السبت، 28 نوفمبر 2009

الفكر القومي بين الزيف والحقيقة


الأستاذ الهادي المثلوثي - تونس
الفكر القومي ليس لغوا بلا مضمون ولا ترفا فلسفيا ولا هواجس خيال بل هو بعث أمة إلى الوجود بفعل إرادة الحياة و صدق الإيمان والانتماء.
إيمان بحقيقة وجود الأمة وجوهر رسالتها الإنسانية وانتماء إلى قيمها وإلى قضاياها العادلة وأهدافها المصيرية. هذا الإيمان هو الذي يجعل القومي الصادق في إطار الواقع الراهن يعمل بالممكن دون نسيان الطموح وفقدان الأمل بأن الآتي لن يكون أسوأ مما كان. هو الذي يحول الأمل إلى عمل ويخطو، ولو زحفا، خطوة على طريق تجاوز الواقع إيمانا منه أن محرك الإرادة هو الفكر الحي المتجدد وأن قوة الحياة تكمن في انبعاثها من حالة الركود إلى حالة التوثب ومجابهة الصعاب. والقومي الصادق كذلك هو الذي ينتمي قولا وعملا إلى صف الأمة مستلهما من وعيه بمخاطر الحاضر والمستقبل ضرورة تجاوز حالة الذهول والانتظار إلى حالة التصدي والتحدي لما يهدد الحياة العربية بتكبيل إرادة الأجيال وحرمانها من ممارسة خياراتها الحرة والواعدة… فإذا كنا اليوم في حاجة إلى عقل ثاقب ورصين فنحن في أشد الحاجة إلى الإيمان والتعبير عنه بممارسة الانتماء من خلال الانخراط العملي اليومي والطوعي لخدمة القضايا العربية وتقديم ما ينفع الناس وينير لهم درب الوحدة والتضامن والعزم على التحرر من عاهة الخوف ومذلة الفقر وبطش المتسلط وعقدة النقص تجاه الآخر المستقوي بنفوذه عميقا داخل وجداننا المهزوز بسبب ضعف الانتماء و توغله المدوي داخل عقولنا الخاوية جدا من الفكر النير الواعي والمشحونة بزيف الحداثة وهوس الانبهار وشهوة التقليد دون إدراك وتقدير لعواقب التبعية والإنبتات. ما لم نستقل روحيا وعقليا ونضع للكرامة حيزا في نفوسنا وللحرية مكانة في تفكيرنا وللعدالة قدرا في تصرفنا وللديمقراطية الحقيقية نبراسا منبها في حياتنا فسوف لن نستقل أبدا ولن نحقق خطوة نحو مستقبل مشرق يضع حدا للهيمنة الخارجية علينا ولن نزيح كابوس الاستبداد المسلط علينا. إن المؤمنين بالفكر القومي توجها وبالمشروع الوحدوي طريقا للخلاص من المأزق الراهن ليس بإمكانهم مواجهة الواقع بالتمني والركون للنقد أو ممارسة العمل السري في انتظار الزعيم المنقذ وصدور البيان الأول لانقلاب أو ثورة فذلك زمن قد ولى وآليات التغيير القديمة قد صدئت وحان الوقت الذي لزم أن يصحا فيه وينهض العالم والباحث والمفكر والمثقف والفنان والطالب والعامل والتاجر والفلاح بمهمة الدفاع عن هويته وكرامته وحريته وحياته ضد سياسات الزيف الرافعة للشعارات القومية قولا والمتمسكة بالخصوصية القطرية فعلا وضد ضربات العولمة المتلاحقة والآتية في نفس الوقت على ماضي وحاضر ومستقبل العرب جميعا إذا ما ظلوا أجزاء مجزأة، مع أني أعتقد، مخالفا كل المزاعم حول حتمية العولمة، أن ما يجري حاليا يدفع بالوعي القومي إلى أعلى درجات التحفز والاستعداد للقيام بدور تحرري متميز. لماذا؟ لأن مجرى الأحداث التي نعيشها اليوم بين بوضوح زيف الواقعية التي نظر لها الكثير من دعاة القبول بالأمر الواقع ويتجلى ذلك في صورتين للوضع الراهن:
1- أن مساحيق القطرية وزيف الوعود بالسيادة الوطنية قد انقشعت كاشفة اللثام عن ضعف وتبعية القرار العربي القطري وعن فشله في حماية حق المواطن وحرية الوطن بما جعل هذا القطر أو ذاك لعبة في يد قوى النفوذ الاستعماري.
2 - أن العولمة المفروضة باستعلاء واستقواء وبنظرة أحادية للعالم تحمل في طياتها كل عوامل الاستفزاز والغطرسة التي تفضي إلى استثارة التحدي ليس لدى الأمم والشعوب وإنما حتى لدى الأقليات التي تثور وتتمرد هنا وهناك دفاعا عن حقوقها واستقلالها وهويتها القومية… فكيف لا تجد الشعوب العربية المستضعفة فرصة للتعبير عن إرادتها في تحقيق وممارسة أهدافها في التحرر وبناء وحدتها الشاملة بما يضمن لها القوة الكافية لاسترجاع مكانتها وكرامتها بين الأمم والمساهمة الفعالة بدور متميز في تشكيل نمط العلاقات الدولية وإدارة حوار الحضارات بما يؤدي إلى عولمة حضارة السلم والعدل المناهضة للعولمة الأمريكية المتناقضة أصلا مع القيم الإنسانية وحق الشعوب في تقرير مصيرها وخصوصية نظام حياتها. أيعقل أن تستمر الأجيال العربية ترزح تحت وطأة الكبت والفقر والتجزئة وهي تشهد رعونة السياسة الأمريكية على الساحة الدولية واستهتار الصهيونية بالأرض وبالمقدسات وبالإنسان العربي بمباركة من دعاة العولمة الأمريكية ومغتصبي الشرعية الدولية؟. إلى متى ستظل الأجيال العربية تتحمل السطو الإمبريالي على ثروات الأمة من خلال الاتفاقات المفروضة لحماية المصالح الغربية في المنطقة العربية بالقوة العسكرية أو من خلال الشراكة وعقود الاستثمار الرأسمالي والمعونات المشروطة بين الدول الغربية والأقطار العربية؟. أليس كل هذه الإجراءات عملا استفزازيا للضمير والعقل العربيين وتهديدا مباشرا للوجود القومي؟. ألا يحتم كل ذلك ضرورة الوعي بأهمية توحيد الجهود العربية والإسراع بتطوير المشاريع القومية في مواجهة معركة المصير الواحد…؟ إن من يظن أن الوازع القومي والفكر الوحدوي قد وليا بسبب عمق التجزئة وتجذر النزعة القطرية وكذلك الاعتراف الرسمي والدولي بالاحتلال الصهيوني فهو لا يدرك حقيقة التاريخ والمخزون الحضاري والمادي للأمة والطاقات الكامنة في الشباب العربي المتحفز لفجر جديد قد انبعثت طلائعه من رماد الهزيمة تتحدى بالصبر والصمود وفتات الحجر قوى الغطرسة والعربدة الصهيونية-الأمريكية. إن من يعتقد أن قيام الدولة الصهيونية أمر واقع يجب أن يعرف كذلك أن الاحتلال التوسعي من أشد العوامل الدافعة للوحدة القومية وأن النزعة اليهودية من أقوى عوامل الاستفزاز المشجعة على اللحمة الإسلامية العربية؟ وأن من يعتقد أن العولمة شر لا بد منه فهو لا يدرك معنى الحرية وحقوق الإنسان ولا معنى الاستقلال الوطني وحق تقرير المصير لأنه ربي على الخضوع والتأييد والتبعية مستسلما للظروف والخوف متحججا بالأمر الواقع وما فيه من يأس وبؤس وبتأثير ذلك نشأت فئة من العرب المستسلمين اختلت لديها الإرادة واهتزت إلى حد فقدان الوعي فسطا الوهن على العزيمة وحل الإحباط محل الأمل فانتكس الطموح وانسدت الآفاق وتحول الانتماء العربي لديها بحكم ثقافة التبعية إلى مجرد شعور بالعاطفة والتألم والحسرة تجاه قضايانا المصيرية وبالتالي حاد الانتماء عن الفعل والممارسة وبلغ بنا الوضع إلى حالة من التملص ونكران الذات والارتماء في الخندق المعادي لوجود الأمة وتمادى البعض في النيل من تاريخ وحضارة وكرامة العرب وأمعن في احتقار الشخصية العربية ولبس لبوس الغير معتبرا ذلك تجديدا وتحديثا وتعصيرا وانفتاحا على التجارب والقيم الإنسانية الراقية وخروجا من حالة الركود والتزمت والضعف التي ميزت الزمن العربي الراهن ووسمته بالرداءة والتبلد… لكن من المسؤول عن الزمن العربي الرديء هذا؟ أليس المفكرون المزيفون والمثقفون المتزلفون قبل الحكام والسياسيين المستسلمين طوعا وقسرا؟. في الحقيقة، إن كل ما في هذا الواقع يدعو بشدة إلى ثورة غاضبة على كل السياسات الموبوءة المسلطة على الشعوب والأجيال العربية وكل المشاريع المشبوهة المملاة من قوى الهيمنة الرأسمالية والتي عملت ولازالت تعمل على هدم أسس الشخصية العربية وصولا إلى طمس الفكر القومي المعبر عن صوت الأمة والمحرك لضميرها… إذا اعتبرنا انتماءنا إلى هذه الأمة هو قدر لم نكن قد اخترناه فحتمية الانتماء تلزمنا واجب الدفاع عن وجودنا والنضال المستميت من أجل تطهير حاضرنا من الزيف والدنس وتصحيح مسارنا من الانحراف والعرج من خلال الإيمان بأننا أهل لأن نكون أفضل مما كنا عليه ونستطيع أن نحيي إرادة الأمة ونذكي جذوة الجهاد ونرفع راية الرسالة الخالدة التي شرفنا الله بحملها من بين أمم الأرض جميعا. ولكننا تهنا عن صواب السبيل بسبب ضبابية الحياة التي تشعبت مساراتها وانهارت قيمها وانسدت آفاقها. فأي مستقبل ينتظرنا؟. من خلال تقديري للأحداث التاريخية التي مرت بها الأمم والشعوب وقياسا على مسار التحولات الفكرية التي شهدها العالم، أرى أن الفكر القومي على غير التيارات الفكرية الأخرى ليس قابلا للموت رغم ما يصيبه من نكسات وخمود وزيف لأنه ليس وليد مرحلة تاريخية عابرة ولا نزوة خيال طارئة وإنما هو منظومة من القيم الفكرية والروحية ترتبط بالوجود المادي لشخصية أمة من الأمم. هذه المنظومة تضعف وتقوى تبعا للمرحلة الخصوصية التي تمر بها تلك الأمة. كما أن النظرية القومية ليست نتيجة تصور مذهبي بل هي انعكاس لجدل الواقع المادي والروحي لمجتمع قومي. وهنا لابد من التمييز بين المجتمع المطلق والمجتمع الخصوصي. المجتمع في المطلق قد يختلف في جوهره عن معنى الوحدة القومية حيث ما يربط بين أفراده هو بالأساس علاقات تبادل المصالح مثل المجتمع الأمريكي التي يتكون من خلايا مجتمعات قومية مختلفة أو المجتمع الغربي أو المجتمع الدولي حيث تتقدم العلاقات النفعية المادية بأولوية كبيرة كل العلاقات الإنسانية الأخرى…أما المجتمع العربي فهو يتشكل في عمومه من وحدة قومية تربط بين أواصرها اللغة والدين والتاريخ والمصير المشترك مما يجعل الواقع الراهن المجزأ أمرا شاذا وكل ما فيه يستدعي الرفض والثورة لتصحيح الوضع وقلب المعادلة حتى يصبح الراهن الوطني في خدمة الصالح القومي وليس العكس إذ استطاع الكثير من النفعيين تقمص الشعارات القومية من أجل تكريس الحالة القطرية وتحويل الخصوصية الظرفية إلى خصوصية وطنية تتشبث بسيادة الوحدة الوطنية على حساب الوحدة القومية وانتهى بنا التركيز على مبدأ الاستقلالية الوطنية إلى تأسيس نزعة انعزالية معادية للقومية ممعنة في التجزئة والتنكيل بتاريخ وجغرافية الوطن العربي وماضية في تشويه الوحدة العربية وتقزيم الأمة وتعطيل نهضتها وبلغت الجرأة بالمنظرين للقطرية والمنبتين والتائهين عن عروبتهم الادعاء بوجود أمم مثل الأمة الجزائرية والمغربية والتونسية والسودانية…إلى غير ذلك من هذا النحو مما جاد به الفكر الانعزالي المتطرف المدعوم من قبل المحافل الماسونية ومدارس التبشير الأممية والصليبية الساعية لاستئصال القومية العربية وإلغائها…. إن المتباكين اليوم على حال الأمة والمتأسفين على موت القومية والداعين إلى فكر قومي جديد باهت بارد الوشائج لم يقرأوا تاريخ الأمم العريقة بعقل مدرك. فقد انكسر الصليب وارتد الصليبيون على أعقابهم لما انتخى أبناء الأمة تحت راية الله أكبر بقيادة صلاح الدين وقد انزاح الكابوس التركي ومن بعده الاستعمار الغربي لما ردد أبناء الأمة من المحيط إلى الخليج ( بلاد العرب أوطاني من بغداد إلى تطوان…) فاستجاب القاصي والداني، وانكسرت جحافل المطرقة والمنجل لما تحركت الطلائع القومية والوطنيون الأحرار كما انكفأت جحافل الظلام المجوسية حين تجاسرت على الجبهة الشرقية من الوطن فتصدى لها دون تردد فدائيو العروبة ولازال ثوار الأمة يخوضون معركة التحرير و يتصدون للغطرسة الأمريكية-الصهيونية في العراق وفلسطين. ألا يعبر كل ذلك عن قوة عربية كامنة؟ ألا يعد التململ الشعبي المقموع وهتافات الجماهير العربية المكبوتة في كل زوايا الوطن العربي الكبير تعبيرا عن وجود أمة في حالة جهاد قومي ومصيري من أجل مستقبل عربي مشرق رغم القيود القطرية والدولية؟. في إطار هذه المعاناة من تواصل الاعتداءات والمؤامرات الداخلية والخارجية، لازال الفكر القومي حيا متجددا يملأ عقول ونفوس المخلصين والمؤمنين من أبناء الأمة بالأمل والطموح بما يعزز انتماءهم إلى أمة أصيلة قادرة على التحرر والتوحد وعلى مجابهة تيار العولمة مثلما جابهت مختلف موجات الاستعمار وتيارات التغريب والتذويب عبر قرون من الزمن. غير أن كل هذا التفاؤل بالمستقبل لا يغنينا عن الدعوة إلى تطوير العمل القومي والمبادرة بتطوير أشكال النضال العربي ضد المناوئين لحق الأمة في تحقيق أهدافها من خلال إنشاء منابر للحوار الفكري الديمقراطي وتكوين جبهات شعبية للعمل القومي التحرري دفاعا عن هوية الأمة ومصالحها المختلفة… وبذلك نضع حدا بين الادعاءات القومية الزائفة والممارسة القومية الحقيقية…حتى تتضح الرؤى المستقبلية للأجيال العربية.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق