السبت، 28 نوفمبر 2009

العابثون وتمزيق نسيج الأمة


د. علي محمد فخرو

في مسارح العبث الكروي العربي، وآخرها مسرحية المباريات المصرية الجزائرية عبر أسبوع من الهرج والمرج الممل، تقف ثلاث جهات في قفص الاتهام، ولا تستطيع أي جهة التملص من مسؤولياتها.
هناك أولاً سـعي منظم لحرف وبعثرة انتباه الجماهير من قضاياه الحياتيـة الأسـاسـيـة اليوميـة إلى مختلف النشـاطات الهامشـيـة. وبذلك يتلهى الناس بنشاطات من مثل الرياضة، وبشعارات من مثل بلدي (ويُسميه) أولاً، وبتفاخرات إنجازية وهمية. عند ذاك ينسى الناس المظالم اللاحقة بهم وحقوقهم المسلوبة وقبضات الاستبداد التي تحكم كل جوانب حياتهم، ويحصل المسؤولون على هدنة مجانية ينصرف الناس فيها عن المُسائلة أو الاحتجاج أو حتى التأفف. وفي هذا الجو تُصبح المحرمات حلالاً؛ فمهاجمة المسؤولين الأشقاء أمر مقبول والاستهزاء بالشعوب الشقيقة هو من قبيل حرية الرأي. وفجأة تتسع مجالات الحرية والتعبير طالما أنها تشتم وتجرح وتثير الآخر!
ثانياً، هناك الإعلام العربي الذي أصبح في جزءٍ منه مطية يركبها السياسيون الانتهازيون في الحكومات وفي المجتمعات بهدف تشويه السياسة من خلال المبالغة في إعلاء شأن القطرية، والدين من خلال التلاعب بالخلافات المذهبية، والثقافة من خلال التسطيح والمماحكات الإيديولوجية، والاقتصاد من خلال نشر ثقافة الاستهلاك النهم، والترويح من خلال جعله سلعة من السلع التي تُباع وتُشترى. والواقع أن جزءاً من الإعلام العربي يُسـاهم، بقصدٍ أو من دون قصد، في شـخصنـة كل الخلافات وفي تمزيق نسـيج هذه الأمـة القومي وفي إدخال الأجيال الحاليـة في متاهات لا حصر لها ولا عد، مما سـيقلب هذا الجيل إلى أن يكون غير ملتزم بقضيـة جديـة وغير مرتبط بأهداف كبرى.
هناك ثالثاً المواطنون العرب العاديون. إنهم سـمحوا ويسـمحون لأن يُسـاقوا كالأغنام إلى حتفها. وإلا، كيف تتحمـس الملايين للعبـة كرة وتقلبها إلى رمز يُعبر عن مكانـة الدولـة التي فيها يعيشـون في حين أن القاصي والداني يعلم بأن هذه الدول هي في مؤخرة ركب دول العالم، ولن يرفع من مكانتها الحضاريـة وصول فريق كرة قدم إلى (المونديال)، خصوصاً أن كل الذين وصلوا من قبل خرجوا من منافسـات (المونديال) خلال يومين من بدئها مهزومين!؟
والذي شاهد جماهير مشاهدي الكرة وهم يرقصون لا يستطيع إلا أن يتذكر ظاهرة الهيستيريا الجماعية التي اجتاحت أوروبا في القرون الوسطى عندما كان الملايين يرقصون ليل نهار حتى يسقطوا من الإعياء من دون سبب غير تقليد الآخرين ومجاراتهم.

الأسـئلـة التي تطرح نفسـها بإلحاح هي: لو أن الحكومات آمنت بأن الروابط القوميـة تعلو على الكبرياء القطريـة الفارغـة، ولو أن المنابر الإعلاميـة العربيـة كانت تعمل بمهنيـة رفيعـة وبالتزام تجاه ثقافـة التجميع القومي وليـس التفريق القطري، ولو أن الشـعوب كانت مشـحونـة بمشـاعر الحب لوطنها الكبير ولأمتها الواحدة، لو أن كل ذلك وجد، هل كان باسـتطاعـة قضيـة هامشـيـة كلعبـة كرة القدم أن تفعل ما فعلتـه من إمعان في تمزيق هذه الأمـة وإدخالها في جحيم الصراعات العبثيـة؟
أما السؤال الآخر فهو: ألم يحن الوقت لمراجعة نظرتنا الكلية لموضوع الرياضة البدنية؟ هل الأهم هو إيجاد الفرص ليُمارس أكبر عدد من المواطنين نشاطاً رياضياً مفيداً لأجسامهم وعقولهم وأرواحهم، أم أن الأهم هو تربية فرق رياضية قادرة على التنافس ضد الآخرين، وأن كل ما يُطلب من جمهور المواطنين هو التفرج لتلك الفرق وتشجيعها؟
نحن نُدرك أن العالم كله قد سمح لنفسه بأن يدخل في جنون المنافسات الرياضية، وخلق قوى ومؤسسات كبرى مستفيدة. والوطن العربي، الذي يُقلد الآخرين في كل شيء، لن يُقاوم إغراء تقليد الآخرين في الرياضة. وإذا كنا سندخل هذا الجحيم العبثي مع الآخرين، ألا نسـتطيع إبعاد نار هذا الجحيم عن السـاحة القوميـة حتى لا نضيف إلى مأسـاة التجزئـة والتشـرذم في هذه الأمـة مآسـي جديدة؟
أسئلة نطرحها على الحكومات وعلى الإعلام وعلى الجمهور في كل الأرض العربية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق