السبت، 28 نوفمبر 2009

قيادات ولجان تغطّي على مُلابسات رحيل "أبو عمار"؟


    نبيل أبو جعفر

كعادة كل عام ، مرّت الذكرى الخامسة على رحيل قائد القادة "أبو عمار" بكلمات ومقالات أعادت التذكير بمزاياه النضالية، ومدى الفراغ الكبير الذي تركه، دون التطرّق –تقديرا للمناسبة – إلى ما يُؤخذ عليه كأي كائن حي، وكقائد اختصر القرار والمال والتكتيك بشخصه، وكان من نتيجة ذلك هذه التركة التي استحوذت على كل صلاحياته وأخذتنا إلى دروب ومتاهات بعيدة على الصعيد السياسي، والتكالب المالي، والإستشراس الإستزلامي والمصلحي على طول الخط الممتّد من "المقاطعة الجديدة" إلى السفارات والممثلين و"الدّبيكة"، والمؤتمنين على المال الملتهين بمشاريعهم
 الخاصة، العمرانية والإقتصادية وحتى السياحية هنا وهناك !

السّر الغارق في غياهب الكتمان

تكرار الكلام العاطفي المؤثّر حول قائد القادة في كل ذكرى تمرّ، لا ينفع في شيء غير التعبير اللفظي عن الوفاء للقضية التي ذهب ضحّية وفائه لها بلا أدنى شك، دون تحمُّل مسؤولية السؤال عن السّر وراء "ضَياع" أبو عمار منّا في غضون أسبوعين من الزمان دون أن ندري حتى اليوم كيف حصل ذلك ، أ و نلمس بوادر سعي جدّي لمعرفة ذلك غير الكلام، وبعضه نفاقي معسول وفارغ المضمون. وغير تشكيل اللجان والهيئات وتعيين مجلس أمناء لمؤسسة تحمل اسم ياسر عرفات، مع الحرص على اختيار بعض أعضائه ممّن يجب أن يُساءَلوا مع كل من هم داخل المقاطعة وخارجها عن ملاحظاتهم حول كل
 شاردة وواردة . ثم تكليف هذا المجلس بمهمة متابعة "ملابسات رحيل الرئيس" إلى جانب مهمة تخليد ذكراه والحفاظ على تراثه ونقله للأجيال القادمة... إلى آخر الكلام الجميل !
تُرى، كم من السنوات ستمرّ بعد اليوم على ذكرى رحيل "أبو عمار"، ونبقى نُذكّر بضرورة معرفة هذه الملابسات، مع أن الواضح منذ الآن أنه إذا استمر "التطنيش" على متابعة هذه القضية خمس سنوات أخرى، فلن نجد من يذكر تراثه، باستثناء نوادر الأوفياء إلى جانب المناضلين في القاعدة الهرمية الذين لا حيلة لهم، ولا قدرة على اتخاذ القرار. فكيف بنقل هذا التراث للآخرين، وهي مهمة  مقروءة النتيجة منذ الآن، يؤكدها عدم قيام المستورثين بواجب السعي المثمر لمعرفة قاتل مورثهم السلطة والمال ومسؤولية اتخاذ القرار .

استمرار الجحود بعد رحيله

كم كان مؤلماً مع مرور الذكرى الخامسة على رحيل "أبو عمار" أن لا نسمع صوتاً يتساءل كما نتساءل كل عام، ماذا فعلت اللجنة الأولى أو الثانية التي كُلّفت بمتابعة ملابسات رحيل الرئيس، وماذا ستفعل اللجنة الأخيرة التي سمعنا عن تشكيلها قبل فترة وجيزة، وأي نتيجة توصَّل إليها مجلس أمناء مؤسسة ياسر عرفات الذي يضمّ – من قبيل الوجاهة – الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، الغائص حتى أذنيه في تفاصيل اهتمامات حكامنا وإبداعاتهم في مجال الإختلاف على الهوامش، مع أنهم بسوادهم الأعظم "يدبكون" دبكة واحدة على مسرح واحد !
لقد سجّلنا في الذكرى الأولى للرحيل ، أسفنا على درجة الجحود الرسمي الفلسطيني لرمز نضال شعبنا – مهما اختلف أي إنسان منا معه – وتساءلنا عن السّر الكامن وراء عدم الكشف عن أي شيء، مهما كان صغيراً، حول أسرار الأيام السريعة التي تدهورت فيها صحة "أبو عمار" فجأة، بعد تناوله ذلك "العشاء الملغوم"، الذي قلب وضعه الصحي رأساً على عقب خلال 4 ساعات حسبما جاء في تقرير مستشفى بيرسي العسكري في باريس.
وكان الجانب الأغرب من ذلك أن اللجنة الأولى التي كُلّفت بمتابعة ملف حالة الرئيس، لم تكشف لنا عن أي معلومة طوال العام الأول، الأمر الذي اضطرها مع اقتراب موعد الذكرى السنوية الأولى إلى إصدار تقرير مسلوق لا يعود لها في الأساس، بل يتضمن بمجمله نَسْخاً لما ورد في نتيجة الفحوصات الطبية والمخبرية التي أُجريت في المستشفى الفرنسي الذي نُقل إليه الرئيس الراحل وتوفّي فيه، وقد وردت حرفيا في تقريره الرسمي الذي سُلّمت نسخة منه إلى أرملته السيدة سهى الطويل، وأخرى إلى إبن شقيقته الأخ ناصر القدوة، قبل شهور طويلة من حلول موعد الذكرى .

من يُجيبنا على هذا السؤال.. وغيره؟

ومع ذلك، لم يسأل أحد لماذا لم تعلن اللجنة هذه "المعلومات" التي لا تحمل أسراراً قبل ذلك، أي منذ أن وصلتها. ولماذا لم نسمع شيئاً عن متابعاتها لهذا الملف منذ إصدارها هذا التقرير اليتيم الى اليوم، ولم نعد نعرف عن مصيرها ونشاطها أي جديد؟، وهذا يدفعنا إلى التساؤل: أليس من حق الإنسان الفلسطيني، غير القيادي ولا التسووي أو المسترزق بفعل استزلامه لهذا أو ذاك، أن يعرف ما الجديد الذي أنجزته أي لجنة من اللجان المكّلفة بمتابعة هذه القضية على صعيد كشف الحقيقة؟ لقد سبق أن سألنا هذا السؤال ثلاث مرّات في كل ذكرى مرّت قبل الآن، ولم نجد مسؤولاً
 واحداً يُشفي غليلنا ولو بجملة علميّة مفهومة حتى الآن توضح لنا ما يجري ، مع أن موضوع غياب الرئيس الراحل ومرضه الغامض واحتمال تسميمه، بحاجة إلى تسليط الضوء على كل فصوله، والإجابة على التساؤلات الأساسية والبديهية حوله، وقد تكرّر طرحها على ألسنة الجميع وتتعلق بسبب الإمتناع عن تشريح جثّة "أبو عمار" قبل دفنها سريعاً، لمحاولة معرفة ما لم يُعرف حتى اليوم؟ ولماذا الإصرار على وضعه في ضريح مشيّد بالباطون، وهل الباطون يُسهّل عملية نقله إلى القدس الشريف بعد حلّ عقدتها والإعتراف بها عاصمة لدولتنا المستقلة ؟
  ثم ، لماذا لم يُسأل طبيبه الخاص عن رأيه في العديد من النقاط ، نظراً لاطلاعه على سجله الطبي منذ القديم  . ولماذا الإستمرار في تشكيل اللجان لذر الرماد في العيون لا أكثر؟


نعم للعواطف لا للحقيقة !

أمّا إذا أردنا الغوص أكثر في البحث والتدقيق، مع أن هذه هي مهمة اللجان التي شُكّلت ونامت على قرار تشكيلها، فلا بدّ أن نستذكر الأيام الأولى التي نُقل فيها "أبو عمار" إلى المستشفى الباريسي، وكيف تطابقت وقتها مواقف الجميع من وارثين ومستورثين حول إخفاء الحقيقة والتصريح بما يخالف الواقع حول صحة "أبو عمار" مع إعطاء شعبنا وأبناء أمتنا في كل مكان انطباعاً بأن الأخوة الذين لحقوا الرئيس إلى باريس يعلمون كل شيء، مع أنهم لم يكونوا يعلموا شيئاً لأنه لم يكن يُسمح لهم أصلاً بمجرد التحرك داخل المستشفى. وقد وصفنا ذلك كما شاهدناه وقتها " على
 الطبيعة "، وبيّنا كيف أنهم كانوا يُصّرون على التأكيد المستمر بأن صحة الرئيس بخير مع أنه لم يكن كذلك. والمضحك المبكي في آن، أنه عندما كان "أبو عمار" يحتضر خرج أكثر من مسؤول ليُدلي بتصريحات مناقضة بالكامل لحقيقة وضعه الصحي، حتى أن الناطق باسم السلطة "طمأن" شعبنا عن صحة الرئيس وطالبه من على شاشة "الجزيرة" بعدم تصديق ما يُنشر من أخبار حولها، وقال آخر في أوج دخول "أبو عمار"  بغيبوبة من الدرجة الرابعة التي لا يخرج المريض منها سالماً على الأغلب، أن الرئيس غير غائب عن الوعي وأن صحته في تحسّن ... الخ !  وتبعه ثالث يقول أنه فتح عينيه وابتسم عندما
 رأى شيراك الذي أتى لزيارته !
هذه الحالة بلغت ذروتها وأصبحت أكثر إثارة للسخرية، عندما تكاثرت وتيرة التصريحات بأسلوب يختلف من واحد لآخر، وكانوا جميعاً على غير علم ولا اطلاع دقيق !

عدم الدقّة حتى بالأرقام والتواريخ!

حتى أرملته السيدة سهى، التي كانت وحدها أكثر معرفة من الجميع ، بحكم نصوص القانون الفرنسي الذي يُعطي الزوجة وأهل المريض الأقربين أولوية الإطلاع على ما يعتبر سراً شخصياً، تصرّفت بنفس المنطق والروحّية، حيث خرجت تُعلن أن "أبو عمار" بصحة جيدة وسيعود قريباً إلى وطنه، رغم علمها أنه كان قد دخل في الغيبوبة العميقة، ولم يكن قد صحا، وأكل ومازح الحاضرين وابتسم لشيراك حسبما تردّد على ألسن البعض، وهذا ما سنثبته بلسانها تالياً .
قلنا هذا الكلام قبل أربع سنوات بالتفاصيل الكاملة، ونقلنا الحقيقة كما عشناها منذ الساعات الأولى لوصوله الى المستشفى ، وبأسلوب أكثر من واضح ، وربما جارح ، وكررنا القول ان الكل باستثناء زوجته لم يكن في العير ولا في النفير ، ولم يكن دقيقا ولا صادقا فيما صرّح به . وحده ـ في هذا الجانب تحديدا ـ كان أبو علاء دقيقا في نقل الصورة على حقيقتها عندما قال بعد خروجه من المستشفى : لقد رأيت شخصا آخر غير "أبو عمّار" . ومع ذلك ، فإن شيئاً لم يتغيّر على صعيد الإقرار بالحقيقة أو السعي لمعرفتها .

بعد هذه السنوات الأربع، فاجأتنا السيدة سهى في حوار أجرته معها مجلة "هي" السعودية منتصف تشرين الثاني الجاري، بإصرارها على الإستمرار بتوزيع معلومات غير دقيقة وسط الكلام عن الجوانب الشخصية، وتلك قضية أخرى لا نرى مناقشتها على أعمدة الصحف، لكن يكفينا للتدليل على عدم الدقة وعلى صوابية ما أوردناه آنفاً وفي تغطيات سابقة، التأشير إلى قولها نصاً للصحيفة السعودية: "... عند دخوله الغيبوبة التي بقي فيها 15 يوماً استنجدتُ بالأطباء" .

وبمراجعة تاريخ اليوم الذي دخل فيه "أبو عمار" للمستشفى الفرنسي إلى لحظة وفاته، نرى أنه دخله يوم الجمعة 15 رمضان 1425هـ، المصادف 29/10/2004، وتوفي فيه ليلة القدر 27 رمضان، المصادفة ليلة 11/11/2004. أي بعد 12/13 يوماً ـ  لا أكثر ـ وهي كامل الفترة التي قضاها في المستشفى. وهذا يعني ـ إذا أخذنا بما قالته للصحيفة السعودية - أنه دخل الغيبوبة قبل يومين أو ثلاثة من وصوله الى باريس !
ولما كان ذلك مستحيلاً نظراً لظهوره على الملأ واعياً عندما تم نقله بالطائرة الفرنسية في ذلك اليوم من المقاطعة إلى باريس، فالأرجح أن يكون قد دخل الغيبوبة مع دخوله المستشفى أو بعد ذلك على الفور. وهذا يؤكد عدم صحّة كل ما أُعلن بعد ذلك حول وعيه وتحّسن صحته، ومن ضمنه ما قالته السيدة سهى نفسها، وهو ما ترك الناس حيارى بين واقع الحال التي كانوا يشعرون بها، والتمنيّات والتطمينات التي كانوا يسمعونها على ألسنة المتبرعين بتصريحات مختلفة المضامين، وهم لم يبرحوا سلالم المستشفى العسكري أو باحاته البعيدة عن غرفة الرئيس في أحسن الأحوال .

فذكّر إن نفعت الذكرى

يبقى واجب التأكيد مرة أخرى، وليست أخيرة، على أن الراحل "أبو عمار" وأمثاله من رموز النضال في أمتنا، ليسوا ملك أنفسهم، وليس من حق أحد تحت أي سبب أو ذريعة العمل على بلبلة الرأي العام بنشر كمّ من المعلومات المغلوطة وغير الدقيقة عنهم، سواء السلبية التي لا أساس لها، أو الإيجابية المبنية على العواطف الشخصية والتمنيات فقط، لا العلم والحقيقة. ذلك لأن كل إنسان بشر، وسنّة الحياة أن نعيش ونزول .
فإذا كان علينا احترام هذا الجانب المبدئي يوم كان الرئيس الراحل على قيد الحياة، فالأحرى بنا أن نحترمه بعد رحيله، والإحترام في هذه الحالة يكون – على الأقل – بكشف الحقيقة عمّا جرى له فعلاً، أو السعي الجادّ دون هوادة نحو ذلك، لا النوم على القضية عاماً بعد عام، والتصوّر أن شعبنا كله نائم على منوال لجان المتابعة والتحقيق .

... وإلى أن يجيء موعدنا العام المقبل بإذن الله، نُذكّر إن نفعت الذكرى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق