الأحد، 31 يناير 2010

عندما تجري المواقف والمسارات عابرةً من تحت وفوق أقدامنا


بقلم : آصف قزموز

30/1/2010

. كل المؤشرات والمسارات والحقائق الوارفة الدلائل والدلال على أرضنا، أصبحت تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، وأكثر من أي وقت مضى، أن لسان حال الفلسطينيين مع خيار السلام الإسرائيلي في مجرى الصراع التفاوضي القائم مع الإسرائيليين، هو ان الإسرائيليين قد دأبوا منذ زمن بعيد على تكريس ورسم املاءاتهم ورؤاهم الخاصة وقراراتهم النافذة على الدوام، تاركيننا وراءهم نقبل أو لا نقبل، ننتقد أو لا ننتقد، وكل أشكال الرفض اللفظي بأشكاله مضمونة لنا ان شئنا مادام الأمر لا يدخل في دائرة العنف والمقاومة ولا يمس بمصالحهم ومخططاتهم أو يعيقها.  وبالتالي يمكن للقارئ والسامع والناظر لهذه الصورة العجيبة القديمة الجديدة، أن يلحظ الى أي حد تتدحرج الأمور هبوطاً مدوّياً من ذروة الاتفاق على المصالحة التاريخية في أوسلو وما تلاها، حتى درك الجدار وانحطاط عملية التفاوض الذي ظل يحبو مشلولاً الاّ من الجانب الإسرائيلي الذي ما استمرّ يطلق إملاءاته وشروطه اكثر مما يفاوض، الأمر الذي جعل مجريات الأمور تظل  سائرة على الأرض وفقاً للرؤية والإرادة الإسرائيلية وحدها لا شريك لها بالتمام والكمال إن لم نقل أكثر
  جوهر هذه الحقيقة وهذا التكنيك والتكتيك السياسي في السلوك التفاوضي الإسرائيلي مع الفلسطينيين والعرب عموماً، طالما تجلى وتكثف عملياً في مضامين ودلالات ومكوّنات وروافع ما سمي برؤية نتنياهو المتمحورة على ثلاثة ثوابت لا رابع لها، وهي: تطبيع، فتعاون اقتصادي، فتفاوض. وبالتالي جاء ثابت التفاوض في ذيل وقَفا أولويات  هذه الرؤية وهو فعلاً كذلك. وعندما دعا نتنياهو الى التوجه في العملية التفاوضية باتجاه التركيز على الوضع الاقتصادي والحياة المعيشية للفلسطينيين، لم يكن ينطق عن الهوى ولا هو وحي يوحى، لكنه كان يعني صراحة وضمناً جدية إملاء ما يقول. فقد دعا حينها الى اعتماد توجهات ثلاثة لدفع عملية السلام على حد تعبيره وذلك من خلال ان التعاون مع الدول العربية - أي تطبيع العلاقات معها - هو الذي سيعزز السلام  في المنطقة ويجلب الاستقرار للطرفين أولاً، وفي هذا بيت القصيد الذي ابتغاه نتنياهو ورجاه، ودعم الاقتصاد الفلسطيني ثانياً، وهذا هو بيت الكرم من كيس الغير وتكحيل العين من ذيل صاحبها لحساب بيت قصيده الأول، ثم يأتي إجراء المفاوضات مع الفلسطينيين ثالثاً، وفي هذا ثالثة الأثافي وذر الرماد في العيون وتنويم الاستحقاقات والحقوق الفلسطينية ملء الجفون الى يوم يبعثون، إن استطاع نتنياهو لذلك سبيلا. ومن خلال هذا الاختلال العجيب يكون نتنياهو قد قلب سُلّم الأولويات الملزمة له وجعل الهرم مقلوباً على رأسه والفلسطيني مغلوباً على أمره ، وكان له فعلاً ما أراد قبل الدعوة لهذه الرؤية وما بعدها.  فلو أمعنّا النظر والعقل قليلاً بما يجري حولنا ولنا لوجدنا أن الأمر على الأرض ومنذ سنوات ما هو إلاّ تطبيق فاضح وفعلي لهذا المفهوم الإسرائيلي الأعور ذي العين الواحدة التي لا تريد أن ترى الحق الفلسطيني ولا تُقرّ فيه.  كيف لا، ونحن نرى اليوم جل اهتمام المجتمع الدولي والعرب ونحن الفلسطينيين، كذلك ينصب منشغلاً بشكل أساسي على تحسين الجانب الاقتصادي في حياة الشعب الفلسطيني، حيث ننفق المليارات الداعمة  في هذا المسار، الأمر الذي عبّر بجلاء عن ولوجنا عملياً  من حيث ندري ولا ندري في الرؤية النتنياهوية المُلبرمنة، وبذلك يكون قد كفى نتنياهو وقومه شرور وردود أفعال وضجيج أي إلزام لنا برؤيته.
 لم تكن هذه المفارقة هي السابقة الأولى في إملاء وتمرير السياسات والرؤى الإسرائيلية وإلزامنا والآخرين بها، وذلك من خلال سياسة "قولوا ما تريدون ولن تفعلوا الاّ ما نريد ونرضى"، وبالتالي" ارمِ العصاة قُدّام الراعي بيشيلها". بل إن أي متتبع لوضعنا، يستطيع أن يلحظ هذا الأمر كمنهج وسياسة خالية من الكَياسة  في كل السيناريوهات التي مر بها الشعب الفلسطيني ليس في مرحلة نتنياهو وحسب بل وعبر كل المراحل.
  نعم، لقد أصبح اليوم  واضحاً للأعمى والبصير ولـِمْقَمَّطْ  بالسرير معاني ومرامي استهدافات الرؤية الاقتصادية التي سبق أن طرحها لنا نتنياهو. ذلك لأنه شتان ما بين التفاوض والحوار على مِعَدٍ فارغة وبين التفاوض على مِعَدٍ مليانة ومتخمة إن أمكنهم، وفي هذا طبعاً جوهر ومكنون رؤية نتنياهو الاقتصادية، الداخلة بنا طولاً وعرضاً حقوقاً وأرضاً، مع أننا رفضناها رسمياً جملةً وتفصيلاً.
 ثمة فارق كبير، ما بين السعي عَبر المدخل الاقتصادي لخلق روابط ومصالح اقتصادية تكاملية على أساس حفظ المصالح المتبادلة التي تمكن الشعب الفلسطيني ممثلاً بدولته الحرّة وذات السيادة من الشراكة النفعية مع الاقتصاد الاسرائيلي، كشريك جدي ودوله تؤمن وتلتزم بالسلام مع الدولة الفلسطينية المزمعة، لنجعل من هذه الروابط والمصالح المشتركه أداةً نافذةً للاستقرار، ومانعاً قوياً لانهيار السلام، ومثبّتاً ضامناً له، وبين أن يستخدم نتنياهو شمّاعة الاقتصاد وتحسين الحياة المعيشية  للفلسطينيين والتباكي على أحوالهم  كوسيلة للتعمية وذر الرماد في العيون بهدف الحصول على التطبيع الشامل مع العرب وتمريره دون تثمير وبلا ثمن بسلاسة ويُسر، ومن غير ضجيج ولا التزام بالحقوق وبإقامة دولتنا الحرة المستقلة والخالية من الاحتلال.
 ليس بيننا ثمة من يرفض تحسين حياة الشعب الفلسطيني اقتصادياً إلا في حال كان الأمر يستهدف تحقيق مكاسب نفعية للإسرائيليين وحدهم دون غيرهم على ومن حساب الفلسطينيين ويساعد نتنياهو وليبرمان  على استمرار التهرب من استحقاقات السلام المطلوبة منهم نحو تكريس الأمر الواقع وتشليح الفلسطينيين مما تبقّى لهم من أوراق الضغط العربي الممكن على تل أبيب لإلزامها بالسلام المتوازن الذي يحقق ويحفظ مصالح الأطراف جميعاً. نعم، إن الروابط والمصالح الاقتصادية تُعدّ اليوم الضمانة الجدية ونازع فتيل الصراعات والحروب بين أصحاب المصالح أينما كانوا على سطح هذا الكوكب .لكنها في هذا المقام ومن خلال معرفتنا بحقائق ومكنون مواقف وسياسات المتطرفين  والمتلكّكين أمثال نتنياهو وليبرمان، فإن نتنياهو يريد أن يجعل من رؤيته الخاصة للمصالح الاقتصادية والحالة هذه رشوة أو لهَّاية يُخْمد من خلالها جماح مطالبة الفلسطينيين بحقوقهم، بل تمويت وفرملة هذا الإصرار الفلسطيني المشروع، قبل التطبيع مع العرب الذي يشكل عملياً الورقة اليتيمة التي يمكن استخدامها لصالح القضية الفلسطينية في تحفيز الإسرائيليين وحشرهم للالتزام  بالمتاح من المتوافق عليه دولياً من حقوقنا. وبالتالي يسعى نتنياهو حثيثاً لجعل مسألة الإنعاش الاقتصادي تشكل واجهة تُتَرجم على الأرض، لذر الرماد وخداع البصر بحجب أنظار العالم والمجتمع الدولي عن تراجيديا مشهد احتباس التقدم المفترض على مسار المفاوضات المتعثر. وهو ما يُفسّر حالة الرضى والرضوان الليبرمانية عن مثل هذه الرؤيه النتنياهوية. وفي هذه الحالة سينشغل العالم برؤية كعكة  اليتيم بيد الفلسطينيين مع أن وراء ذات الكعكة تستتر العراقيل والمعوقات وصور التعنت الاسرائيلي الدائم الامتناع عن الاستجابة لاستحقاقات السلام واشتراطات قيام الدولة الفلسطينية بعد زوال الاحتلال، وهي الصورة الحقيقية التي نشهد ترجماتها في بلادنا تسير على الهدى وطول المدى دون ضجيج . واليوم، يمكن القول ان دليل ما قد سلف، يكمن عملياً في أننا نعيش ومنذ صعود نتنياهو بليبرمانه سدة  الحكم حالة من الجمود السياسي والموت السريري على المسار التفاوضي، ولم يعد قائماً على هذا المسار سوى  شعارات ورايات جوفاء فارغة يخطفون من خلالها الأبصار والعالم ، بينما تبدو الصورة بشقها الآخر المتعلق بالدعم والإنعاش الاقتصادي هي المظهر العام والواجهة الرئيسة الأبرز حتى في عمل السلطة الوطنية الفلسطينية والحكومة ونشاطها وبرامجها ومفاعيل حراكها اليومي، وهو الأمر الذي يتقاطع عملياً مع ما دعا إليه نتنياهو ان لم يكن أكثر. وهذا كله يذكرنا بسياسة الإجراءات أحادية الجانب التي دأبت الحكومات الإسرائيلية على انتهاجها غير ذي مرة، وما قام به شارون من انسحاب أحادي الجانب من غزة طبقاً للمصلحة الإسرائيلية وحدها في تلك اللحظة السياسية خير شاهد ودليل. واليوم يجري تطبيق رؤية نتنياهو ومرورها في دمنا وحياتنا برداً و"سلاماً" اقتصاداً وكلاماً. الأمر الذي فسّره جلياً توافق الثنائي ليبرمان-نتنياهو في مسار واحد دون انفعالات أو  زعرنات سياسية داخلية تذكر كالتي تعودناها من المتطرفين أعداء السلام والحرية داخل الحلبة الاسرائيلية الداخلية من جهة، وتركيز الدعم الدولي للسلطة الفلسطينية والجانب الحياتي الاقتصادي اليومي للفلسطينيين دون السياسي والحقوقي من جهة أخرى. فإذا كان هذا هو الاغتصاب الذي لا نستطيع منعه ولا مقاومته، فلماذا لا نحاول الاستمتاع به والإفادة منه على نحو نفعي تمشياً مع المثل الإنجليزي القائل: "إذا لم تستطيعي مقاومة الإغتصاب فحاولي الاستمتاع به"؟!، وبالتالي علينا أن نجد الوسائل والسبل القادرة على تمكيننا من تثمير هذا الدعم والتحسين الاقتصادي للفلسطينيين على حدّ تعبيرهم ، بحيث يوجه ويوظف في خدمة بناء المؤسسات والهياكل اللازمة لنا في معركة قيام الدولة وإنهاء الاحتلال ولو بعد حين. ذلك لأن الترجمات العملية لهذه الرؤية الاقتصادية جارية عملياً على قدم وساق ليس منذ إعلان نتنياهو عن رؤيته وحسب، وإنما كانت الأمور تسير حثيثاً بهذا الاتجاه منذ ما قبل نتنياهو إن لم تقل مع الخطوات الأولى لمشروع السلام الفلسطيني الاسرائيلي ولكن دون إشهار صريح بذلك ، بل إنها الثابت الذي لم يتغير في استراتيجيات السلوك الإسرائيلي مع الفلسطينيين وسياساته المتعمدة تجاه عملية السلام برمّتها. وأكثر من ذلك، فإن في تعيين ليبرمان وزيراً للخارجية في حكومة نتنياهو ما شكّل منذ البداية  عنواناً ومؤشراً فاضحاً على هذا التكتيك الهارب أبداً من السلام ومن المسؤولية القانونية والأدبية أمام  المجتمع الدولي متستراً ومتجملاً بغطاء اقتصادي برّاق نشهد يومياً نتائجه وترجماته على الأرض. تبقى الحقيقة الدامغة وغير القابلة للتصرف هي أنه لا فكاك ولا انفصال ما بين السياسة والاقتصاد، وكل مواقفنا وسياساتنا الفلسطينية يتوجب أن تبنى بهدي هذه الحقيقة وعلى قاعدة عدم إغفال كل ما أسلفناه من مشفوعات الحقائق والترجمات الجارية على الأرض سواء بإرادتنا أو بغيرها.
  خطورة الأمر لم تعد تتعلّق برفضنا للرؤى والإملاءات الإسرائيلية من عدمها وحسب، وإنما تتعلق أكثر بمدى وكيفيات تعاملنا مع هذه الوقائع والرؤى عند رسم سياساتنا وبناء مواقفنا، خصوصاً وأنها غالباً ما  تترجم على الأرض من جانبٍ واحدٍ وتسيّر براحتها تحت أنظارنا ومن فوق وتحت أقدامنا برغم عدم إقرارنا واعترافنا رسمياً به.  ولَعَمْري إن الإستراتيجيات القطاعية وجملة الخطط والبرامج التي اختطتها حكومتنا من وحي وبهدي الرؤية الإستراتيجية العامة للسلطة الوطنية الفلسطينية القائمة على إنهاء الاحتلال وبناء الدولة، الطريق الآمن والمنهج المناسب الذي يؤمن لشعبنا مُدخل صدقٍ وعبوراً سياسياً واقتصادياً ووطنياً آمناً وعاقلاً ومتوازناً، بعيداً عن الإنجرار لشعارات جوفاء ومزايدات كلامية لا يقصد منها إلاّ تحقيق مآرب ومصالح فئوية ضيقة من وعلى حساب المصالح العليا للشعب، وطالما أدخلت جُل الوضع الفلسطيني في متاهة.
 أخيراً دعوني أقل إن عملية السلام والمشروع برمته يعيش حالة جمود، لكن هذا الجمود يُحتّم على الفلسطينيين بالمقابل الاستمرار في الحراك وعدم التوقّف عن نشاطهم وجهودهم المشروعة بكل أشكالها لأن في هذا عنوان حياتنا وبقائنا الأزلي الراسخ على أرضنا، تماماً كالمصارع الذي يتوجب عليه أن يستمر في النشاط لكي يحافظ على لياقته ومقوّمات استمراريته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق