية لإحاطتهم علما بالتطورات التي يمكن أن تحدث إذا دخلت روسيا على الجبهة عن طريق الشيوعيين وطلب منه أن تضغط الولايات المتحدة على فرنسا.
لقد كان "محي الدين القليبي" أشاد في رسالة حاملة لتاريخ 13/12/1948 بموقف "العابد بوحافة" ودوره في نصرة قضايا المغرب العربي بالأمم المتحدة وقد جاء في تلك الرسالة " فقد جمعتني محاض الصدف بالرجل العظيم الأستاذ جورج خير الله صاحب حملة "العالم العربي" الذي كان بأمريكا وزار الشرق وأخيرا طاف بشمال إفريقيا بمجرّد ما قدمني إليه الأستاذ محمد علي طاهر عرف أنني من تونس سألني عنك وهل لي بك علاقة فقلت له نعم هو كان بي بارا وأخا كريما فأخذ يثني عليك ويكبر جهادك وتضحياتك وانقطاعك لصالح بلدك مما رفع راسي في ذلك الجمع العظيم وكنت قبل اليوم سمعت مثل هذا من رجال المكتب العربي بنيويورك وإني أهنيك بهذه الثقة وهذه المكانة التي أحرزتها  وأوصيك بالمحافظة عليها. كما أشاد بذلك الدور "للعابد بوحافة" الأمين العام لجامعة الدول العربية السيد عزام باشا في رسالة  إلى "الحبيب بورقيبة"  نشرتها  جريدة الصباح في عددها المؤرخ في 4 مارس 1954 جاء فيها " اني لاغتنم هذه المناسبة لأحيطك علما بفعل وإخلاص الأستاذ العابد بوحافة في هذه الأيام العصيبة. فقد كان لنشاطه ودأبه وسعيه وخبرته بالأجانب اثر كبير في رفع صوت تونس المجاهدة و قد أحببت أن أعلمك بذلك حتى تكون على بينة من حقيقته".  لقد كان "بورقيبة" على بينة من الدور المهم الذي يلعبه "العابد بوحافة" والوزن الذي بدأ يكتسبه شيئا فشيئا وهو ما سيفسر طبيعة العلاقة بين الاثنين.
 اما بالنسبة "للعابد بوحافة" فالمسألة جد مختلفة، فهو لم يكن مجرد عضو  بسيط في الحزب الدستوري الجديد يأتمر بأوامر قيادته المجسدة  في رئيس الحزب "بورقيبة" و كاتبه العام "صالح بن يوسف" وإنما كانت للرجل خصاله السياسية و مواقفه التي ترتقي به إلى مرتبة أولئك الزعماء أنفسهم .  ينعكس ذلك من خلال تصريح "صالح بن يوسف" عندما سألته الصحافة الاستعمارية حول "العابد بوحافة" فأجاب  "السيد بوحافة هو ممثل سينمائي معروف بإسم شكري باي فهو لا يمثل الحزب وهو حر في النضال من أجل بلده". و حول مدى صحة ترأس "العابد بوحافة" للنضالات الفرنكو– تونسية  فيما يتعلق بمسألة المنصف   باي سئل "بورقيبة" من قبل جريدة  tunis soir في عددها الصادر يوم 18 جانفي 1946 وفي رد لا يخلو من غيض وإزدراء أجاب بـ "لا ، أقدر بان هذا الخبر خاطئ وإذا كان ذلك صحيحا فانا أول من يعلم بذلك قبل هذا البوحافة". إذن كانت قضية "المنصف باي" والنضال من اجل إرجاعه إلى العرش هي مدخل الاختلاف بين "بورقيبة" و"بن يوسف" من جهة و"بوحافة" من جهة ثانية. و كما يقول "بوحافة" نفسه فإن العداء الذي يكنه لي الزعيمان التاريخيان  للدستور الجديد لا يفسر إلا بذلك العمل الوطني الذي أقوم به والذي فلت من رقابتهما. و هو ما يعكس الرغبة في احتكار العمل الوطني أو قيادته على الأقل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق