الجمعة، 6 نوفمبر 2009

الصداقة الأمريكية القاتلة

الخطر الأكبر على رئيس السلطة الفلسطينية ومن معه

يبدو كأنّ الولايات المتحدة الأمريكية تريد أن تخنق محمود عباس والفريق الذي يواليه من فتح بعناقها.

عندما كانت الولايات المتحدة الأمريكية دولة محترمة، أو كانت تبدو كذلك لمن يغفل أو يتغافل عن هيروشيما وفييتنام، وعن غزوات احتلال بلدان أمريكا الجنوبية، وعن قصف جرانادا وليبيا، وعن سوى ذلك من ألوان العدوان العسكري، ناهيك عن السياسات المالية والاقتصادية الاستغلالية وإسهامها الأكبر في بؤس خُمس البشرية على الأقلّ..

عندما كانت الولايات المتحدة الأمريكية نصيرة الدول المستضعغة ضد الاستعمار التقليدي عند من يقرؤون التاريخ حسبما يراد لهم وليس حسب أحداثه الفعلية وما تشمله من حملات متواصلة وحروب دموية للهيمنة..

عندما كانت الولايات المتحدة الأمريكية الدولة التي ينظر إليها كثيرون عبر أفلام خيالية، ودعايات إعلامية، وشعارات مغرية..

عندما كانت الولايات المتحدة الأمريكية مقصد الواهمين ممّن يحسبونها منبع الأحلام، وبلد الحريات، لا عنصرية فيها ضدّ السود والملوّنين، ولا جريمة فيها ولا مخدرات، ولا استغلال للفقراء والمحرومين، ولا تلويث فيها للبيئة الطبيعية والبيئة الاجتماعية..

عندما كان الوهم كبيرا والرؤية مشوّشة على كثيرين..

آنذاك كان بمقدور بعض الزعماء والقادة -حسب وصفهم لأنفسهم ووصف حاشيتهم لهم- أن يشيدوا بعلاقة صداقة تربطهم بالساسة الأمريكيين، بل ويجتاحهم الزهوّ والفخر علنا وبصورة استعراضية لمجرّد استقبالهم من جانب الساسة الأمريكيين، وهذا بغضّ النظر عمّا يقولونه لهم أو يملونه عليهم في الخفاء (أصبح ذلك علنيا في هذه الأثناء)، ومنهم من يجعل علاقة الصداقة الحقيقية أو المزعومة مع واشنطون وصانعي القرار فيها، حجّة لأنفسهم، وللتأكيد أنّهم سيصلون بذلك إلى أهدافهم المعلنة، وسيحقّقون بعض الوعود السخية التي أطلقوها عند وصولهم إلى كراسي صنع القرار المحلي في هذا البلد أو ذاك.

أي عاقل يمكن أن يصنع ذلك الآن؟..

لقد انكشف أمر الهيمنة المتعجرفة الدموية الأمريكية للقاصي والداني في أنحاء العالم..

بات أهل الولايات المتحدة الأمريكية أنفسهم يضيقون ذرعا بصانعي القرار في بلدهم، وكثير من المفكّرين والعقلاء يحذّرون من العواقب..

أصبحت دول حليفة حميمة لواشنطون على مدى عقود عديدة تبرّئ نفسها من السياسة الأمريكية، وتسعى للتميّز عنها، إلاّ في حالة التقاء المصالح العدوانية، وليست واشنطون وحدها العدوانيّة في عالمنا المعاصر، فلا بأس آنذاك في تجاوز وصمة المذابح والتعذيب والإجرام في جوانتانامو وأبو غريب والفلوجة والحديثة والمعتقلات السرية والمحاكمات العسكرية، مثلما سبق تناسي هيروشيما وفيتتنام وما تلاهما.

ولئن كانت شعوب الأرض وحكومات دولها، على استعداد للتغاضي عن ذلك كلّه، فهل يمكن للشعوب العربية والإسلامية أن تتغاضى أيضا، وهي في مقدمة الضحايا؟..

إذا كانت قضايا اجتياحات لبنان، وغزو أفغانستان، وضرب الصومال، والتآمر على السودان، من القضايا الغائبة عن أعين أهل أوسلو في فلسطين، فهل يغيب عنهم مشهد تحطيم العراق والإنسان العراقي.. بل هل تغيب عنهم قضية فلسطين نفسها من لحظة ولادتها إلى عهد بوش الابن؟..

كان من المفروض أن يدرك المخلصون في منظمة فتح، أنّ أحد الأسباب الرئيسية للخسارة، وقد شملت المخلصين وسواهم، على صعيد الانتخابات النيابية والبلدية والطلابية وغيرها، بل على صعيد المكانة الشعبية تعميما.. أحد الأسباب يكمن في التصاق الزعامات بالأمريكيين، وهم يصنعون ما يصنعون، واستعداد تلك الزعامات للمضيّ إلى أقصى الدرجات "حوارا وتفاهما" مع الإسرائيليين -وهم يرفضون ويشترطون ويحاصرون ويضربون ويتعجرفون- جنبا إلى جنب مع ضربات مركّزة وموجّهة داخليا، من جانب فريق يأبى أن يكون للوطنيّة استقرار، فهو يستهدف في مصنع "الانفلات الأمني" الذي أقامه، كلّ خطوة حوار وانفتاح تجاه الطرف الفلسطيني "الخصم" داخل "الوطن المشترك" الذي يحتلّه الإسرائيليون بدعم أمريكي!.

ألا ينبغي أن يدرك المخلصون في منظمة فتح الآن بعد كلّ ما مضى، أنّ الولايات المتحدة الأمريكية توشك بالفعل أن تخنق محمود عباس والفريق الذي يواليه من فتح بعناقها الودّي ودعمها "المخلص"، وسيّان هل تريد ذلك فعلا أم لا تريد، فالحصيلة واحدة!..

أيّ عاقل ينتظر لمن تعانقه واشنطون -في عهد بوش الابن ومن قبل ومن بعد- وتتمسّك به، وتمتدحه، وتدعمه، أن يحظى بالثقة على المستوى الشعبي الوطني، لا أن يصبح منبوذا، مرفوضا، مشكوكا فيه؟..

وكيف يمكن لطرف وطني، أيّا كان، الاستناد إلى ما يعلّل به العدوّ الخارجي دعمه لطرف فلسطيني دون الآخر، وحصاره لفريق من شعب فلسطين مع محاولة إغراء الفريق الآخر بالدعم؟..

هل يمكن لأيّ إنسان يبصر ويفكّر ويستحيي قليلا، أن يكذب ويخادع جهارا نهارا، فيفرّق -كما يصنع الساسة الأمريكيون والغربيون فيما يسمّى "العالم الديمقراطي الحرّ"- بين "شرعية" انتخابات رئاسية فلسطينية، و"شرعية" انتخابات نيابية فلسطينية، اللهمّ إلاّ إذا كان منصفا صادقا، فبيّن الفارق الحقيقي، أنّ شروط النزاهة لم تتوافر كما ينبغي للأولى، بشهادة أولئك الذين شهدوا هم أنفسهم لاحقا بتوافرها في الثانية؟..

هل يمكن لعاقل التمييز بين "موقف إنساني" تجاه أهل الضفة بتخفيف الحصار عنهم -إذا صدق هذا الوعد الأمريكي والأوروبي أصلا ولم يكن كسواه- وبين "موقف إنساني" تجاه أهل غزة بتشديد الحصار عليهم، وهذا وعد لا ريب في تحقيقه؟..

بل هل يمكن تصديق أيّ وعد، تجاه أيّ فريق فلسطيني، بمن في ذلك فريق أوسلو نفسه، وقد سبق ما سبق من وعود، وكان أهل أوسلو وحدهم في السلطة، فدّمرت الوعود مع السلطة، قصفا وقتلا واغتيالا واعتقالا، مع التغطية السياسية الأمريكية الدولية؟..

ما الذي يجعل وعود تلك الجهات المعادية نفسها، لفريق أوسلو نفسه، أقرب للتصديق الآن؟..

أم يوجد من ينتظر تنفيذها لاقترانها بمحاولة تجزئة الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967م، وتجزئة شعب فلسطين من أهلها ومن المشرّدين إليها؟..

مرة أخرى إنّها صداقة قاتلة عبر عناق خانق.

ربّما أرادت سياسات الهيمنة الصهيوأمريكية بالفعل أن تخنق عباس والموالين له من فتح، وربّما تصنع ذلك عن غير قصد، أي نتيجة وهمها أنّ خطوة الدعم العلني على هذه الشاكلة المعوجّة، وضمن ممارسات عدوانية أخرى، قد توصل إلى الهدف الحقيقي، وهو القضاء على المقاومة نفسها، ليمكن المضيّ دون "عائق مزعج" على طريق تصفية قضية فلسطين..

ربّما.. ولكن ما الذي يجعل الطرف المستهدف يقدّم أمام أنظار شعبه عربون الصداقة لمن يخنقه ويعادي شعبه؟..

هل يتوهّم حقيقةً وجود من يصدّق مقولة "تخفيف المعاناة" ذريعة لكلّ خطوة مرفوضة شعبيا، بما في ذلك الظهور في خندق واحد مع بوش وأولمرت؟..

هي مقولة تتردّد جيلا بعد جيل بعد جيل، والمعاناة نفسها مستمرّة. وقد مضى من كانوا يستخدمون تلك المقولة ذريعة لكلّ ما يصنعون، وسيمضي سواهم على الطريق نفسه، ويبقى الشعب والأرض، وتبقى المقاومة، ويبقى هدف التحرير.

من كان مخلصا لفتح وليس لشعب فلسطين فقط، ومن كان لديه بقية أمل تجاه رئيس السلطة الفلسطينية ومن معه من منطلق وطني، بل حتى من منطلق المصلحة الذاتية المحضة، فالمفروض أن ينصح لهم أن ينأوا بأنفسهم عن الظهور بمظهر التعويل على الصداقة الامريكية، ناهيك عن الصداقة الصهيوأمريكية.

لم تعد الصداقة الأمريكية ورقة رابحة، بمختلف الموازين الدولية والإقليمية والمحلية، ناهيك عن موازين المبادئ والقيم والمواثيق الدولية، بل أصبحت صداقة مشينة، صداقة قاتلة، فمن يلجأ إليها لا يمارس سياسة واقعية معاصرة، ولا مقاومة تحرير مشروعة، إنّما هو طريق انتحاري بمعنى الكلمة، سياسيا وشخصيا على السواء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق