الخميس، 19 نوفمبر 2009

عودة المهجرين التونسيين بين الإرادة والمستحيل



الأستاذ سليم بن حميدان
تظل قضية المهجرين التونسيين مثار اهتمام وطني، خصوصا عقب المؤتمر التأسيسي للمنظمة الدولية للمهجرين التونسيين، الذي انعقد في جينيف يومي 20 و21 جوان 2009. لقد شكل تأسيس هذه المنظمة تتويجا لجهود وحوارات مجموعة من مناضلي المهجر استغرقت زهاء السنتين تقريبا.
تاريخيا، بدأت قضية العودة تطفو على سطح الاهتمام المهجري بعيد ضمور الحراك الوطني على إثر ضمور " حركة 18 أكتوبر" وما أنتجه ذلك من مشاعر فشل وإحباط شبيهة بالمشاعر القومية بعد كل نكبة عربية. مشاعر الإحباط هذه أنتجت وعيا شقيا تحت مسمى النقد الذاتي والمراجعات التي ارتكزت جميعها على مقدمة مركزية : استحالة التغيير بالوسائل والأحزاب والشخصيات الفاعلة في ساحة المعارضة الوطنية بجميع أطيافها.
وقد أفضى هذا الوعي الشقي لدى بعض أصحابه إلى خلاصة عبقرية مفادها قلب استراتيجية المقاومة ليصبح المظلوم هو المستهدف لا الظالم. فكل ما حل بنا من شرور وكوارث، في منظور هذا الوعي الشقي طبعا، سببته أحزاب متنطعة استولت عليها قيادات نرجسية تتبعها "قواعد" مثالية ولا يستند نضالها العبثي المدمر إلا إلى مقاربات سياسوية تغذيها مراهقة فكرية لم تفقه شيئا في علوم السياسة وفنون الحرب والدبلوماسية!
تجلت هذه الروح الانهزامية في عديد المقالات المنشورة على مواقع الانترنيت، ثم تحولت بسرعة فائقة إلى مسار سياسي هو ذات المسار الذي أدى إليه فكر الهزيمة العربية : التطبيع مع الغاصب.
سيبقى لهذا الفكر والمسار طبعا أنصار ومنظرون إلى أن ينتهي الاستعمار والاستبداد من على وجه البسيطة. وسيجد له من المبررات الفكرية والسياسية وحتى الأخلاقية، فيما هي واقعية وبراغماتية، ما يؤسس به لمشروعية وجوده ضمن مربعات التدافع الإنساني.
بعض أصحاب هذا الخط من المهجرين عاد إلى تونس في إطار "عقد إذعان" حيث يذعن المغلوب لإرادة الغالب ويقبل بكل شروطه، مهما كانت مجحفة، أملا في تحسينها مستقبلا بعد إثبات حسن السيرة والإقلاع نهائيا عن معصية المعارضة... ولا يزال فريق آخر منهم يتودد ويأمل وينتظر !
وبغض النظر عن خلفيات أنصار التطبيع ودوافعهم، إذ فيهم عرفاتيون ودحلانيون، فإن النتيجة واحدة : الموت السريري بعلقم القهر الداخلي (الضمير) بعد أن تجرعوا من كأس الذلة والابتزاز أكوابا. على الضفة الأخرى، من مشهد التهجير المؤلم، يقبع مئات المناضلين وقد أعياهم الحنين إلى أهل كرام ووطن كسيح.
ازداد شقاؤهم أضعافا وهم يشاهدون رفاق دربهم ومحنتهم يتسللون لواذا إلى أحضان المتغلب شاكرين فضله ومعددين خصاله ومتهمين من خالفهم ورفض سلوك دربهم بالتنطع والفشل واستغلال مآسي الآخرين. كانت اللحظة حرجة والصراع على أشده، داخل كل مناضل، بين نداء الفطرة (العودة إلى الوطن مهما كان الثمن) وصرخة الضمير (التضحية بالوطن من أجله).
وفي أتون هذا الصراع تخلق الوليد الجديد: المنظمة الدولية للمهجرين التونسيين، في محاولة للجمع بين المتناقضات بأن تكون العودة كريمة عبر تحسين شروطها والضغط حقوقيا لتوفير ضمانات الأمن والكرامة. جاءت المنظمة إذن لتخرج مطلب العودة من دائرة المعالجة الأمنية وتحرره من قبضة المخابرات ووزارة الداخلية.
ولسنا ندعي كسبا إذا ما اعتبرنا نقل الموضوع إلى وزارة العدل وتداوله تحت قبة البرلمان التونسي وفي أعمدة الصحافة الرسمية (الشروق والصباح) قبيل مؤتمر المنظمة وبعيده، قد جاء على خلفية الحراك الإعلامي للمهجرين والثقل الأخلاقي والإنساني لملفهم الأمر الذي سبب قلقا حكوميا عبرت عنه تصريحات رسمية رفيعة المستوى.
وقد كان انعقاد مؤتمر جينيف في ظل وضع خيم فيه تسليم كامل بحقيقة تربع النظام الحاكم سيدا مطلقا لا منافس له في لعبة التوازنات السياسية، وتعددت مقاربات المؤتمرين، أي المهجرين أنفسهم، للموضوع باختلاف تصوراتهم للحلول الممكنة.
وفي واقع الأمر لم تكن هذه المقاربات أو التصورات متناقضة، في جوهرها أو في أهدافها، رغم الرفض القاطع لتسييس مطلب "العودة الآمنة والكريمة" لدى شريحة كبيرة من المؤتمرين، لأن هذا الموقف ينطلق بدوره من خلفية قراءة لها "عقلانيتها السياسية".
فلا يطرح الأمر إذن إطلاقا من زاوية "الخلفية أو الروح النضالية" للمؤتمرين ولا يطال حتى نظرتهم "الموحدة" للطبيعة القهرية للنظام بل يطرح في إطار مطلب الفاعلية التماسا لأنجع السبل "النضالية"، حقوقية كانت أم سياسية، لتحقيق مطلب العودة.
إن نقطة الاختلاف الجوهرية بين المهجرين التونسيين كانت ولا تزال مرتبطة بالمسار الأصوب للتسوية بين خياري المعالجة الفردية والحل الشامل.
وباعتبار التكلفة الباهظة للمعالجة الفردية، وعيا وكرامة، وللحل الشامل، شقاء وتضحية، اتفق المهجرون في جينيف على إستراتيجية الحد السياسي والأخلاقي الأدنى الذي يجعل من مطلب العودة ممكن التحقيق في ظل الوضع الراهن دون ثمن من كرامة، ولكن مقابل تحييده وفصله عن باقي الحقوق والمطالب المدنية والسياسية.
هذا الموقف، ينبثق من خلفية براغماتية "مشحونة" بأثقال أزمة سياسية حادة محاولا حلحلتها وفتح معابر جديدة داخلها لكنه أيضا موقف مسكون بروح الإباء و المسؤولية الوطنية والوفاء التاريخي لنضالات رفاق الدرب من الذين دفعوا الثمن غاليا، موتا وسجنا وتعذيبا لأجل الحرية والكرامة.
إنه موقف جديد وخطير، في مضمونه السياسي من حيث استعداده للتنازل، غير أنه لم يصب لحظته التاريخية فيما هي رغبة مماثلة أو استحقاق أكيد لدى الطرف المقابل، أي النظام الحاكم، إذ تدل كل المؤشرات للأسف الشديد، على تواصل بل تفاقم حالة الصمم والانسداد بما يجعل من العودة الكريمة أمنية مستحيلة أشبه ما تكون بالسراب الذي يتراءى للمهجر المتيم بحب الأوطان عصي المنال.
باختصار، تبين لجموع المهجرين أن ليس للنظام الحاكم أي استعداد للاستجابة لمطالبهم وقد شكلت قضية الدكتور أحمد العش رسالة مضمونة الوصول وواضحة الدلالة على إصرار السلطات التونسية لا على التعامل القضائي فحسب بل على الابتزاز والمقايضة الرخيصة التي تقصد الإهانة والإذلال.
ولسنا نذيع سرا إذا ما قلنا بأن أكثر الرؤى تشاؤما لم تكن تتوقع أن يلقى الدكتور أحمد العش المصير المعلوم خاصة وقد تجنبت عودته ملامسة الخطوط الحمراء وتوفرت فيها من الأعذار الإنسانية (مرض والده وغياب أحكام معلومة صادرة في حقه) ما يجعلها خارجة تماما عن سياق المغالبة السياسية.
بل إننا نجزم بأن الرجل لم يتسن له تجنب الأسوأ إلا باتخاذ الاحتياطات الحقوقية اللازمة (لجنة الدفاع الدولية) والتي شكلت وسيلة ضغط خصوصا لاعتبار الطبيعة المهنية للقائمين عليها المتزامنة مع ظرف انتخابات تسلط فيها الأضواء على كل ما يحدث في تونس.
وعليه، فإن مسار التسوية الفردية لا يفضي، إلى حد الآن، إلا إلى مصير أوحد: الخضوع الكامل لإجراءات الجهازين الأمني والقضائي والإقلاع نهائيا عن "معصية" المعارضة السياسية، أي العودة إلى ما قبل التاريخ في المسيرة النضالية.
غير أن الوعي والاحترام المبدئي الكامل لاختيارات المهجرين، المتضمن في مبادئ المنظمة ومقررات مؤتمرها التأسيسي، دفعا قيادة المنظمة إلى توجيه رسالة داخلية لجميع أعضائها عبرت فيها بوضوح عن تجندها للدفاع عن الراغبين في التسوية الفردية مع تأكيد التزامها المبدئي بمواصلة النضال حتى تحقيق الحل الشامل وإنهاء محنة التهجير بعودة آخر مهجر إلى أرض الوطن في أمن وكرامة.
خطان متمايزان يفرقهما السياسي ويوحدهما الحقوقي تحت عنواني الإرادة والاستحالة. يعي جميع أعضاء المنظمة أن عودتهم، في إطار مقررات لائحتهم العامة المنبثقة عن المؤتمر التأسيسي، هي من قبيل المستحيل في الظروف الراهنة، ولكنهم يدركون في المقابل أن مستحيل اليوم قد يكون ممكن الغد وأن ليس لهم إلا الإرادة والصبر سلاحا لتحقيق الأمل شريطة أن تكون هذه الإرادة متوهجة ومتحررة في ذاتها من أمراض العمل الجماعي والزعامة الوهمية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق