الخميس، 19 نوفمبر 2009

فلسطين ومخاطر التصفية..


هيثم أبو الغزلان

فلسطين تتعرض للتصفية، والبعض من أبنائها ينفذ ذلك. وأمام الأعداء اليوم "حل مطروح هو بقتلها وتحويلها إلى إسرائيل".. فلسطين القضية اليوم تتعرض لأبشع تصفية للأرض والمقدسات والشعب... يقول أحد قادة العدو :"الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت"...
ولعل من مميزات المشهد السياسي الفلسطيني اكتنازه بالمفارقات والمقارنات على صعيد كل من الحدث والتاريخ والمكان. فعلى سبيل المثال، كان موعد اندحار آخر جندي صهيوني من غزة تحت وقع ضربات المقاومة في الثالث عشر من شهر أيلول، هو ذات التاريخ الذي أعلن فيه عن ولادة مشروع اتفاقيات أوسلو، بموجب سلسلة طويلة و«مظلمة» من المفاوضات السرية والشاقة التي عقدها مسؤولو السلطة الفلسطينية مع العدو الصهيوني، تلك الاتفاقات التي لم تكد تر النور حتى انطفأت و"وئدت" بنقض صهيوني متوال لمجمل تفاصيلها، ما لم نقل لجميعها.
الحفاظُ على واقع التخَلّف
ويعتبر الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني في كتابه (القضية الفلسطينية أمام خطر التصفية) أن هدف الوجود الصهيوني الحفاظُ على الواقع العربي المتخَلّف، وعلى الفسيفساء التي شكّلها الاستعمار كما هي، حيث ظل الكيان الإسرائيلي مرتبطًا بحركة الرأسمالية العالمية عندما كان مركزها في القارة الأوروبية، وأصبح فيما بعد جزءًا من المخطط الإمبريالي الأميركي، حين انتقل مركزها إلى الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية.‏
وعلى هذا الصعيد كانت خطواتِ القيادة التي هيْمَنَتْ على منظمة التحرير الفلسطينية على طريق التلاؤم مع فكر التسوية، طارحةً في البداية حَلَّ الدولة الديمقراطية لقضية فلسطين، التي تُسَاوِي بين حقوق الفلسطينيين بعد تحويلهم إلى جماعات طائفية، وبين حقوق المستوطنين اليهود، ومنَتَقِّلَةً بعد ذلك إلى "حل الدولتين" تحت شعار المرحلية، بما رافق ذلك من تنظير يستجدي تعاطف ما يُسَمَّى بـ"المجتمع الدولي"، من خلال إظهار النوايا الحسنة تجاه المستوطنين اليهود، نازعًا عن مشروعهم الاستعماري الاستيطاني صِفَتَه الاغتصابية والعنصرية والعدوانية، الأمر الذي أفضى إلى اتفاق أوسلو الذي يقوم على أرضية المشروع الاستعماري، النقيض للمشروع القومي التحرري للأمة العربية، وفي قلبه المشروع الوطني التحرري للشعب الفلسطيني.
و"صفقة أوسلو" التي جرى الترويج لها على أنها تجسيد للمرحلية، وأنها تشكل خطوة على طريق تحرير فلسطين، قد أفضت عبر الوقائع التي أفرزتها، إلى وَضْعِ قضية فلسطين على سكة التصفية، وإلى فتح الباب واسعًا أمام النظام الشرق أوسطي، الذي سارعتْ مجموعةُ الأنظمة العربية التابعةُ إلى الانخراط فيه عبر المؤتمرات الاقتصادية التي انعقدت في العواصم العربية، وعبر علاقات مع الكيان، وهي التي عملت على مدى عقود من الزمن، لإيصال منظمة التحرر الفلسطينية إلى موقع التسليم بالمشروع الاستعماري، انسجامًا مع الوقائع التي فرضها هذا المشروع.
وقاوم الشعب الفلسطيني مسار التصفية، مُفَجِّرًا انتفاضته الكبرى الأولى عام 1987، ردًّا على مقررات قمة عمان في العام ذاته، ومُجَدِّدًا مقاومته المسلحة للمشروع الصهيوني الذي حَقَّقَ قفزة في ظل أوسلو، سواء على طريق تهويد الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، بما قاد إلى تبديد حلم الدولة المستقلة، أو على طريق التغلغل في المحيط العربي، وذلك حين أطلق هذا الشعب انتفاضَتَهُ الكبرى الثانية في أيلول عام 2000، والتي سجلَّتْ بروزَ دور الحركات الإسلامية في النضال التحرري الفلسطيني، مجددةً طاقات شعب فلسطين، بعد أنْ تَوَهَّم الأعداء بتلاشيها على وَقْعِ أوهام حلول التسوية التصفوية.
ومع انتفاضة الأقصى، وتنامي حضور تيار المقاومة على الساحة الوطنية الفلسطينية، جاء الانقسام الذي ضرب الساحة، وذلك في موازاة الانقسام الذي عم المنطقة وطال كل ساحة عربية، وهو انقسامٌ بين نهج الصمود والمقاومة من جهة، وبين نهج الخضوع للمشروع الاستعماري من جهةٍ ثانيةٍ، والذي دخلت على خطه الإمبريالية الأمريكية بكل ثِقَلِها، بعد أنْ غَدَتْ منذ نشر قواتها في المنطقة، وغزوها للعراق، لاعبًا أكثرَ فاعليةً فيما يتعَلَّقُ بمسار الأحداث في المنطقة، مُوَسِّعَةً اعتمادها على نظم وقوى سياسية وفئوية عربية عملتْ على بناء تحالفٍ بينها وبين القاعدة الصهيونية، التي بقيت ركيزةَ أمريكا الأساسية في سَعْيِهَا لفرض هيمنتها على دول وشعوب المنطقة.
ويؤكد المديني من خلال عرضه لتداعيات الأحداث في المنطقة وعلى الساحة الفلسطينية، هو أنّ الخطر ما زال قائمًا على قضية فلسطين، وأنّ مخطط التصفية لم يُهْزَم، ذلك أنّ القوى الاستعمارية ما زالت متمسكة بمشروعها، وما زالت قادرة على الدَّفْع بهذا المشروع بأساليب جديدة تعمل على ابتكارها، معتمدةً على ما تملكه من مصادر القوَّة، وعلى من أمكنها تجنيدهم على أرضية هذا المشروع من قوى إقليمية ودولية لا يستهان بإمكاناتها.
تصفية كاملة
وفي الوقت الذي يُطالب فيه البعض بوقف المقاومة ويُجرّمها تقر إسرائيل زيادة النفقات الأمنية الإضافية بقيمة 5،1 مليار شيكل؟!!! ومنذ أوسلو، ومروراً بكل الاتفاقات والتفاهمات واللقاءات والتصريحات والمباحثات التي استغرقت أكثر من تسعة عشر عاماً، لا تزال القضية تراوح مكانها، وما زال الاحتلال يقضم الأراضي الفلسطينية من كل أطرافها، والعدوان والتنكيل والحصار والاغتيالات في تصاعد مستمر، والقدس تسقط تدريجياً في مخطط التهويد والتدنيس.. رغم أن ما كان مطروحاً للتسوية هو انسحابها من الأراضي العربية المحتلة في تموز /يونيو‏1967،‏ والقبول بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية‏.!!
وقد أظهر استطلاع للرأي نشرت نتائجه صحيفة "جيروزاليم بوست" في‏28‏ آب/‏2009‏ أن غالبية الإسرائيليين اليهود تعارض تجميد الاستيطان ولو مؤقتا‏.‏ وعارض‏50%‏ من المستطلعين‏، وجميعهم من اليهود ‏(80%‏ من الإسرائيليين‏)‏ تجميد أعمال البناء العام في إطار اتفاق مع واشنطن‏.‏ فيما أيده ‏40%‏ منهم ولم يبد‏9%‏ رأيا‏.‏ كما كشف استطلاع رأي آخر نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" في‏10‏ آب/‏2009‏ أن غالبية الإسرائيليين يؤيدون سياسة حكومة بنيامين نتنياهو التي تشجع استمرار عمليات البناء في المستوطنات‏.‏ ويكشف الاستطلاع الذي أعده مركز "الحرب والسلام" في جامعة تل أبيب أن‏66%‏ من الإسرائيليين يؤيدون البناء في مدينة القدس لأنها تشكل‏،‏ بقسميها حسب رأيهم‏،‏ عاصمة دولة إسرائيل‏،‏ بينما عارضه‏27%‏ أغلبهم من اليسار الإسرائيلي‏.‏
ويتزامن هذا مع المطالبة الدائمة لإسرائيل‏ بإلتزام أمريكا و"العرب" بالكف عن مطالبتها بوقف سياسة التوسع الاستيطاني في القدس والضفة الغربية والموافقة على الشروط الإسرائيلية للقبول بإقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، وبالتحديد اعتراف الفلسطينيين والعرب بإسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي‏، وحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين خارج حدود إسرائيل والتصفية الكاملة لحق العودة والمطالبة بأن تكون التسوية نهاية لأي مطالب‏، وضرورة أن تكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح‏،‏ وأن تأخذ في الاعتبار كل متطلبات الأمن الإسرائيلي بما فيها منح ضمانات دولية لنزع السلاح والتدابير الأمنية مع الفلسطينيين‏.‏
واعتبر ألوف بن في ("هآرتس" 9/10/2009)، "أنه منذ عودته إلى السلطة، غيّر بنيامين نتنياهو التعامل الإسرائيلي مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. فرؤساء الحكومات السابقين، أرييل شارون وايهود أولمرت، عرضوا عباس كـ" فلسطيني جيد" وكزعيم المعتدلين المعارضين (للإرهاب)، في مقابل "الفلسطينيين الأشرار"، مثل ياسر عرفات وقادة حماس والجهاد...
يحظى موقف نتنياهو بتأييد الجمهور الإسرائيلي، الذي لا يكن الود، بصورة خاصة، إلى عباس، ويرى فيه زعيماً ضعيفا. كما أن رفض عباس لاقتراح "السلام" الذي تقدم به أولمرت يساعد نتنياهو في تقديم رئيس السلطة بصورة الرافض "للسلام" أمام الرأي العام الإسرائيلي، على الرغم من أن نتنياهو أيضاً يعارض اقتراح أولمرت ويعتبره عرضاً مفرطاً وخطيرا.
ثمة لنتنياهو وعباس تصوران متناقضان حول طريقة تسوية النزاع. عباس يريد العمل من أعلى إلى أسفل: تعترف إسرائيل أولاً بحقوق ومطالب الفلسطينيين، وبعدها تُبحث التفاصيل وتطبيقها. نتنياهو لا يعتقد بأنه يمكن حل مشاكل القدس واللاجئين، والدولة المنزوعة السلاح التي يقترحها على الفلسطينيين بعيدة عن إرضاء الحد الأدنى من مواقفهم. وبدل الحديث عن اتفاق دائم وفق صيغة يوسي بيلين وبيل كلينتون، يريد نتنياهو العمل من أسفل إلى أعلى: البدء في "السلام" الاقتصادي وبناء مؤسسات الحكم الفلسطينية في الضفة الغربية، وتأجيل المواضيع الأُخرى إلى مستقبل غير محدد- وفي هذه الأثناء تحتفظ إسرائيل بالسيطرة على الأرض وعلى المستوطنات".
سقوط نهج المفاوضات
والجذر الأساسي لما حدث خلال المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي يكمن في أن قيادة السلطة اعتمدت المفاوضات كأيديولوجية وليست مجرد سياسة أو أحد أساليب تحقيق الأهداف الفلسطينية.
واعتبر الكاتب الفلسطيني هاني المصري أن السياسة الفلسطينية كانت في أواخر حياة ياسر عرفات، وكانت لفترة من الزمن تؤمن بأهمية المفاوضات، وأن المفاوضات هي الأسلوب الوحيد لحل الصراع وذلك بعد توقيع اتفاق أوسلو، وهي أخطأت بذلك، ولكن بعد أن وصل أتفاق أوسلو إلى طريق مسدود وفشلت قمة كامب ديفيد قال "أبو عمار" لنبدأ من جديد وأعاد الاعتبار للمقاومة، وإن بشكل ملتبس. فقد دعا لإدانة الإرهاب (أي المقاومة) علناً ودعمه سراً. لقد أدرك خطورة الاستمرار باعتماد المفاوضات كخيار وحيد.
بعد رحيل ياسر عرفات أصبحت المفاوضات أيديولوجية كاملة وليست مجرد وسيلة، أو سياسة من جملة السياسات. فالمفاوضات أصبحت حياة، مفاوضات إلى الأبد وبأي ثمن. وعندما تفشل جولة من المفاوضات فالحل يكمن في المزيد من المفاوضات. وعندما تتعنت إسرائيل وتواصل العدوان والاستيطان والجدار والحصار والاعتقال ويتضح أنها لا تريد السلام ومعادية له، يقال لا بديل عن المفاوضات وهي الخيار الوحيد.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن السياسة التي أطلت برأسها بعد الانقسام الفلسطيني وسارت رويداً رويداً، هي التي تقوم على ضرورة اعتماد المفاوضات كأسلوب وحيد زائد عمل كل شيء لاسترضاء الولايات المتحدة الأميركية كطريق لإقناع إسرائيل بتلبية المطالب الفلسطينية.
لقد تجلت أيديولوجية المفاوضات بأسوأ صورة من خلال الاستمرار بالمفاوضات العبثية رغم استمرار إسرائيل بفرض الحقائق الاحتلالية على الأرض، وبالتخلي عن شرط التطبيق المتبادل والمتزامن للالتزامات الفلسطينية والإسرائيلية الواردة في خارطة الطريق (التي لم توافق عليها إسرائيل أبداً) على أساس أن تنفيذ الالتزامات الفلسطينية من طرف واحد، يحقق المصلحة الفلسطينية ويحرج إسرائيل ويضع العالم، وخصوصاً أميركا وبقية أطراف اللجنة الرباعية والدولية أمام مسؤولياتها التي ستدفعها للضغط على إسرائيل حتى تحقق التزاماتها. لقد جرب هذا الطريق منذ أكثر من عامين وفشل فشلاً ذريعاً لأن إسرائيل لم تطبق التزاماتها، واكتفت بتقديم بعض التسهيلات بإزالة بعض الحواجز وزيادة بطاقات الشخصيات الهامة وأشياء من هذا القبيل.
تحديات كبيرة
ولم نقرأ جيداً حركة التاريخ التي لا تنتهي، وكل ذلك يضع العرب أمام تحديات كبيرة في المستقبل، وأي انتصار على إسرائيل، أو أي مواجهة ناجحة للتحديات العالمية، يتطلبان منا الانتصار في معاركنا الذاتية أولاً، وعلى جميع الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها. فمواجهة إسرائيل ومواجهة المستقبل يتطلبان مشروعاً شاملاً لا يبدو حتى الآن أن العرب لديهم الخيارات التي تدفعهم باتجاهه. ورغم هذا فالفلسطينيون في قطاع غزة محاصرون وصامدون، وفي الضفة ورغم كل الإجراءات الصهيونية والتنسيق الأمني بين السلطة والكيان مازالوا ينافحون ويواجهون، وفي القدس والأقصى معركة كبيرة يخوضونها نيابة عن الأمة كلها، وفي الأراضي المحتلة منذ العام 1948 ما زال الفلسطينيون هناك صامدين رغم حملات التهويد والترحيل والترانسفير..
وتوقع "آفي يسسخروف" في مقالة له نشرتها صحيفة "هآرتس" العبرية (9-10-2009)، انه قد لا تكون هناك انتفاضة ثالثة لتعب الجمهور الفلسطيني في الضفة، بحسب قوله، ولكن السؤال كيف يمكن مواجهة الأحداث دون أن يكون لها تواصل في الغد.
وقال يسسخروف: 'بعد تسع سنوات وعشرة أيام بالضبط من اندلاع انتفاضة الأقصى من شأن التوتر حول الحرم أن يبعث اليوم مرة أخرى اندلاعاً للعنف بين الفلسطينيين وإسرائيل'. وأضاف: 'الانتفاضة الثالثة تبدو شبه خيالية في هذه المرحلة، ولا سيما في ضوء تعب الجمهور الفلسطيني في الضفة، الوضع الاقتصادي المتحسن وعدم رغبة السلطة في التدهور الشامل، ولكن من الصعب على المرء أن يتوقع إلى أين ستؤدي المظاهرات والصدامات..'.
وقال: 'في كل الأحوال، في إسرائيل لا يرون في هذه اللحظة مصلحة فلسطينية حقيقية في انفجار في الضفة، ويحتمل أن يكون هذا التقدير دقيقا، ومع ذلك فان 'الجندي الأول الاستراتيجي' قد يجد نفسه مرة أخرى في العناوين الرئيسة.. جندي واحد يقرر إطلاق نار حية نحو راشقي الحجارة، أو متظاهر واحد من فتح يقرر إطلاق النار من داخل الجمهور نحو جنود الجيش الإسرائيلي يمكنهما أن يغيرا الصورة تماما'.
المفاوضات في الشروط الراهــنة، وفي موازين القوى المرتسمة على أرض الصراع، لن تقود إلى مكان. الفراغ السياسي سوف يتعاظم، ومؤشرات الاستقرار الأمني والاقتصادي في الضفة الغربية ليست سوى حالة مؤقتة ووهمية وسريعة الذبول.
هذا الأمر خالفه الكاتب الياس خوري، الذي اعتبر أننا أمام مقدمات انتفاضة فلسطينية ثالثة. والانتفاضة لن تكون وليدة قرار تتخذه هذه القيادة السياسية أو تلك، بل ستكون وليدة انفجار شعبي يتنامى، وهي بهذا سوف تكون استكمالاً لانتفاضة أطفال الحجارة التي فاجأت القيادة الفلسطينية، قبل أن يتم تبنيها، ويتحول القطاع الغربي في حركة فتح، الذي كان يقوده الشهيد خليل الوزير، إلى مركزها وعصبها السياسي والتنظيمي.
ولدت الانتفاضة الأولى من اليأس والإحباط، وتشكلت علاماتها الأولى في حرب المخيمات الوحشية في لبنان، التي قالت للفلسطينيين في الوطن المحتل وفي الشتات أنهم وحدهم، وان الحصار سوف يستمر من أجل الوصول إلى إبادتهم سياسيا.
من هنا، ومن عمق اليأس، ومن انسداد أي أفق لتسوية عقلانية تحفظ الحد الأدنى من الحقوق الإنسانية والوطنية للشعب الفلسطيني، سوف تولد الانتفاضة الثالثة.
وتعبيراً عن حالة الرفض الفلسطيني لوجود الاحتلال فقد استمرت المقاومة بعملياتها؛ وذكر تقرير لجهاز الأمن العام الإسرائيلية 'الشاباك' في (7-10-2009)، أن هنالك ارتفاعاً في عدد العمليات التي ينفذها الفلسطينيون ضد الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية وانطلاقاً من قطاع غزة.
ولفت التقرير إلى أن الفلسطينيين نفذوا 95 عملية في شهر سبتمبر/ أيلول المنصرم في مقابل 57 نفذت في شهر أغسطس/ آب.
الانتفاضة الجديدة لا تأتي من لامكان، وليست نتيجة الخيبة أو الانسداد السياسي فقط، بل هي ثمرة تراكم تجارب متعددة ومتنوعة، وخبرات ونضالات تبدو صغيرة، لكنها تحمل جميع مؤشرات الامتداد والنمو.
وأكد د.رمضان شلح الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في مقابلة مع فضائية الجزيرة القطرية (7-10)، أن أي جهود جديدة للمصالحة ومعالجة حالة الانقسام يجب أن تبنى على أسس واضحة تنتصر للمقاومة وتعتبرها الطريق الوحيد لإعادة حقوقنا المسلوبة. مشدداً على أن خطط السلام التي قادها محمود عباس عبر أوسلو لم تسفر إلا المزيد من الأراضي الضائعة وتهجير المواطنين والتوسع في الاستيطان حيث وصل عدد المستوطنين في الضفة الغربية إلى نصف مليون مستوطن بعد أن كان قبل أوسلو مائة ألف.
وأوضح د. شلح أننا نقف أمام حكومة يمين إسرائيلية تعتبر معركتها السياسية هي في حسم موضوع القدس واعتبارها عاصمةً لإسرائيل، مشيراً إلى أن الواقع على الأرض يساعدهم في ذلك، حيث أن القدس تشتمل على 34 مستوطنة فيها ربع مليون مستوطن، فيما يقطن المدينة 35% من الفلسطينيين وأن هنالك قراراً إسرائيلياً ألا تزيد نسبتهم عن 12%، لذلك فإن هنالك مخططاً لتهجيرهم، وذلك خشيةً من القنبلة الديموغرافية التي تشكل هاجساً كبيراً لديهم.
لافتاً إلى أن هذه المعركة على المدينة المقدسة يمولها قرابة 13 مليون يهودي حول العالم، بأكثر من مليار ومائتي مليون دولار سنوياً بهدف تهويدها.
أما عن الأهداف الإسرائيلية من وراء رفضهم تقسيم القدس، فيمكن إيجازها كما يقول "نداف شرغاي" الصحفي الإسرائيلي المتخصص في شئون القدس، ومؤلف دراسة "القدس ومخاطر التقسيم"- أنه حاجة ملحة ولا مفر منها، في سبيل وضع حد للتقلص الجاري للوضع السكاني اليهودي في المدينة.
وفي ضوء هذه المخاطر الكامنة في المدينة، على الصعيد الديني التاريخي للشعب اليهودي ومقدساتها، تقترح هذه الأوساط التكيف مع "المشكلة الديموغرافية" للقدس من خلال معالجة أصلية أساسية للمشكلة من خلال البحث في حلول لظاهرة هجرة اليهود من القدس، ومحاولة التخلص منها، والقضاء عليها مستقبلاً.
وترى الدراسة الصادرة حديثاً عن معهد القدس لشئون الدولة، وأوردها عدنان أبو عامر في موقع (إسلام أون لاين 8/10/2009)، أن مستقبل المدينة، يحتوي على مخاطر كبيرة تجعل الإسرائيليين يخسرون الكثير من النقاط، وتعرض الدولة للعديد من الإشكاليات، أهمها: بقاء الأحياء العربية، بما فيها الصغيرة، يعرض سكان المدينة اليهود، خاصة القاطنين على خط التماس على حدودها، لمخاطر أمنية صعبة ومحيطة بهم من كل جانب، أخطرها أن هؤلاء السكان اليهود سيكونون عرضة لنيران القناصة الفلسطينيين.
على صعيد آخر، فإن المخاطر المتوقعة لتطبيق قرار تقسيم المدينة، قيام عشرات الآلاف من اليهود بهجرها والرحيل عنها، كما حصل عقب حرب عام 1948، وتقسيم المدينة آنذاك، حيث غادر المدينة ما يقرب من 25 ألف يهودي، وهم ربع سكان المدينة اليهود تقريباً.
ويتوقع باحثون سياسيون إسرائيليون في تحليلات غصت بها الصحف اليومية، انتقال عشرات الآلاف من سكان المدينة العرب للسكن في الجانب الإسرائيلي من حدود المدينة التي ستغدو "مقسمة"، وهي إمكانية واقعية وقائمة بالفعل، لاسيما أن بقاء الأحياء العربية في المدينة غدت تشكل "أمراً واقعاً".
ويدفع هذا الواقع الجديد بعشرات الآلاف من سكان المدينة الفلسطينيين للانتقال والإقامة في الجانب الإسرائيلي من جدار الفصل العنصري، في ظل تراجع خيار تقسيم المدينة بصورة مقلصة، بفعل بنائه بشكل يحيط بشمال المدينة.
بقي أن نذكر، أن دراسة "شرغاي" المشار إليها سابقاً ترجح أن إسرائيل كدولة ستجد صعوبة حقيقية في منع الهجرة الفلسطينية إلى داخل حدودها، لاسيما إذا تم حرف مسار الجدار الفاصل نحو الغرب والجنوب والشمال، باتجاه الأحياء السكنية اليهودية، وبالتالي فإن إمكانية معاودة هذه الهجرات من جديد أمر قابل للحدوث لذات الأسباب التي حدت بحدوث الهجرات السابقة.
يأتي ذلك أخيراً، في ضوء وجود توقعات أنه على جانبي الفصل في المدينة المقدسة حدوث مكاسب اقتصادية وديموغرافية، لاسيما على صعيد تحلل عرب شرقي القدس من الضرائب المختلفة، التي تتم جبايتها بواسطة سلسلة من الأوامر القضائية الإسرائيلية، كما أن هذا التقسيم –كما يذكر ذلك المحللون والباحثون الإسرائيليون- سيأتي بأضرار محدقة بـ"الحق اليهودي" للإقامة في المدينة المقدسة، ومساً خطيراً بما يسمونه "الجذور اليهودية" للمدينة.
وجهة المعركة الصحيحة
وعاد «الإسلام» ثانية إلى المقدمة في خوض الصراع مع العدو، وهو الذي لم يغب على المستوى الشعور والوجدان الشعبي، مع انطلاق الانتفاضة الأولى وانتفاضة الأقصى وبروز تيارات مقاومة جديدة تتخذ من الإسلام مرجعية أساسية لها في مواجهة العدو (الجهاد الإسلامي وحماس). وتكمن خصوصية المشهد الفلسطيني في هذه النقطة بالذات من خلال القدرة على فهم النصوص الشرعية واستيعابها، ومن ثم القيام باستثمارها وتوظيفها بشكل فعال في خضم مواجهة العدو، فكانت مقدمة سورة الإسراء (بنو إسرائيل) على سبيل المثال، حافزاً لإنجاز الوعد الإلهي بدخول المسجد الأقصى كما دخله المسلمون أول مرة، وإساءة وجهه في كل محفل.
وتم تنبيه الأمة على مكانة فلسطين والمسجد الأقصى في الإسلام والديانات السماوية كافة، والتركيز على مفهوم الرباط الدائم في أرض النبوات والرسالات: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، قالوا: أين هم يا رسول الله؟ قال: في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس) رواه الإمام أحمد في مسنده.
ورافق الإسناد الإسلامي، على المستوى الشعبي، الذي حظيت به القضية الفلسطينية إسناد شعبي عربي يرجع إلى فشل المشاريع الغربية في تغييب رابطة اللسان والدم وإزالتها، وقدرة الجماهير العربية على تجاوز هذه المخططات، دون إغفال دور الصحوة الإسلامية التي عمت أرجاء العالم العربي في تفعيل ذلك.

فضلاً عما امتاز به الشعب الفلسطيني، وبشهادة أعدائه، من مواصفات مميزة أسهمت بقوة في ثباته على حقه وصموده في وجه طغاة الأرض وجبروتهم، فالشعب الفلسطيني، ودون أن تأخذنا في ذلك عصبية أو شوفينية، شعب ذكي وصبور، شجاع حتى في أحلك المواقف، يتمتع بذاكرة حية أفشلت على مدار السنين ما تمناه قادة الكيان الصهيوني (بن غوريون) حيال قضيته: «الكبار سوف يموتون والصغار سوف ينسون». بالإضافة إلى القدرة العالية على الإبداع والابتكار وتنويع أساليب المقاومة إلى الحد الذي أوصل فيه عدوه إلى اليأس في مواجهته.
ورغم الظروف العصيبة التي تمر على شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية والإسلامية، إلا أن هناك مخاض أليم يتحدد على أثره انتصار شعبنا وأمتنا وقوتها، وصعود زمنها في مقابل هزيمة المشروع الصهيوني ـ الأمريكي وانتهائه. فشعبنا الفلسطيني يكافح ويجاهد العدو الصهيوني، رغم حالة الانقسام الحاد، والظروف الاقتصادية والأمنية العصيبة التي يعيشها، إلا أن المقاومة تؤكد من جديد عبر رسائل ممهورة بالدم أن الوحدة والمقاومة هما طريق الانتصار...
فخِيَارُ المقاومة هو الذي أبقى القضية الفلسطينية حيَّةً، أمّا خيار التسوية ، فهو الهزيمة بعينها للأمة. فـ (إسرائيل) لن تقبل السلام؛ لأن السلام هو النقيض التاريخي لوجودها كبِنْيَةٍ مجتمعية أيديولوجية وسياسية وعسكرية، تقوم بدور وظيفي في منطقة الشرق الأوسط.
ومما تقدم يتضح أن الشعب الفلسطيني لا يوجد أمامه إلا طريقين: مواصلة المقاومة وتحقيق الانتصار على العدو مع ما يترتب على ذلك من جهود وتضحيات جسام، أو أن يُفرض عليها الاستسلام ويرضى به، وتثبت الحقائق أن هذا الأمر مستبعد لأسباب عديدة لا مجال لذكرها الآن. وعلى ضوء هذا فإن الشعب الفلسطيني الذي لم يستكن، وواصل جهاده ومقاومته من أجل تحرير أرضه لا يمكن له إلا أن يختار خيار المواجهة والصمود سبيلاً وحيداً لدحر الاحتلال. وفي المقابل على الشعوب العربية والإسلامية تقديم يد العون، والنصرة للشعب المظلوم حتى لا نصبح يوماً والغزو الصهيوني قد وصل إلى بيوتنا جميعاً وعندئذ لات حين مندم.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق